من غطى اجتياحي عامي 1993 وپ1996 الإسرائيليين لجنوبلبنان يدرك، ما ان يصل الى منطقة الدامور اثناء اتجاهه الى الجنوب، ان اجتياح العام 2006 مختلف تماماً عن شقيقيه. جسر واحد ربما من بين عشرات الجسور التي بنيت في السنوات العشر الأخيرة لم يقصف. وهذا الواقع اذا ما أضيف الى حقيقة ان مئات الآلاف من النازحين قرروا بالأمس العودة مرة واحدة الى قراهم في الجنوب ينجم عنه اختناق مروري يكاد يوازي في فداحته يوماً اضافياً من ايام الاجتياح الغابرة والتي لم تنقض بعد بفعل غموض القرار الدولي والرغبات الواضحة بعدم الالتزام به. الجنوبيون قرروا بالأمس العودة مرة واحدة على رغم تدمير كل الجسور المؤدية الى مناطقهم وقراهم. وبدا هذا القرار اقوى من ان تقاومه نداءات تدعوهم الى التمهل بانتظار فتح الطرق والكشف عن ما تبقى من قذائف لم تنفجر. حين تصل السيارة الى منطقة دمر فيها جسر، كانت الطرق الفرعية بديلاً او التفافات تؤدي الى مزيد من الازدحام، وأي اعتراض من شرطي او جندي في الجيش اللبناني كان يواجه بغضب من فقد اماً او عزيزاً وهو في طريقه إليها، او بحماسة الزاحف لملاقاة آخر جندي إسرائيلي منسحب. عائلات وأطفال وسيارات منهكة تراصفت على الطريق بين صيدا وبيروت. ويبدو ان أسابيع التهجير كانت صعبة ومتعبة، فالوجوه مرهقة، والمتجهون الى الجنوب شكلوا خيطاً طويلاً من فاقدي الصبر على الانتظار. مصائر المنازل والأرزاق شبه مجهولة والإسراع بالوصول ربما لن يكون مفيداً، فما ينتظرهم في قراهم سيكون مفجعاً بعد هذه الحرب. هذا بعض ما يمكن مشاهدته في الكثير من الوجوه الصامتة ولكن المستعجلة بين صيدا وبيروت. في صيدا افتعل أنصار"التنظيم الشعبي الناصري"حواجز تهنئة بالپ"انتصار"وراحوا يوزعون الحلوى عند مداخل المدينة متجاوزين مفارقة ان ثمة اكثر من الف قتيل لا يجوز التغاضي عن أحزان أهلهم، ناهيك عن المدمرة منازلهم والمبددة أرزاقهم، ولكن لا بأس ببعض المشاعر الانتصارية على ألا نؤذي احداً بها، كما قال سائق سيارة عابرة. ولكن يبدو ان ثمة لغة أريد لصيدا ان تباشر تسريبها. ففي ساحة النجمة عُلقت لافتة عملاقة لم يوقعها أحد عليها صورتا الرئيس الأميركي جورج بوش والرئيس الفرنسي جاك شيراك وعبارات إدانة للقرار الدولي 1701. انه نوع من الإمساك بالحيز العام في المدينة يوحي بشكل مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار. يدرك من يعرف صيدا هذه الحقيقة. وصيدا التي عُلقت لافتة رفض القرار الدولي عند ساحتها الرئيسة هي مسقط رأس رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الذي رحب بالقرار، ويمكن بهذه الحالة رد النيات الى هذه الحقيقة. لكن مشهد المدينة لا يقتصر على هذه المفارقة، فصيدا انقلبت أوضاعها خلال الشهر الفائت، وبالأمس لم يكن النازحون إليها قرروا التوجه الى مناطقهم بعد فازدحمت بهم المدينة وبدلت لأجلهم الكثير اساليب تصريف عيش اهلها. الأحياء اقرب الى اسواق شعبية والكثير من السلع غير متوافر في المتاجر والمطاعم. وصيدا، خلافاً لبيروت ومناطق النزوح الأخرى، تعرف النازحين إليها جيداً، انها سوقهم ومستشفاهم واداراتهم العامة والخاصة، ولهذا فهي لم تضق بهم. فقد استقبل الصيداويون الكثير الكثير من معارفهم وأقاربهم الجنوبيين في منازلهم او منازل رديفة، ومن فاضت أعدادهم أُرسلوا الى المدارس. شوارع المدينة بدت ثقيلة والعابرون الكثر في الشوارع هم من اولئك الذين لم تعد المنازل تتسع لبقائهم فخرجوا هائمين على وجوههم بلا وجهة ولا مقصد. ويبدو انه على رغم المودة والجيرة فإن شهر النزوح أنهك الصيداويين ايضاً، وتولت الغارات الإسرائيلية في اليومين الأخيرين، على مخيم