السفر من حلب الى الحدود اللبنانية-السورية، رحلة استغرقت اكثر من تسع ساعات، قطعتها سيدة لبنانية مع عائلتها السورية تحت جنح الظلام من دون ان يغمض لها ولأولادها الأربعة جفن، تاركين خلفهم شقيقة وشقيقاً متأهلَيْن غير قادرين على الهروب مثلهم من ثاني اكبر المدن السورية وإحدى أقدم المدن المأهولة عبر التاريخ، والتي تستعد لمواجهة مصير يتخوف العالم بأسره من ان يكون مذبحة. السيدة التي لم تلتقط أنفاسها بعد، حين وصلت منزلَ شقيقها في برالياس في البقاع الاوسط، بناء على إلحاحه عليها بضرورة المغادرة والاتجاه الى لبنان بدلاً من التوجه إلى أي منطقة أخرى داخل سورية، أو إلى الأراضي التركية الأقرب الى حلب، لا تزال تعيش خوفاً قالت إنه ناتج من «القصف اليومي الذي كنا نسمعه في محيط البناية التي نسكن فيها». لكنه خوف أقرب الى الصدمة التي تُفقد صاحبَها توازناً اختل مع اختلال الملاذ الآمن والمحيط الموثوق به. وتروي السيدة الأرملة، التي هربت في «بولمان» الواحدةَ بعد منتصف الليل ووصلت العاشرة من صباح اليوم التالي، الى جانب العشرات من الهاربين مثلها الى لبنان، أنها عبرت نقاطاً امنية سورية كثيرة، وكان الضابط المسؤول عن كل واحد منها يكتفي بسؤال السائق عن وجهته ولا يعرقل سيره، وصولاً الى مشارف دمشق، التي قالت «إن الحافلة مرت سريعاً بموازاتها ولم تدخلها، وتابعت سيرها الى الحدود اللبنانية، حيث أنجزنا الإجراءات المعتادة من دون عراقيل». تتحفظ السيدة، التي رفضت الكشف عن اسمها، شأنها شأن كل النازحين الجدد الى لبنان، عن الحديث بداية عما عاشته وعائلتها في حلب في الأيام الاخيرة، وتكتفي بذكر العموميات، لتعود وتسعفها ابنتها بالحديث عن القصف اليومي والقتلى الذين «نسمع أنهم سقطوا ولا نراهم، لأننا لا نجرؤ على الخروج من منازلنا»، وعن النقص الحاد في مادة الغاز، وعن الإنذارات التي توجَّه الى المناطق الشعبية في حلب لإخلائها، وتعتقد ان الدور سيصل الى الحي الذي تعيش فيه ويصنَّف بأنه لذوي الدخل المتوسط. ربما تكون خبرة الحروب التي عاشتها الأرملة السورية في لبنان قبل انتقالها في الثمانينات الى حلب وزواجها هناك، أسعفتها في استباق النار الحارقة، بحمل ما يجب حمله في مثل هذه الحالات من التهجير، لكن افتقار نساء سورية ورجالها الى معايشة الحروب، جعل بعضهم يهربون حفاة من بلدهم الى لبنان. تقول سحر، التي لم تتوقف عن البكاء منذ اسابيع عدة يوم هربت مع عائلتها من مدينة حمص الى بر الياس ايضاً، إنها خرجت حافية القدمين ونسيت أدوية طفلها الذي يعاني النقص في تخضب الدم. لا تتحفظ سحر في رواية هول ما عايشته في المدينة التي كانت «تسقط عليها القذائف على مدار الساعة من دون توقف»، ما زرع خوفاً في ولدها عبدالرحمن (8 سنوات) لا يزول. تشير سحر الى فرشة إسفنج في زاوية الغرفة التي تقطنها العائلة قدَّمَها احد ابناء المنطقة مجاناً، وتقول: «أرأيت كيف ينام؟». لم نتمكن بدايةً من تمييز وجود طفل في المكان، فقط فرشتا إسفنج إحداهما فوق الأخرى، وفوقهما مخدة، لكن ثمة قدماً صغيرة تتدلى من بين الفرشتين، انها قدم عبدالرحمن، الذي تقول امه: «هو هكذا، يرفض ان ينام إلا بهذه الطريقة، يخاف إن سمع باباً يُطْبِق، او طنجرة تقع على الارض، فينسحب الى ما بين الفرشتين ويختبئ ظناً أنه صاروخ»! «لماذا تهربون؟» سحر الصائمة تذكر كيف أمضت شهر رمضان السابق في الطبقة السفلية من المبنى الذي تقطنه في حمص، «قصفوا كل شيء، دمروا المساجد والمدارس، وكنا ننتقل من حي إلى آخر لنتجنب الموت، الذي بقي يلاحقنا، وكان الجنود يسألوننا عن سبب هروبنا: «ما في شي»، وحين حاولت مرة العودة الى المنزل لأخذ بعض الثياب، منعني جنود الجيش النظامي وقال لي الضابط: «ما الذي يثبت لنا أنك صاحبة المنزل ولست سارقة؟ أجبته بأن معي ورقة «طابو» (سند ملكية)، فسمح لي، لكن البناية كانت سويت بالأرض. حاولت سحب ألبسة من بين الركام لكنها كانت ممزقة». وتضيف: «الاعتقالات عشوائية، يكسرون الأبواب ويقتحمون المنازل ويأخذون الشباب لمجرد ان اشكالهم لم تعجبهم، اخذوا زوجي، واضطررت لدفع مئة الف ليرة لإخلاء سبيله، وأخذوا زوج جارتي وطلبوا 275 ألف ليرة لإخلائه. الناس في السجون يُحشرون حشراً ولا مكان للجلوس، بل يبقون واقفين». وتضيف: «حيث يكون الثوار يحصل التدمير الشامل، يأتون إلى الأحياء ومعهم الفيول ويشعلون النار في كل شيء». تتمنى سحر العودة الى بلادها «اليوم قبل الغد»، وتقول إنها خافت في البداية من تسجيل اسمها كلاجئة، خوفاً من ان يؤنبها النظام السوري «لأنك فضحتينا». وتقول سحر عن المساعدات التي تصل الى العائلات في المكان، إنها «فاصولياء لا تستوي عند الطبخ، ورز لا يصلح للطهو»، وهي تتكل على ولديها، اللذين بدآ يعملان في توضيب المزروعات، «ولكن الى متى نستطيع الصمود هكذا؟»... تبكي وتنتظر. وتتحدث جارتها، المنهمكة في «تشميس» عصارة البندورة في وعاء بلاستيكي وتلوِّح بيدها لإبعاد الذباب الذي يحوم حول المكان بكثافة، عن أموال تُدفع لضباط الامانة السورية للخروج الى لبنان، وتشير الى انه «ممنوع على العائلة الخروج دفعة واحدة، وخصوصاً الأولاد، ما اضطر أخي مثلاً الى دفع 25 ألف ليرة سورية كي يتمكن من إخراج أولاده معه قبل ثلاثة ايام، وهو اضطر وعائلته الى مغادرة أحد أحياء دمشق من دون أي متاع، بسبب الاشتباكات بين الجيش والثوار». روايات دمشقية تاريخ 18 و19 الجاري مفصلي بين الحياة والموت بالنسبة الى النازحين من ريف دمشق وحي الست زينب الى بلدة المرج في البقاع الغربي، وتحديداً الى متوسطة المرج الرسمية. بضعة رجال جلسوا على كراسٍ خشبية في ملعب المدرسة ينظرون الى الأفق بعيون متعبة ووجوه حزينة وأجساد شَلت حركتَها شدةُ الحر والصوم ووطأة المصيبة، فيما جلست النساء القرفصاء في أروقة المدرسة يراقبن الاطفال يلهون بأوعية بلاستيكية. الغرف التي أخليت في المدرسة لاستضافة النازحين قليلة نسبة الى طالبي المسكن. وحالياً تشغل هذه الغرف 16 عائلة، وهي المدرسة الوحيدة التي سمحت الدولة اللبنانية بفتحها امام النازحين الى البقاع الغربي، مثلما سمحت بفتح مدرسة واحدة في مجدل عنجر امام النازحين إلى البقاع الاوسط، ما ترك عشرات العائلات من دون مأوى، حتى ان الشقق المعدة للإيجار لم تعد متوافرة، بسبب شدة الطلب عليها، والبعض قصد قرى وبلدات في اقصى البقاع الغربي، ومن لم تستضفه عائلة او اقارب له في لبنان قصد بيروت، ولم يتمكن من استئجار غرفة واحدة فيها، نظراً الى ارتفاع الإيجارات. وقال أحد اللبنانيين الذي استضاف عائلة سورية من محيط اليرموك في دمشق بقيت على قارعة الطريق عند معبر المصنع الحدودي نهار 18 الجاري، إن العائلة «فضلت قبل يومين العودة الى دمشق، لكنها ندمت على خطوتها، لأن القصف شديد، ولا طاقة لأفرادها على التحمل، كما اخبرونا من خلال الاتصالات الهاتفية حين تتوافر، والآن نحن قلقون عليهم». سيارة «مرسيدس» دخلت الملعب وترجل منها «الشيخ»، كما يسميه الرجال الجالسون، وقالوا لفتاة محجبة حضرت لتوها للسؤال عنه: «هذا من يعمل على تدبير مأوى لعائلتك»، وقبل ان ترافقه الى المكان الذي وجده، تحدث بشير الجراح، الذي عرّف عن نفسه بأنه مسؤول عن مركز النازحين في المرج فقال: «ان الدولة مقصرة جداً في حق الناس»، مشيراً الى «دخول 30 الف نازح خلال اسبوع واحد الى لبنان، الميسورون منهم قصدوا بيروت او الجبل، وبعضهم كان استأجر منازل قبل فترة»، وتحدث «عن 69 عائلة نازحة الى المرج، والهيئات