مجموعة الشبان الغاضبين الذين تجمعوا امام شركة كهرباء لبنان ومنعهم الجيش اللبناني من التقدم في اتجاه منطقة التباريس التي تبعد عشرات الأمتار عن المكان، توحي بأن الهستيريا الاستفزازية التي رافقت التظاهرة الإسلامية الى مقر السفارة الدنماركية فعلت فعلها في عقول هؤلاء لاستدراجهم الى عبث مماثل محتمل. الشبان الذين ارتدوا قمصاناً سوداً وعلقوا السبحات الخشبية على صدورهم اشارة الى انتمائهم الى"القوات اللبنانية"، لا يبدو انهم سمعوا بمناشدة رئيس الهيئة التنفيذية لپ"القوات"الدكتور سمير جعجع المتكررة عبر شاشات التلفزة لضبط النفوس وتأكيد ان ما يحصل هو من فعل مدسوسين. فلم يكن من السهل اقناع هؤلاء بالتزام الهدوء وهم يتابعون نقلاً حياً للحشود التي بعدما حرقت مبنى السفارة، تغلغلت في الشوارع الفرعية لتحطيم السيارات المتوقفة على جانبي الطريق وحتى اقتحام مبان سكنية ورشق كنيسة مار مارون في الجميزة بالحجارة والاعتداء على سيارة الخوري المتوقفة بقربها. لكن بدا ان ثمة استنفاراً مقابلاً لمسؤولي"القوات"ونواب منطقة الأشرفية وأبنائهم بالنزول ايضاً الى الشارع لتهدئة النفوس ومنع أي رد فعل، لذا كان يمكن رصد الشاب الذي نجح في اقناع مجموعة الشبان بمغادرة المكان، ورصد تلك السيدة التي وقفت امام الكنيسة تحاور الجموع وبينهم قوى الأمن بأن ما حصل قد لا يكون من فعل لبنانيين وأننا"لن نستدرج الى ما يريده الآخرون لنا". لا يتذكر الأهالي الذين خرجوا من منازلهم لتفقد الأضرار انهم عايشوا حدثاً مماثلاً في ايام الحرب. وتقول منى وهي موظفة كانت تزيل حطام زجاج سيارتها في شارع شحادة الذي يقع خلف الشارع الذي يضم مبنى السفارة الدنماركية انها كانت تشاهد المعتدين على سيارتها من وراء ستارة نافذة منزلها وكانت تسمع الشتائم التي توجه الى الأشرفية ولم تستطع فعل شيء، ولا تجد تفسيراً لمعنى ذلك"فنحن نعيش في بلد واحد ونحترم كل الأديان لكن ما جرى اليوم غير مقبول". ومع ذلك تقول منى انها كما شاركت في تظاهرات سابقة"من اجل الحقيقة وكرامة لبنان وسيادته لن تتوقف لا في يوم 14 شباط فبراير المقبل ولا في أي يوم آخر". يستعيد عدد من رجال الأمن التابعين لشركات خاصة ويحرسون العديد من المباني الفخمة التي تقع في المنطقة ومعظمها يضم محال لأبرز تجار المجوهرات في بيروت ومصارف ومكاتب لمؤسسات استشارية عالمية، اللحظات التي تحولت فيها الجموع عن التظاهر السلمي. ويؤكد احدهم"ان المتظاهرين استعدوا للشغب مسبقاً فكانوا يحملون غالونات بنزين الى جانب حجارة الطوب، على ان معظمهم لم يكن يدري اين تقع السفارة الدنماركية وبعضهم كان يتحدث بلهجة شمالية فيسأل عن الهدف وكلما شاهدوا علماً او اشارة ما على مبنى هجموا عليه بالحجارة، ولم يتمكن لا الجيش ولا قوى الأمن من ردعهم بل تراجع هؤلاء الى الخلف ولم يوفروا في تعدياتهم وزارة الخارجية اللبنانية". فالسور الحديد الذي يزنر حرم الوزارة التي هي عبارة عن قصر قديم تحيط به حديقة، جرى تحطيمه وقذف المتظاهرون الكشك المخصص للحرس من قوى الأمن بالحجارة واقتحم بعضهم الحرم قفزاً فوق البوابة الحديد الضخمة قبل ان يقنعهم الحرس بأن هذه الوزارة وليس السفارة. والأمر نفسه تكرر في شارع شارل مالك الذي تقع نهايته السفارة الدنماركية ضمن مبنى التباريس الذي يضم ايضاً سفارتي النمسا والكونغو الذي احرقه المتظاهرون بأكمله. في هذا الشارع يمكن مشاهدة كتابات بالطلاء الأحمر على واجهات المحال الزجاجية وعلى الجدران تحمل آيات قرآنية ودعوات الى سقوط