في السنوات الأخيرة من حياته، وهي سنوات أمضاها في"الرسم بالمقص"والتعبير من طريق صفاء الألوان ووضعها في أشكال متجاورة بأسلوب تزييني تدريجي، كان الفنان الفرنسي هنري ماتيس ينهي حياة جرّب خلالها معظم أنواع وأصناف الفن التشكيلي التي طغت على النصف الأول من القرن العشرين. وكان هذا واضحاً من خلال الصفاء الذي وصلت اليه أساليبه الأخيرة مستفيدة من مسار طبعه التجريد كما طبعه الانتماء الى"الضواري"، وطبعته شمس الجنوب والمشاهد المغربية، بقدر ما طبعته تأثيرات روسية خالصة وتأثر بتكعيبية ما ? بعد ? انطباعية وما إلى ذلك... في تلك السنوات، وبالتوازي مع تجاربه التزيينية الشكلية الخاصة، حقق ماتيس عدداً من آخر اللوحات الزيتية الكبيرة في تاريخ مساره الفني، تضمنت تجاربه كلها في تضافر مدهش. غير ان من غير الممكن لأحد أن يحدد أي اللوحات كانت الزيتية الأخيرة التي رسمها ماتيس. والسبب بسيط وواضح: رسم الرجل عدداً من هذه اللوحات خلال عام واحد هو العام 1948، وفي زمن واحد تقريباً إذ انه، على الأرجح كان يشتغل على لوحة ليتركها منصرفاً الى الاخرى، ثم الى الثالثة قبل أن يعود الى الأولى وهكذا... ومن هنا يمكننا، على الأرجح، أن ننظر الى ثلاث معاً من تلك اللوحات على انها"آخر الزيتيات التي حققها ماتيس":"داخل باللون الأحمر: طبيعة صامتة وطاولة زرقاء"، وپ"داخل فسيح باللون الأحمر"وأخيراً"السجادة المصرية". وهذه اللوحات الثلاث، كما تتجاور وتتداخل زمنياً، تتوافق معاً على تقديم صورة تركيبية لعمل ماتيس ككل. لا سيما منها لوحة"داخل فسيح باللون الأحمر"، التي يكاد يجمع الدارسون على ان استكمالها كان آخر عهد لماتيس بالألوان الزيتية في لوحة مستقلة. هذه اللوحة رسمها ماتيس وهو في الثمانين من عمره. وفيها صور الفنان، في محاولة تعبيرية أخيرة من لدنه، داخل الاستوديو الخاص به. وهذا الداخل يبدو في اللوحة براق الألوان زاهياً، يعبر تماماً عن المزاج الرائق الذي كانه مزاج ماتيس في ذلك الحين، لا سيما من خلال طغيان اللون الأحمر الصارخ على مناخ اللوحة ككل. أما مركز الثقل والقوة في اللوحة، فهو المشهدان اللذان يتصدران نصفها الأعلى. هنا على رغم ان المشهدين يبدوان متكاملين في تعبيرهما عن روحية فن ماتيس، يتعين علينا أن ننتبه على الفور، الى أننا لسنا هنا في صدد لوحتين معلقتين على جدار الاستوديو، بل ازاء لوحة ? الى اليسار -، ونافذة تطل على حديقة الى اليمين. واللوحة هي لوحة معروفة لماتيس أعاد رسمها معلقة هنا. واللافت في الأمر أن هذا الفنان الذي، حين رسم المشهد كله، كان يعيش زمن انتقال فن السينما من الأسود والأبيض، الى الملوّن. ومن هنا لا بد من ان الاستغراب سيستبد بمشاهد اللوحة حين يدرك ان ماتيس قدم لوحته المعلقة ملونة، فيما رسم المشهد الذي يفترض به أن يكون طبيعياً خلف النافذة بالأبيض والأسود والرمادي المزرّق ? ما يجعل هذا المشهد يبدو وكأنه صورة سينمائية على"شاشة مغنية". طبعاً لسنا واثقين هنا من أن هنري ماتيس في تعبيره هذا انما سبق زمنياً كل محللي الأفلام والصورة السينمائية الذين انصرفوا في العقود الأخيرة من القرن العشرين وقد وصل تلوين الواقع من طريق السينما والتلفزة، الى أوجه يتحدثون عن ان المرء، بفعل تجربة القرن العشرين وتحوّل الأخبار والحياة، مصورة على شاشة السينما ثم شاشة التلفزة، كما في الصور الفوتوغرافية الأولى، الى مشاهد لا يراها المرء، حتى في خياله، إلا بالأسود والأبيض ? ويمكن للقارئ هنا أن يقوم من فوره بتجربة مفيدة: فليغلق عينيه ويستعيد في ذاكرته صورة غيفارا أو عبدالناصر أو مارلين مونرو أو فريق البيتلز، لنرى ما إذا كان يشاهد هذه الصورة للوهلة الأولى ملونة أو بالأسود والأبيض! -. إذاً، بالنسبة الى ماتيس، يبدو واضحاً انه أدرك باكراً، ما سيحلله ويفسره الخبراء لاحقاً في دراسات طويلة ومسهبة. غير ان هذا لا نقوله