الملف النووي الايراني يتجه الى مرحلة حرجة وليس الى أزمة، والحملة الدولية الموجهة نحو ايران ليس بسبب كونها تشكل تهديداً وشيكاً، بل ان الهدف منها بعث رسالة شديدة الوضوح اليها بأن المطلوب منها التحرك لبناء الثقة المفقودة... والتقاط الفرصة المتاحة قبل فوات الأوان". هذا الكلام هو للسيد محمد البرادعي المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقد أطلقه غداة الاجتماع الطارئ لمجلس حكام الوكالة لمناقشة تطورات الملف النووي الايراني الذي دعي على عجل بإرادة الدول العظمى لتوجيه رسالة صارمة لايران بضرورة وقف أبحاثها النووية المستأنفة منذ آب اغسطس الماضي ومنحها"فرصة أخيرة"، كما قال جاك سترو، قبل حلول موعد الحسم النهائي لها أو عليها في 6 آذار مارس المقبل، خلال انعقاد الدورة الاعتيادية لمجلس حكام الوكالة، والذي يعتقد على نطاق واسع انه قد يكون موعد انطلاق حملة المواجهة مع ايران! تلك هي صورة المشهد الدولي المتبلورة عبر شاشة فيينا. أما الصورة التي تتشكل انطلاقاً من طهران بعد تجميع قطع"البازل"المتناثرة فمختلفة تماماً عما تظهره عدسات فيينا"الدولية"! فالمراقب للصورة الشاملة لهذا الملف من العاصمة الايرانية يرى ما يلي: أولاً: ثمة خلاف جدي وعميق لمفهوم الالتزام بالمعاهدات الدولية وترجمة بنودها على موضوع التعاون بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية وطهران كان هو السبب في حصول الأزمة الراهنة، حيث كانت الوكالة الدولية مستقوية على ايران وممانعة في تنفيذ البنود الأساسية للتعاون معها نحو عقدين، مما دفع الأخيرة للجوء الى السوق السوداء لسد حاجاتها المشروعة. ولما قويت طهران وباتت على أبواب"الاكتفاء الذاتي"علمياً، استنفرت دول النادي النووي فجأة كل قواها وقررت تعبئة الأجواء العالمية ضد طهران متذكرة في هذه الأثناء مؤسسة اسمها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقررت زجها في المعركة بكل ثقلها باعتبارها"الواجهة"المناسبة والملائمة لكبح جماح الطموحات الايرانية في ذلك المجال الخطير الذي يجب ان يبقى"محتكراً"من قبل النادي ومنع دخول أي طرف غريب عليه الا بتفويض خاص! ثانياً: ان طهران تعتقد جازمة بأن تجييش العالم ضدها خلال السنوات الثلاث الماضية ليس سببه الحقيقي الخوف من خطر وشيك اسمه القنبلة النووية الايرانية التي لا تسعى اليها العاصمة الايرانية أصلاً والذي بإمكان العالم المتقدم ان يتثبت منها بسهولة، بقدر ما هو لجم طموح الاستقلال الحقيقي ورفض طهران الحازم التبعية ومواقف طهران السياسية الخارجية"المغردة خارج السرب"، لا سيما بخصوص القضية الفلسطينية والاعتراف باسرائيل. ثالثاً: اعتقاد طهران الراسخ بأن رضوخها لشروط"المجتمع الدولي"المحكوم عملياً بالمحور الأميركي - الاسرائيلي من خلال اقتراحات الترويكا الأوروبية التي تعتبرها غير منصفة وفوق القانون الدولي وقائمة على"التسييس"في جوهرها أكثر من المعالجة الحقوقية والقانونية والتقنية، سيؤدي في نهاية المطاف الى تخلي ايران عن مشروعها النووي الطموح في مجال الطاقة، خصوصاً اذا ما علمنا بأن الزمن المطروح"لبناء الثقة"كما تطالب الترويكا يزيد على عقد"تتوقف خلاله ايران عن كل أبحاثها وتحقيقاتها العالمية، فيما تفتح أبواب مصانعها الحربية ومؤسساتها