لم تكن دعوة الحوار التي أطلقها رئيس الوزراء نوري المالكي ناتجة عن قناعة راسخة بالانفتاح على المعارضين المسلحين وغير المسلحين للاحتلال والسلطة القائمة وانما كخيار فرضه الواقع الأمني والسياسي بعدما عجزت قوى الاحتلال السياسية والعسكرية والحكومات المحلية السابقة عن وقف العنف وانهاء المقاومة المسلحة عن طريق القوة، وبعدما وصل الانهيار الأمني في المستوى والنوع درجة لا مثيل لها في تاريخ الانسانية مما يهدد وحدة العراق الوطنية والاجتماعية. فالعراقيون دخلوا بيئة الصدام والحرب المفتعلة عن طريق سفك الدماء البريئة، وسادت ثقافة المفخخات والقتل الجماعي والفردي على الهوية ورمي الجثث في الشوارع واغتصاب النساء ثم قتلهن مع اطفالهن. وبعدما شعر المالكي بأن مسؤول حزبه ابراهيم الجعفري رئيس الحكومة السابقة فشل كما فشل غيره في إنهاء دورة العنف المسلح وتحقيق الأمن في البلاد، ولئلا يضيف حلقة جديدة من تداعيات الفشل ولا يبدو متعارضاً مع دعوات الأميركان الجديدة إثر تغيير سياستهم الميدانية الى الحوار مع المقاومة والبعثيين وشعورهم بالحرج من الخروج فاشلين مهزومين من العراق، وليلتقط هذه الورقة من يد الرئيس جلال الطالباني وينزعها من أيدي المعارضين للعملية السياسية، الى جانب المناورة مع العرب السنة المشاركين في السلطة وجعلهم أداة قوية لكسر جدار المعارضة والمقاومة وتشتيت قواها ثم استسلامها... لكل ذلك سارع المالكي الى طرح دعوته بمباركة البرلمان من دون عقد أي اتصالات أولية سرية مع القوى المناوئة للسلطة والاحتلال المعنية بالمصالحة، وقفز بصورة عاجلة لتسويقها عربياً تحقيقاً لكسب تعبوي من بعض الدول العربية المعنية بالملف العراقي، مع إن طريقته الانتقائية في زياراته لم تكن موفقة، ففي الوقت الذي تشكل السعودية الى جانب مصر الثقل الأول في الدعوة لحماية عروبة العراق ووحدته، أهمل المالكي في جولته الى جانب الاردن ومصر، أهم دولة مؤثرة في البعثيين والمقاومة المسلحة وهي سورية، وهو الذي كان لاجئاً فيها لفترة من الزمن، ولو كانت الحكومة السورية تتعامل بالنفاق والمكائد السياسية لسلمته مع مئات المعارضين العراقيين من غيره الى أجهزة مخابرات صدام. سبق للقوى العراقية الرافضة للاحتلال أن عرضت أفكاراً للمصالحة الوطنية منذ الأيام الأولى للاحتلال، وتبنت تلك الدعوة أيضاً قوى وشخصيات عراقية أخرى داخل العملية السياسية وخارجها كمخرج وحيد للأزمة العراقية. واستندت فكرة المصالحة الى تجارب إنسانية عدة مثلما حصل بعد الحرب الأهلية في لبنان أو في جنوبي افريقيا، وليس إلى مثال ألمانيا الذي استند عليه دعاة الاجتثاث ورفض المصالحة في العراق. وقد استجابت القوى الداعية للمصالحة لحضور مؤتمر الوفاق بالقاهرة العام الماضي الذي تبنته بعض الدول العربية وأدارته الجامعة كجزء من حرصها على وحدة العراق وصلته التاريخية بمحيطه العربي، وفي مناخ قلق عربي من احتمالات حدوث تطورات خطيرة على أمن دول الخليج بعد أن تركز الوجود الايراني في العراق. فيما قوبلت تلك المبادرة بردود فعل وشكوك سلبية من قبل الأحزاب الدينية الشيعية الحاكمة تحت شعور واهم بالقلق على مواقعها وادعاء الخشية من عودة البعثيين للحكم، بعد تمكنها الى جانب الاحزاب الكردية من تثبيت دعائم سيطرتها على السلطة عبر الانتخابات وقيام الدستور وبدعم الاحتلال ومباركته. ولذلك تحسست تلك الاحزاب حتى من عبارة"المصالحة"بعد حضورها الشكلي للقاهرة واستعيض عنها بالوفاق، ثم تم ترحيل ذلك المؤتمر الى ما بعد تشكيل الحكومة لكي لا يصبح ورقة خارجة من أيدي أحزاب الحكومة. يبقى طرح حكومة المالكي مشروع المصالحة من حيث المبدأ أمراً حيوياً وايجابياً، واعترافاً مباشراً بفشل سياسة المكابرة والانقياد لأدوات القتل والتدمير ضد قطاع واسع ومهم من العراقين لا يمكن تجاهله خصوصاً إنه يحتوي على كنز القوة المدنية الهائلة التي ساهمت في بناء دولة العراق المتمثلة بطبقة العلماء وأساتذة الجامعات والمفكرين والمثقفين والأدباء والفنانين، فضلاً عن ان هذا القطاع البشري المقموع يضم صمامات الأمن والحماية التاريخية الجبارة التي مثلها جيش العراق وقوات الحدود واجهزة الشرطة والأمن التي تم حلها. ولكي تدخل هذه المبادرة من بوابتها الطبيعية لا بد أن تنطلق أولاً من نية وحرص