ماذا يرى الداخل الى معرض ادوارد هوبر الاستعادي الأخير في لندن؟ أبناء صيف 2004 ليسوا غرباء عن عالم هوبر. لا يكفّ نهر الوقت عن جريان. من قبل هيراقليطس نحيا في الموقت. لكننا مع ذلك نبقى - مثل زينون الإيلي - جامدين، عالقين في حركة دائرية، وليست تماماً دائرية. كيف يكون هذا ممكناً؟ كيف نحيا في الموقت، ونبقى على حالنا؟ وإذا كان العالم يتغير بين يومٍ ويوم، بين سنة وسنة، وإذا كنا نحن أيضاً نتغير مع هذا العالم ها هي التجاعيد تظهر على يدك وأنت تحمل هذه الصحيفة، فكيف يحفظ الإنسان النوع البشري سماته الثابتة؟ سنة 1872 أخبر هامبتي دامبتي فتاة انكليزية تدعى أليس انه لا يتذكر الوجوه عموماً، لأن وجوه الناس تتشابه: عينان وأذنان وأنف وفم. هذا وجه الإنسان. فكيف يُميز بين رجلين؟ ماذا يخبرنا هامبتي دامبتي الذي يشبه البيضة ببدانته وقصر قامته؟ يخبرنا البسيط، البسيط الذي تراه العين الصافية. وماذا يكون البسيط؟ البسيط هو مشهد العالم. ما نراه أمامنا الآن، ولكن أيضاً ما نذكر أننا رأيناه: هذا بالضبط ما يرسمه ادوارد هوبر. علينا أن نتخيل رجلاً يحبّ عينيه. ليس هذا صعباً. رجل ينظر الى العالم في كل لحظة كأنه ينظر الى العالم للمرة الأولD في حياته: يحفظ كل ما يراه، ثم يرسم. يعبر بنسلفانيا في سيارته، أو يسافر الى المكسيك في قطار، وبينما المناظر تتوالى وراء الزجاج يعرف ماذا يريد: يريد أن يرسم كل هذا. هذا يحدث طوال الوقت. يكون قاعداً في كافتيريا مملوءة بشعاع الشمس فيرى امرأة قاعدة في الزاوية ويتخيل حياتها كاملة. يكفي أن ينظر الى ملابسها، الى قبعتها، الى القفاز في يدها اليمنى، وفردة القفاز الأخرى مطروحة على الطاولة، جنب كوب الشاي، واليد اليسرى عارية، بيضاء كالشمع، يكفي أن يرى هذه التفاصيل البسيطة ليتخيل وحدة هذه المرأة. هل المرأة وحيدة حقاً؟ لعلها ليست كذلك. لكنها في هذه اللحظة بالذات - بينما عين هوبر تقع عليها كشعاع الشمس وتنير عنقها بلون أحمر - في هذه اللحظة بالذات هذه المرأة وحيدة. يرسم المشهد أكثر من مرة: "أوتومات" 1927، و"أشعة شمس في كافتيريا" 1958. بينما ننظر الى لوحة رُسمت في نيويورك قبل خمسين عاماً، نحن هناك: نحن مع هوبر في الكافتيريا المملوءة بشعاع الشمس، ننظر الى المرأة تشرب شاياً. هل هذا واقعي؟ أم خيالي؟ ولوحة هوبر أهي واقعية أم خيالية؟ طريق ومحطة... غابة وبيت العزلة ليست تراجيدية. انها ظرف بشري. في أي لحظة قد يكون الكائن وحيداً. هذا ليس شرط حزن أبداً. هذه حقيقة بسيطة. وهي، الى ذلك، حقيقة تصنع عوالم خيالية. أحبّ هوبر أدب أميركا القرن التاسع عشر. قرأ هوثورن وملفل وويتمان طويلاً، وكرّر قراءة كل كتاب أحبه. لكنه أكثر من الأدب أحبّ ما يُرى ليس بالخيال فقط، ولكن بالبصر أيضاً. هوبر كان يستطيع أن يكتب روايات. كل لوحة من لوحاته تطلق قصة في مخيلة من يراها. ننظر الى دربٍ تعبر بمحاذاة غابة، والى رجل عند محطة وقود، والى غرفة صغيرة مُنارة بضوء الكهرباء، فنتخيل حياة الرجل، ونتخيل سيارات تعبر الطريق، ومسافرين في السيارات، وحيوات كاملة مبددة على دروب أميركا. هذه بلاد شاسعة، بسهول وغابات وجبال ووديان، تقطعها الدروب وسكك الحديد ويصفر القطار بين هضابها. أميركا النصف الأول من القرن العشرين تحمل في باطنها أميركا اخرى أقدم. سنة 1925 رسم هوبر عمارة عند سكة حديد. رسم الشرفات مغمورة بنور الشمس ومطلّة على سكة الحديد. من يرفع شرفة في مواجهة القطارات الهادرة؟ طراز العمارة القديم يخبرنا انها هنا منذ بداية القرن التاسع عشر. هذه العمارة وُجدت قبل سكة الحديد إذاً! لم تكن شرفاتها تطلّ على قطارات في ذلك الزمن البعيد: كانت تطلّ على سهول وقطعان ماشية. العمارة نوافذها موصدة الآن. لكن نصف النوافذ ستائره مرفوعة. البعض ترك العمارة ذات الطبقات الثلاث، والبعض بقي فيها. كيف حياتهم الآن؟ من هم؟ هيتشكوك نظر الى هذه اللوحة فتذكر قصة قصيرة كتبها وليام فوكنر وألَّف فيلماً كاملاً في دماغه. في لوحة أخرى عنوانها "عزلة" 1944 نرى بيتاً أبيض عند حافة طريق تمتد الى عتمة الأفق والغابات. البيت البعيد عن الطريق مسافة أمتار، يبدو غارقاً في البرية. لا طريق تربط مدخله بالطريق الطويلة الذاهبة الى آخر العالم. هذه - مثل معظم أعمال هوبر - ليست لوحة صغيرة. عرضها يجاوز المتر، والواقف في مواجهة لوحة واسعة كهذه اللوحة يخاف أن تمتصه اللوحة الى أعماقها. فيضيع هناك، في الغابة. بهو فندق في لوحة أخرى نحن في بهو فندق. البيت الدائم لمعظم لوحات هوبر هو "متحف ويتني" في مانهاتن. هناك امرأة تقرأ. أرض البهو يغطيها موكيت أبيض بخط أخضر عريض. الأبيض ناصع يبهر العين. ألوان هوبر ساطعة، صاعقة. فواكه سيزان ومانيه تغوي الناظر بمدّ اليد والتقاط حبات الكرز الحمراء من الإناء. اللون يصنع هذا. في العربية نقول "رسّام". لكن بالانكليزية نقول painter. وكذلك بالفرنسية. كلمة تعني المُلون أو الدّهان. أبيض الموكيت في لوحة هوبر يكرر الأبيض في زهور مانيه. أبيض كالثلج، كما نقرأ في العهد القديم، أو كالحليب، بحسب الأخوين غريم. أبيض كالعظم هوثورن. وأبيض كالدبّ القطبي ملفل. المرأة غارقة في القراءة، فلا ترى الزوجين العجوزين في الجانب الآخر، ولا ترى اللوحة فوق الكنبتين. ساقاها ممدوتان، شعرها أشقر ذهب، ثوبها أزرق، وتبدو مرتاحة. الرجل الواقف بمعطف مطروح على ذراعه اليمنى قد يكون هوبر. المرأة التي تنظر اليه قد تكون زوجته. أين يذهبان الآن؟ مات هوبر في صيف 1967. عاشت زوجته تسعة شهور بعده ثم ماتت. نوافذ وأبواب يصعب أن نعثر على لوحة لهوبر لا تحوي نافذة أو باباً. حين رسم نفسه رسم وراء ظهره باباً. هكذا رأى هوبر نفسه في البورتريه الذاتي: رجلاً لا يوجد بلا باب. هذه الحاجة دائماً الى باب أو نافذة. لكي يرى منظر العالم. أميركا الزائلة كان يذهب الى المنارات المهددة بالزوال، فيرسمها. الزمن يتبدل، ومع انه ولد في القرن التاسع عشر، قرن السفن البخارية والمنارات العالية، فقد وجد نفسه يحيا القسم الأكبر من عمره في القرن العشرين. يرسم المنارات غارقة في نور الشمس ويرسم بيوتاً مجاورة. برج المنارة يرتفع الى السماء، نصفه مغطى بالظل،والوقت يبدو - للحظة - جامداً. لن تسقط المنارة بعد الآن. والجهد المضني الذي بذله أسلاف ستيفنسون لن يذهب هدراً. منارات هوبر لا ترتفع وراء الأطلسي فقط. ترتفع فوق أي ساحل بحري في هذا العالم. وترتفع في رؤوسنا. هل تزول المنارات حين تسقط، حين تُجرف ليظهر في مكانها مجمع سكني أو مركز تجاري؟ يرسم هوبر الموتيلات والفنادق والغرف ذات الستائر الشفافة ويعرف انه يرسم أميركا موقتة. يرسم ناساً يعبرون هذا الموقت. ويحفظ أعمارهم. يحفظ الناس ودروبهم ومكاتبهم وكراسيهم وبيوتهم. يحفظ سكك الحديد ويحفظ القطارات ويحفظ البراري الشاسعة. يحفظ نيويورك القديمة ويحفظ المقاهي والمطاعم والصيدليات وأعمدة حمراء تزين الأرصفة. ماذا يفعل هوبر؟ يمنحنا عالماً زائلاً، لن يزول الآن. كيف يُنجز هذا؟ بثراءٍ نفسي باطني أعطاه عيناً صافية.