العلمية والتنموية والمراكز ومقرات الشخصيات والعلماء المعنيين بشفافية أمام مفتشي الوكالة... لاكمال عمليات التثبت وبناء الثقة"، كما ورد في مشروع أوروبا الأخير المقدم لمجلس حكام الوكالة. وكل ما عدا ذلك، كما تقول المصادر الوثيقة الصلة بصناعة القرار في هذا الشأن، لسيت سوى تفاصيل مملة الغرض منها ملء فراغات المشهد العام! طهران التي تعيش هذه الأيام عيد استقلالها الثامن والعشرين والمستنفرة على كل الأصعدة للدفاع عما بات يفرض نفسه بالملف القومي والديني الأول، لا ترى أفقاً لأي حل أو تسوية لهذا الصراع الطويل الأمد - كما تعتقد - الا بالتمسك بشروطها الأساسية المتمثلة بحقها في دورة نووية كاملة بما فيها التخصيب لليورانيوم على أراضيها من أجل تمين الوقود اللازم لتشغيل منشآتها، وهو ما تظن ان الثبات على الموقف سيجبر المجتمع الدولي على منحها هذا الحق الذي تكفله لها المعاهدات والاتفاقيات الدولية الملتزمة بها. وأما ما عدا ذلك، فإن أي شيء آخر لا يمس باستقلاليتها وسيادتها وحريتها في اختيار الشريك المناسب، سواء كان عنوانه المقترح الروسي أو مشاركة الأطراف الدولية في بناء المشاريع النووية الايرانية المبرمجة بما فيها الأميركية، يعتبر أمراً مقبولاً بل ومرحباً به ما دام يساعد على تجسير الثقة المفقودة لا سيما وأن كل ما تقوم به ايران انما يجري تحت أعين وكاميرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبالمناسبة، ليست طهران وحدها التي تقرأ التجييش والمواجهة الحاصلة بينها وبين المجتمع الدولي حول الملف النووي بهذا الشكل. فقد نقل عن لسان مسؤول عربي رفيع قام بنقل"رسائل متعددة"حتى الآن بين الغرب وايران، انه سمع بالحرف الواحد من رئيس الادارة الأميركية السابق قوله بأن"أميركا مستعدة لخوض حرب نووية من أجل اسرائيل والنفط..."والرئيس يومها هو بيل كلينتون فما بالك ان يكون الرئيس اليوم هو جورج بوش الابن! لا أحد ممن يزور ايران ليستمع لها أو يسمعها ما يعرفه من مواقف الغرب الا ويقول لها بأن عقدة ملفك النووي هو في"اسرائيل". كلمة السر في الحل اذاً هي اسرائيل. وأخيراً فقد نطقها الرئيس الأميركي في خطاب حالة الاتحاد اذ هدد بوضوح بأن"تهب الولاياتالمتحدة للدفاع عن اسرائيل ضد ايران..."، وقبله قالها الرئيس الفرنسي جاك شيراك عندما هدد باستخدام الترسانة النووية لبلاده ضد"قادة دول ومراكز سلطة"تدعم الارهاب والارهابيين! ثم ها هو المجتمع الغربي وقد بدأ يفصح عن نياته وهو يطالب المنظمة الشرعية التي أفرزتها صناديق الاقتراع الفلسطينية وطبقاً لمعايير الديموقراطية الغربية بضرورة التخلي عن مشروعها الانتخابي والاذعان لشروط جلاد شعبها كما ينعت كل من يدعم هذه المنظمة بالارهاب، رغم معرفته بأن سلاح"حماس"ليس سوى الحجارة وأجساد أبناء شعبها فيما يتمترس الجلاد بترسانة نووية قادرة على تدمير الشرق الأوسط الكبير، الذي يتغنى المجتمع الغربي اليوم بمشروع إعادة تشكيله خال من اسلحة الدمار الشامل عدا الحاضنة المدللة اسرائيل! السؤال الكبير هو: أين هي مقاربة الوكالة الدولية للطاقة الذرية من هذا المشهد الشرق أوسطي الخطير؟ هل المعضلة مع ايران التي يشكك البعض في ميولها ونياتها أم في اسرائيل التي لا يشك أحد في ميولها ونياتها؟! صحافي ومتابع للشأن الإيراني.