إلا على هامش هذه اللوحة، لأنه حتى وإن كان يأتي فيها بقوة لها دلالتها، فإنه يأتي عرضاً أيضاً. المهم في اللوحة هو كيانها ككل. الكيان الذي، وكما أشرنا، يكاد يختصر عالم ماتيس كله كما كان تجلى خلال أكثر من نصف قرن من الممارسة الفنية. هذا الكيان يتجلى، إذاً، بما هو معلق على الجدار. ولكن أيضاً في النصف الأسفل من اللوحة، حيث لدينا الطاولة، التي يمكن مشاهدتها ? أو مشاهدة ما يماثلها من أثاث ? في عدد كبير من لوحات ماتيس حيث غالباً ما تقدم كقاعدة تحمل أواني زهور أو صحون فواكه أو ما شابه. بيد أن حضور الطاولة هنا مزدوج ازدواجية معظم ما في هذه اللوحة. فنحن إذا استثنينا الكرسي الحاضرة في وسط النصف الأسفل من اللوحة، لتشتغل فاصلة بين جانبها الأيمن وجانبها الأيسر، مكملة في هذا وظيفة الخط الأسود الطولي الذي يقطع اللوحة نصفين من الأعلى حتى أعلى الكرسي، سنلاحظ وجود طاولتين تحت المشهدين. وكذلك سنلاحظ أسفل اللوحة وجود حيوانين أليفين: قطة تحاول أن تهرب، وكلب يحاول اللحاق بها، ولكن في شيء من اليأس كما لو كان من الصعب عليه أن يتجاوز البقعة التي هو فيها ليطاول القطة التي تبدو وكأنها وصلت الى بر أمان ما، حيث مقابل حركة الكلب المندفعة واليائسة في آن معا، تبدو حركة القطة هاربة ولكن مسترخية في الوقت نفسه. والحقيقة اننا لو كنا هنا في إزاء رسام ذي رسالة محددة في عمله، لكان من شأننا ان نربط بين شعور القطة بالأمان في جانب اللوحة الذي تعلوه لوحة فنية ملونة، بهذا التوزع الجغرافي، مقابل يأس الكلب وهو تحت المشهد الطبيعي البادي من النافذة كحيز غير طبيعي التلوين مقابل طبيعية تلوين اللوحة المعلقة. غير ان ما يبعدنا عن مثل هذا التفسير الدلالي، إنما هو ما عودنا عليه ماتيس منذ لوحاته الأولى وبداية انغماسه في الرسم، من أن فنه لا يريد أصلاً أن يحمل أية رسالة ذات معنى، سواء كان هذا المعنى وعظياً، أمو تفسيرياً. مهما يكن لا بد لنا من أن نلاحظ هنا ان الحيوانين الأليفين في اللوحة لا يتسمان بأي مظهر واقعي بل هما يبدوان هنا، وبحسب ما يقول الناقد جون راسل، الذي يعتبر من أفضل دارسي فن هنري ماتيس، أشبه بمشهد مرسوم على سطح سجادة، وهنا لمناسبة الحديث عن تحليل جون راسل لعمل ماتيس، لا بد من الاشارة الى ان راسل كان، الى جانب بيار شنايدر، من الباحثين القلة الذين رأوا ان ما يبدو في الجدار أعلى اللوحة من اليمين نافذة ? مستندين في هذا الى معرفتهم بطوبوغرافيا استوديو ماتيس الذي"التقطت"صورته في هذه اللوحة -، فيما رأى آخرون ان ليس ثمة هنا نافذة، بل لوحة أخرى لماتيس مرسومة بالحبر الصيني أراد ماتيس من خلال ذلك ? وبحسب تفسير الناقدة الألمانية فولكمار أسيرز ? ان يوازن"بين وسيلتي التعبير الفنيتين هاتين: الرسم بالألوان الزيتية، والرسم بالحبر الصيني -. ويبدو لنا ان هذا التفسير، حتى وإن كان يحمل منطقه الخاص، لا يعدو ان يكون اقتراحاً، لا يرقى في احتماليته الى احتمالية التفسير الأول، خصوصاً أن هذا التفسير الأول يساير ما كان ماتيس يقوله عن فن السينما واهتمامه به في آخر سنوات حياته. ولكن، مهما كان من شأن التفسير الأقل أو الأكثر منطقية، تبقى هذه اللوحة واحدة من آخر وأجمل ما رسم ماتيس في حياته. وإضافة الى هذا تبقى شهادة حية على حيوية ظل هذا الفنان يتمتع بها وقد أضحى عجوزاً لا يريد التقاعد عن فن كان بدأ ممارسته، منذ العام 1891، حين كان في الثانية والعشرين من عمره حين تخلى عن مهنته كمساعد محام ليتفرغ الى الرسم نهائياً. ما يعني أن راسم هذه اللوحة رسمها ليضع فيها خبرة 57 عاماً من التعامل مع الفن واللون ومشاهد الحياة اليومية وقد أضحت زاداً للعين والخيال، بعد أن مرت بمرتح نظرة الفنان ورغبته في تحويل الحياة العابرة فناً خالداً. ونذكر أخيراً ان هنري ماتيس المولود العام 1869 في الشمال الفرنسي، أسلم الروح في العام 1945.