"استيقظت على أصوات الجيران يقولون إن الإسرائيليين يقصفون الجسور ومنها القاسمية. استعدت ذكريات عام 1978 وليس اجتياح عام 1982. يومها تحولت بلدتي العباسية إلى ملعب ترابي وقتل فيها نحو 120 شخصاً. ذهبت إلى عملي في صور، لأرى زملائي الإيطاليين في حال ذهول تامة، وبخاصة شيرو، فهو منذ أسبوع استقبل ولديه، اللذين جاءا من إيطاليا في رحلة سياحية. سألني شيرو هل ستتأزم الأوضاع؟ فأجبت"انها طريقتنا في استقبال الصيف". وأردفت أظن ان المطار سيكون الهدف التالي لهم. اتصلت بي زوجتي السابقة من عملها في المركز الثقافي الفرنسي تقول لي إنهم سيقفلون المركز وستعود هي إلى المنزل. وأضافت"قالوا لنا أن الأوضاع خطيرة يجب أخذ الحيطة والحذر". أنهيت نهاري الأول أمام شاشة التلفزيون، وبدأ نهاري الثاني بالتفكير بالذهاب إلى بيروت إذ أن منزلي في الأشرفية آمن أكثر. ولكن الأخبار تشير الى أن الذهاب إلى بيروت مجازفة أكبر من البقاء في صور. بدأ الخوف وأصبح أقوى مع وجود أولادي. إذن نلغي فكرة الذهاب إلى بيروت أو نؤجلها إلى الغد. لم أنم في تلك الليلة فطائرات الهليكوبتر تحوم منخفضة جداً ومنزلي على مقربة من الشاطئ. شعرت بأن من الممكن أن يحدث إنزال عسكري إسرائيلي في أي لحظة. الخوف يدفعك للقيام بمحاولات بائسة. وزعت سكاكين المطبخ في كل زوايا المنزل للدفاع عن عائلتي في حال تفاجأت بأحد الجنود الإسرائيليين يدخل المنزل، وانتظرت الفجر حتى تمكنت من النوم قليلاًً وتركت للمقاومين مهمة الدفاع عن الوطن والعائلات عند شروق الشمس. غادر كل زملائي الإيطاليين في الليلة الفائتة، اتصلت بمديري وطلبت منه السماح لي بالانتقال إلى منزله في الحارة المسيحية القديمة في صور. ودعنا الجيران وحملنا بعض أمتعتنا وانتقلنا إلى منزلنا الجديد. بدأت نهاري بهلع فكنت أركض لتأمين مواد غذائية وماء. قصفت مدينة صور، واتى مهجرون من أقاربنا ليلتجئوا عندنا. فأصبح في المنزل نحو 20 شخصاً، وذهب جهدي الصباحي في تخزين المواد الغذائية بلمح البصر، فكان علي أن أقوم بجولة جديدة. في اليوم الرابع قرر أقاربنا الذهاب إلى بيروت، وقررنا نحن البقاء. يبكي أولادي."ليس خوفا"،ً قالت لي ابنتي يارا 12 سنة بل لأنها تشعر بضغط نفسي. هربت إلى المكتب ليس للعمل ولكن للجلوس هناك. تحول مكتبنا الى مركز لتوزيع المساعدات. صرت أستحم في المكتب لتوفير الماء في المنزل. التقيت بصديقي الرسام محمد شمس الدين صدفةً. كان هرب من بلدته البازورية بسبب القصف، وأصيب منزله الذي عمل على بنائه مدة أربع سنوات. تسكعنا محمد وأنا في الحارات القديمة وذهبنا إلى صديقه النحات سعدالله لبس الذي يعيش هناك. عدت إلى المنزل فأتصل بي صديق فرنسي يطلب مني أن أحاول جلب جواز سفره من منزله الملتصق بالمبنى الذي تعرض للقصف ليلة أمس. قصدت ذلك المبنى، ومن دون أن أدري مررت بالقرب من جثة أحد الضحايا. ولكني لم أجد جواز السفر. ما ان عدت إلى منزلي المؤقت حتى جاءني اتصال من جيراني اخبروني فيه بأن والدي 96 سنة هرب من البلدة وجاء والتجأ الى منزلي وهو رفض في البداية النزوح مع باقي أفراد العائلة إلى الشوف. ابن الستة والتسعين سنة يرفض أن يترك منزله. وصل باكياً خوفاً جراء تدمير منزلين بالقرب من منزله. ذهبت وجئت به إلى منفانا. يوم آخر يمر، أيقظني أبي في الساعة الرابعة فجراً، وسألني متى نستطيع أن نعود إلى المنزل في العباسية ليطمئن إن كان بقي صامداً. حاولت أن أقنعه بأننا لن نستطيع الذهاب، فالطرق خطيرة جداً. قررنا الذهاب إلى بيروت. وصلنا إلى منطقة الشبريحة، سلكنا طريقاً بين بساتين الليمون. وفجأة، توقف السير وبدأ القصف, والمروحيات تحوم فوقنا. ماذا نفعل؟ هل ننتظر أم نعود أدراجنا؟ تقرر ليا ابنتي 5 سنوات انها تريد العودة، فنأخذ برأيها، وكانت محاولة هرب فاشلة. تسكعت مجدداً في المدينة القديمة، أشرب القهوة على ميناء الصيادين مع محمد وأولادي والصيادين الذين أعمل معهم, التقي جيراني الجدد الذين اخبروني بقرارهم بالهروب نهار غد."سأذهب معكم"، قلت لهم. اليوم السادس: بدأنا التحضير لعملية الهرب الكبيرة. استيقظنا باكراً وشاهدنا باخرة لإجلاء الفرنسيين واقفة مقابل شرفة المنزل المطلة على البحر. والدي أصر على المرور إلى المنزل في العباسية، حاولت إقناعه بالعدول عن رأيه من دون جدوى. انطلقت مجدداً من دون بقية جيراني كونهم سيسلكون طريقاً مختلفاً. وصلنا إلى البلدة. كانت خالية تماماً، فقط صوت السيارة وهدير المروحيات وطائرات الاستطلاع. وصلنا إلى منزلنا، لنجد منازل جيراننا وأقاربنا مدمرة في شكل كامل ومرعب. منزل أهلي مصدع. قرر أبي فجأة البقاء فيه. حاولت إقناعه من دون جدوى. بدأ أفراد عائلتي يبكون في السيارة من مشهد الدمار وصوت المروحيات القريب جداً. قررت ترك والدي بعدما فشلت في إقناعه وانطلقنا الى بيروت".