الدنمارك وإحياء كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم. وكثرت على الأرض البيانات ومنها يحمل توقيع"الجماعة السلفية في لبنان"وپ"مكتب التعاون الاسلامي - لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية"وعنوانه"هبّوا أيها المسلمون من بقيّ". عناصر الجيش وقوى الأمن ورجال فوج الاطفاء كانوا بالمئات بعد وقت قليل على"العاصفة"التي اجتاحت المنطقة، لكن مواطنين كثراً راحوا يتهكمون على هذا الوجود الذي قبل ساعات قليلة"أخلى مكانه للمتظاهرين وعبثهم". قال فريد: أين كانت الدولة حين اعتدوا على أملاكنا. حين تقدم المتظاهرون تراجع الجيش والدرك الى الخلف ولم يفلح اطلاق العيارات النارية في الهواء لدفع المتظاهرين الى الوراء بل زادهم اصراراً على التقدم حتى ان احدهم انتزع من الدركي بندقيته، قد لا يكون هناك قرار بالتصدي المباشر لكن من يدافع عنا"؟ الكهرباء في شارع نجيب طراد والشوارع الأخرى مقطوعة، والاعتداء طاول مركز الصليب الأحمر في هذا الشارع وسيارات الاسعاف التابعة له، ولم يوفر المعتدون بناية عليها شارة للقنصلية السلوفاكية. أبواب مداخل الأبنية التي كانت محكمة الاقفال نجت من اقتحام المتظاهرين لها، لكن سيارة كلودين عرمان وهي سيدة متقاعدة وزوجها المريض لم تنج من الطوب الذي حطم زجاجها بالكامل وهي مركونة بجانب المنزل، كانت تزيل الزجاج وتقول:"دفعت دم قلبي عليها". موظفون كثر حضروا الى المكاتب التي أخلوها في المنطقة بعد ظهر السبت ولم يأخذوا في الاعتبار امكان تعرضها لتعديات بعد أقل من 24 ساعة. في بناية التباريس التي كان يواصل رجال الاطفاء اخماد النيران فيها والتي أتت على المبنى بكامله وتتجاوز طبقاته العشر، اضافة الى مرأب ضخم للسيارات ضم مكاتب بنك اللاتي الذي لولا الاحتياطات اليومية كما قال مديره جوزيف اللاتي"لكانت الخسائر جسيمة وأكثر من مادية"، وهو دعا عبر"الحياة"موظفيه الى المداومة اليوم في فرع ساحة ساسين. كثيرة هي الاشاعات ما بعد العاصفة، فثمة من يردد ان خوري كنيسة مار مارون في غيبوبة، لكن من تفقد الكنيسة عاد ليجد ان الخوري بخير والكنيسة أيضاً. ثلاث سيدات كن في طريقهن الى الكنيسة اصررن على وصف ما جرى بأنه"مضحك مبك، فإذا كانوا يحتجون على الاساءة لرمز ديني فكيف يعتدون على مقام ديني مماثل". والسيدات اللواتي نزلن ببدلات الرياضة الى الشارع لتفقد ما حصل لم يخفن كما قلن ولن يفعلوا وهن سيشاركن كما في السابق في تظاهرات مقبلة من أجل"كرامة لبنان والحقيقة وان طالت معرفتها". الذهول كان يمكن التقاط معالمه على وجوه رجال الأمن والاطفاء، وروى العريف محمود الطويل في فوج الاطفاء كيف ان المتظاهرين هجموا على سيارة الاطفاء التي كان يقودها وأمروه بالنزول منها وسلبوا منه السترة الخاصة بالحرائق وهاتفه النقال بعدما شتموه، ويشير الى ان سيارتين مفقودتين وست أخرى أصيبت بأضرار. عناصر الجيش كانوا يرفعون ما تبقى من سيارة جيب محترقة تابعة له، قال أحدهم ان المتظاهرين قلبوها وحين تسرب الوقود منها اشعلوها، كما عمل الدرك على رفع جيب مماثل لهم أصيب بأضرار جسيمة. وحضر الى المكان مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي جان فهد وعدد من القضاة لمباشرة التحقيق في الاعتداءات، وكشف القاضي فهد عن مجموعة توقيفات تجري في هذه الأثناء للمعتدين، وكان عدد من الشبان الذين جاؤوا لتفقد ممتلكاتهم في مناطق خارج بيروت تحدثوا عن حواجز توقف المتظاهرين على الاوتوسترادات التي تربط بيروت بالشمال والجنوب.