الدولية تأتي لإحصاء النازحين ولا تقدم مساعدات». لا يشكو الرجال من واقع الحال الذي يعيشونه، لكنهم يتحدثون بالتفصيل عما عايشوه في «ريف دمشق»، قال بعضهم من حي الست زينب-حارة علي الوحش: «فجر الاربعاء في 18 الجاري، سمعنا تكبيراً في المساجد، وهي بلغة الثوار «الدعوة الى الجهاد»، وجاء من يدق أبوابنا ويقول «إما أن تكونوا معنا او تغادروا»، ولا نعرف ما اذا كانوا من الثوار او من التابعين للنظام. كانوا بلباس مدني، ولم نرد عليهم، وفي الخامسة بعد الظهر بدأ اطلاق النار وقصْفُ الدبابات بشكل عشوائي، وكان الناس في الشوارع، فأصيب عدد من الاطفال والكبار، واستخدم الجيش الحر مضادات الطائرات، واستمر الاشتباك ساعتين او ثلاثة، واستشهد الرقيب في الجيش الحر ماهر الحمر، وقررنا تشييعه بعد صلاة المغرب، ولدى اقترابنا من المدافن سمعنا هدير طائرة تحوم فوقنا وكنا نحو 1200 شخص، وكنا نهتف ضد النظام، وسقط أول صاروخ فتقطعت اجساد كثر من المشيعين وتحولت اشلاء او احترقت، ونجا مَن هرب إلى الأزقة، وسقط صاروخ ثان وثالث، ولما انتهى القصف اخذنا الجثث الى المساجد والجرحى الى منازل ودعونا عبر مكبرات الصوت: «من يعرف الدكترة فليأت لمساعدتنا»، ويضيفون: «بعض الجرحى كان ينجو وآخرون يموتون متأثرين بإصاباتهم، فتحنا مقبرة جماعية بعدما أحصينا جثث 106 شهداء، لكن كثراً شَوّهت القذائف أجسادهم ودفناهم كمجهولين، وهربنا الى لبنان، لانه المكان الأقرب إلينا جغرافياً». وتحدث شاب عن تواصل مستمر عبر ال «فايس بوك» مع من بقي في الحي من الشبان، ونقل عنهم أن منازل دمرت على رؤوس أصحابها، وأكد ان هؤلاء «لم يعودوا يهابون رقابة النظام على الإنترنت». وواصل حديثه عن «تسليم النظام الحواجز الامنية لضباط من الطائفة العلوية»، كما تحدث عن إعدامات ميدانية للرجال واعتقالات، وعن جنود غير سوريين يجولون في الشوارع. تشتت العائلات «ام عبدالله»، التي تفرغت في الغرفة التي تقيم فيها مع اخيها وأولادها لصباغ شعرها، قالت إنها هربت من حي الميدان الى أحياء اخرى بسبب القصف، «كنا عالقين بين نيران الجيش النظامي ونيران الجيش الحر، لكن القصف كان يلاحقنا أينما هربنا، لذلك قررنا ترك سورية بعدما جاء ابن شقيقتي من الخارج وطلب الينا ان نغادر معه الى لبنان لأن الوضع لا يطاق». تحدثت «ام عبدالله» عن حالات تشتت لعائلات بأكملها وأخرى تمكنت من لمّ شملها، وشكت من صعوبة «إخراج الأولاد ممن لا يملكون إخراجات قيد بسبب إغلاق مكاتب البلديات ودوائر النفوس». التقرير الذي تصدره «مفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين» اسبوعياً عن أوضاع النازحين السوريين، أورد أخيراً تقديرات أولية تفيد ب «أن معظم النازحين الجدد لا يحتاجون حالياً إلى مساعدات إنسانية، لأنهم ينتمون إلى الطبقتين الوسطى والعليا»، لكنها توقعت ان يؤدي طول النزوح الى افتقار العائلات المتوسطة وتأثّر الاغنياء، وتحدثت عن ضرورة «وضع خطط للطوارئ لسائر الحالات والسيناريوهات المحتملة من أجل تلبية الاحتياجات المحتملة لحالات النزوح المستقبلية». هواجس هيئات الإغاثة لا تشبه هواجس النازحين، وان كان بعضها يتكامل مع بعض. يسأل النازحون عن مصير اطفالهم وتعليمهم، ويخافون أتباع النظام الذين يلاحقونهم الى اماكن النزوح، ويخشون المرض، لأنهم بلا غطاء طبي، ويقلقهم نزق مَن يستضيفونهم، لإمكان أن يطالبوهم في أي لحظة بإخلاء الأمكنة، ويبكون منازل سُوِّيت بالأرض، وتحاصرهم البطالة، وكثر فضلوا في اماكن النزوح النومَ على اليقظة، حشروا وجوههم في الوسادات في استراحةٍ من ظلم لا قدرة لهم على فهم مبرراته، تماماً كما حشر الطفل عبدالرحمن نفسه بين فرشتين هرباً من خوف لا طاقة له على احتماله.