وطنيين واضحين وعمليين على مغادرة منهج الاستئثار وتهميش الآخرين، والاتجاه نحو توفير المناخ بمقدمات جدية عبر إجراءات تعيد الاطمئنان الى نفوس الملايين والثقة الى ضمائر السياسيين، مع المبادرة الى بناء قاعدة سليمة للمشروع الوطني العراقي الذي يساهم في إدارته جميع الوطنيين العراقيين من دون استثناء على قاعدة الحوار والمشاركة الحقيقية في السلطة، ويكون في مقدمة أولوياته إنهاء وجود الاحتلال وفق البرمجة الواضحة وحل جميع المليشيات المسلحة، لا أن تصمم المبادرة وفق حسابات تكتيكية هدفها تثبيت وتوسيع دائرة الولاء من سياسيي سنة الحكومة. لقد أكتشفت الأحزاب المهيمنة على السلطة إن هذه النخب"السنية"لم تغيّر بعد التحاقها بالسلطة من واقع استمرار المقاومة المسلحة والعمليات الارهابية، ولم تحقق الغاية السياسية المطلوبة وهي استكمال المثلث الطائفي للحكم بعدما قامت على محصلة مكاسب الغلبة السياسية للأحزاب الشيعية الدينية والكردية التي حققها لهم الاحتلال واعتبار السنة خاسرين عليهم القبول بما يقدم إليهم من دون التأثير في مسيرة القرارات الكبرى التي تتعلق بحاضر ومستقبل العراق. هناك في مبادرة ال24 بنداً مبادئ عامة بعضها ايجابي نظرياً، لكنها وضعت شروطاً للمصالحة تناقضت مع آلياتها التي لا صلة لها بالحوار والمصالحة كعدم وضوح معايير العفو الاعتراف بوجود أبرياء عن المعتقلين الذين لا ترتضي أية حكومة تدعي الوطنية والاستقلالية استمرار سجنهم على طريقة غوانتانامو التي اضطرت إدارة بوش أخيراً للاعتراف بخطأها، أو في استثناء مَن قاتل الاحتلال الأجنبي من العفو، وهذا سيؤدي الى عدم قبول من يرتبط بهؤلاء المعتقلين من المقاومين المسلحين بالجلوس على مائدة الحوار، في حين إن الأميركان جلسوا على مائدة الحوار مع مَن قتل أكثر من خمسين ألف جندي أميركي من المقاومة الفيتنامية، وكذلك ما فعلته بريطانيا مع مسلحي"إيرلندا الشمالية". إضافة الى تثبيت الحكومة لاستمرار صلاحيات قانون"اجتثاث البعث"وعدم إلغائه باعتباره يمثل شكلاً من أشكال تقنين الانتقام ضد عشرات الألوف من المواطنين العراقيين. وإلغاء الرأي والفكر الآخر، ومصادرة حق الشعب العراقي في إطلاق كلمته وقناعاته الفكرية والسياسية باعتباره يمتلك الحق النهائي في قرار ولائه لهذا الحزب أوذاك. إن عدم إيقاف الحكومة لاستراتيجية ثلاث سنوات من العنف المسلح والقتل والاجتياحات العسكرية للمدن السنية وتطويق أحياء بغداد المصنفة سنية وإطلاق غارات القوات المسلحة على أهلها وبقاء هيمنة المليشيات المسلحة، تنفيذاً للخطط الأمنية التي لم تتغير عن الاستراتيجية السابقة إلا في شكلها الفني ودرجة بطشها، يعقّد مهمة المصالحة والحوار لضخامة الكارثة والمحنة. ولا تشكل هذه السياسة مقدمات سليمة لبناء مناخ المصالحة، كما لن تجذب الفصائل العراقية المسلحة الفاعلة على الأرض، ولن تقنع الزعامات السياسية الوطنية المؤثرة من السياسيين وشيوخ العشائر السنية باللدخول في حوار جدي يخرج العراق من محنته الحالية. ثم إن تجاهل بناء مناخ الثقة مع العراقيين قبل القفز الى كسب ولاء الدول المجاورة على ما تشكله من دور مؤثر في الجماعات العراقية المسلحة أو لديها صلات مع بعض الشخصيات السياسية العروبية الشيعية والسنية، لن يؤدي الى نجاح مهمة المصالحة... فهذه تحتاج الى قادة سياسيين مؤمنين بالحوار مع الآخر، متخلصين من منطق الاستئثار بالسلطة وفق مكاسب الحصص الطائفية. وأن تكون بنود مشروع تلك المصالحة وآلياتها واضحة ومحددة للجهات التي ترغب الحوار معها بعيداً عن وسائل الاعلام. طريق المصالحة الحقيقية يبدأ بعد توفير مناخها عبر إطلاق الحكومة والزعامات السياسية القائدة للسلطة سياسة وطنية جادة باعتبارها المسؤولة الأولى عما يحدث وتعترف من خلالها بجميع الأخطاء والاثام التي ارتكبت بحق العراقيين سواء التي صدرت من قوات الاحتلال أو من المليشيات الحزبية المسلحة وضمان عدم تكرارها. وترجمة الولاء للعراق وليس للحزب او الطائفة ببرامج تنفيذية في جميع مرافق الدولة . والابتعاد عن منطق الشروط المسبقة. طريق المصالحة يبدأ عندما يكون الهدف واضحاً وإن هناك قواسم مشتركة تفرضها مصالح العراق العليا وفي مقدمتها التحرير والاستقلال واستعادة الكرامة للشعب. * كاتب وسياسي عراقي مقيم في بريطانيا.