بعد "حماس" وما تبع عملية خطف الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليت من مضاعفات خطيرة على مستقبل الشعب الفلسطيني، دخل"حزب الله"على خط المغامرة نفسها واسر جنديين اسرائيليين في عملية نوعية، تمت في ظروف بالغة الدقة، مما فتح المنطقة وخصوصاً سورية ولبنانوإيران فضلاً عن فلسطين، على احتمالات بالغة الخطورة قد لا تنتهي بأقل من خسارة لبنان انجاز التحرير الذي تم تحقيقه بكم هائل من العرق والدم اللبنانيين حصراً يوم كان التضامن مع لبنان عزيزاً إلى درجة مريعة. ربما يجدر بنا ان نولي الرد الإسرائيلي المتسع والشامل اهمية استثنائية في ظل التغيرات التي تعصف بهذه المنطقة من العالم. فالأرجح ان قراءة الرد الإسرائيلي العنيف والشامل وتهديد دول الجوار غير ممكنة بمعزل عن تطورات الملف النووي الإيراني. ويرى الإيرانيون، اقله حتى الآن، ان الاعتراف الاميركي بدور اقليمي لإيران في منطقة الخليج هو تنازل لن يكون الأخير في سلسلة التنازلات الاميركية في هذا الملف. بل ان كثيرين من المحللين يذهبون بعيداً في الرأي الذي يقول ان الولاياتالمتحدة خسرت معركتها في المنطقة ضد الإرهاب، وبات المستنقع العراقي عبئاً لا يطاق على الإدارة الاميركية. هذه كلها من الأسباب والمقدمات الوجيهة التي تجعل من التفكير في التوازنات الحالية او المرشحة للرسو في المنطقة من الامور الملحة والضرورية. ويجدر بنا ان نتذكر ان دخول الولاياتالمتحدة على خط الزلزال الشرق اوسطي في صورة مباشرة ترافق فعلياً مع حدثين بالغي الأهمية. ففي مطلع التسعينات واثناء حرب"عاصفة الصحراء"سعت الإدارة الاميركية سعياً حثيثاً للحصول على دعم عربي معنوي وملموس لخطتها الرامية إلى تحرير الكويت، وكان من نتائج هذا السعي ان ضبطت الإدارة الاميركية الدولة العبرية في حدود لا تستطيع معها تجاوز مصالحها، مما جعل الدولة العبرية عاجزة عن الرد المباشر على قصف صدام حسين مدن وقرى اسرائيل بصواريخ السكود، للمرة الأولى في تاريخ الدولة العبرية. وما ان انتهت الأعمال الحربية في"عاصفة الصحراء"، حتى بادر جورج بوش الأب إلى جمع العرب والإسرائيليين على طاولة مدريد. يومها لم يكن العرب من يمانعون في عقد مثل هذا المؤتمر، إذ مارست الولاياتالمتحدة ضغوطاً كبيرة على اسحق شامير رئيس وزراء اسرائيل في ذلك الحين، إلى حد قيل معه يومها ان شامير اتى إلى مدريد مخفوراً، وعلى غير رغبة اسرائيلية طبعاً. من جهة أخرى ترافق هذا الضغط الأميركي على الدولة العبرية مع توجه حاسم في ما يخص الدول العربية والإسلامية يقضي بتقليص الأدوار في المنطقة العربية وايران، التي كانت محاصرة بطبيعة الحال. مياه كثيرة جرت منذ ذلك الحين، ادت في ما ادت إليه، إلى ولادة محور إيران - سورية - حزب الله - حماس، والذي يرى المراقبون ان ايران تشكل نقطة ارتكازه الأساسية، فيما تقيم سورية تحالفاً مع ايران الساعية إلى دور اقليمي في الخليج مترافقاً مع سعي حاسم للحصول على تكنولوجيا نووية. ومعلوم ان الحركات القريبة من ايران، من"حماس"إلى"حزب الله"وصولاً إلى سورية، تقع كلها في مجال اسرائيل الحيوي، مما يفسر إلى حد بعيد الحماسة الإسرائيلية في منع ايران من تحقيق مآربها. والحال فإن الدولة العبرية تجهد لضبط اطراف هذا المحور تحت ضغط آلتها العسكرية، وشل آلياته وحرية حركته المحدودة. والأرجح ان الرد الإسرائيلي العنيف على خطف الجندي غلعاد شاليت، والرد المتسع والشامل على الصواريخ المجهولة المصدر من جنوبلبنان في مطلع حزيران يونيو الماضي يأتيان في هذا السياق. فلن تبقى اسرائيل التي انضبطت تحت مظلة المشروع الاميركي طوال عقد التسعينات وحتى اليوم، وهي الدولة الاقوى عسكرياً في المنطقة، متفرجة على تقاسم النفوذ في المنطقة، في وقت ترى انها تملك الإمكانات والمصالح والتحالفات اللازمة والكافية لتكون الدولة الاقليمية الأكبر والأقوى والتي يحسب الجميع حسابها. تأسيساً على ما سبق يبدو التواطؤ الدولي مع الهجوم الإسرائيلي على لبنان والذي ينظر بعين التفهم لرد الفعل الإسرائيلي المتسع والشامل، رسالة واضحة إلى جهتين على الاقل: الاولى إيران ومفادها ان عناصر المحور الذي يفترض به مواجهة المشروع الأميركي في المنطقة سيقع حكماً تحت ضغط الآلة العسكرية الإسرائيلية المنفلتة من عقالها، مما يهدد امان واستقرار لبنان وسورية تهديداً مباشراً، فضلاً عن حجم الضغط الهائل الذي سيواجه به لبنانوفلسطين وسورية في المقبل من الأيام. والثانية إلى المنطقة العربية عموماً بافتراض ان الهجوم الإسرائيلي على لبنان الذي يهدف إلى تغيير قواعد اللعبة وتطبيق القرار 1559 بالقوة هو اعتراف دولي وعالمي بوكالة اسرائيل عن القرارات الدولية التي تخص المنطقة. اسرائيل تعود إلى حلبة الشرق الأوسط لاعباً اساسياً. ذلك يعني ان الكثير من المسلمات والبديهيات تحتاج اليوم إلى إعادة نظر، وفي مقدمها سبل المواجهة مع جنون اسرائيلي منفلت من كل عقال. * كاتب لبناني