عين الحلوة المجاور، إكمال المهمة، فخرج بالأمس منهم المئات يسألون عن مدى جدية قرار وقف اطلاق النار، وتوجه آخرون الى ارزاقهم في محيط المدينة يتفقدونها مندهشين من عدم وصول القصف إليها، فما قُصف في صيدا هو أماكن محددة، منها مجمع السيدة الزهراء جنوبالمدينة ومحطة الكهرباء في منطقة الهلالية ومخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، وهو نصيب زهيد قياساً بحجم الاجتياح وبما سبق ان نال المدينة في الاجتياحات الإسرائيلية الغابرة. في هذا الوقت كان العابرون الى الجنوب من النازحين يمرون في المدينة بسياراتهم المحملة بفرش النزوح وحاجياته من دون ان يشكل عبورهم علامة تذكّر بفعل تحول صيدا اصلاً الى مدينة نازحين بعد ان فاقت اعداد هؤلاء عدد سكان المدينة. الطريق من صيدا الى الجنوب تتخللها تلك الجسور الهاوية والمحطمة، ومعادلة الطرق الالتفافية يتضاعف عملها على تلك الطريق، فما ان تخلف صيدا وراءك حتى يستقبلك جسر خائر على الطريق عند الغازية. انها البلدة التي قتل فيها اكثر من خمسة وعشرين شخصاً في غارات اسرائيلية على احيائها. وجوه اهل الغازية لم تُشف بعد مما اصاب البلدة. حيرة وتساؤلات. وفي الوقت الذي تعبر الأوتوستراد خلف البلدة سيارات منتصرين، يبدو الحزن واضحاً على وجوه السكان. منزل احمد وابراهيم خليفة غرب البلدة مدمران، وپ"سنتر صالح التجاري"عند مدخل البلدة دمر بالكامل، وفي منطقة البيدر مبنى آل بدران الذي حصلت فيه المجزرة التي ذهب ضحيتها 14 من اهالي البلدة، إضافة الى مبان في مناطق مختلفة من البلدة. يمكنك ان تشتمّ رائحة النكبة التي اصيب بها اهل الغازية في اكثر من مكان. لا احد يريد ان يتكلم، وكاميرات الصحافيين لا تثير حماسة الشبان على نحو ما تفعل في مناطق اخرى. لكن الغازية هي مفتتح الخراب الذي أصاب الجنوب جراء الحملة والإسرائيلية وليست احدى الذروات على هذا الصعيد. الخسائر البشرية فادحة ولكن الدمار اذا ما قيس بقرى ومناطق اخرى فهو جزئي وليس عاماً على نحو ما اصاب قرى أخرى في الجنوب. والغازية وبفعل قربها من صيدا تمكن مئات من اهلها من العودة اليها فور سريان موعد وقف اطلاق النار، فجلس كثيرون منهم صامتين امام مداخل منازلهم منتظرين قدوم ما تبقى من السكان خارجها. فالسيدة التي وصلت لتوها الى منزلها الذي لم يُصب شرعت تدقق في حاجياتها مندهشة من بقائها سالمة، وذلك الرجل الذي هوى ركام منزل جاره على سيارته الحديثة الطراز راح يقول انه من الممكن ان تكون السيارة غير معطلة ولكن كيف السبيل الى إخراجها من بين كل هذا الركام. ربما شهد جسر الزهراني المدمر في الجنوباللبناني بالأمس الاختناق المروري الأكبر، اذ كان من الصعب على ما يبدو تأمين طرق التفافية حوله، ثم انه يوزع الطرق باتجاه اقضية صور والزهراني والنبطية وبنت جبيل ومرجعيون، والقصف الذي اصاب هذا الجسر الأساسي فاق بقوته ونتائجه ما اصاب الجسور الأخرى. الحصى والركام الناجم عن القصف وصل الى مسافة تفوق الكيلومتر. اذاً الوقت لا يكفي لإكمال الرحلة الى الجنوب، لكن العودة ايضاً لا تخلو من صعوبات، ففي ساعات الظهيرة كان جميع النازحين اختبروا جدية قرار وقف النار وأداروا محركات سياراتهم الخائفة والمتعبة واتجهوا نحو الجنوب. مئات الآلاف على طرق التفافية ومن وراء الجسور المدمرة عبروا بالأمس الى الجنوب. بعضهم منتصر وآخرون صامتون ومتعبون والجميع على عجلة من امرهم، يريدون الوصول الى منازلهم او الى ما تبقى منها. وعلى الطريق بين صيدا وبيروت وقف أهالي البلدات الساحلية، كالدامور والناعمة، ينظرون الى مواطنيهم العابرين من داخل قراهم بعد ان تقطع الأوتوستراد حائرين بما يشعرون.