في هذا العالم العربي الموبوء باحتمالات"الحروب الأهلية"لا مخرج لإدارة المجتمع إدارة سلمية إلا بالتوافق على إعمال"ديموقراطية وتوافقية"تعرف قوى المجتمع الداخلة فيها أنها"أطراف"في لعبة سياسية لا تستطيع أن تنفي الآخر وتهمشه كما لا يستطيع الآخر أن يهمشها. بذور الحروب الأهلية هي أن يعتقد طرف أو تحالف أطراف أنه أو أنها تستطيع أن تحمل المجتمع كله على الانحياز اليها وتخرج الآخرين من اللعبة. الثقافة السياسية العربية التي سادت لفترة أكثر من نصف قرن تحضّ على تهميش الآخر وتغييب فئات اجتماعية أو سياسية عن مركز القرار، ووصل مثل هذه الممارسات إلى احتقان كلي أو جزئي أنتج إما حروباً أهلية في الأول وإما اختناقات سياسية في الثاني. ولا ينقصنا حتى الآن الكثير من الشواهد العربية، فبلاد مثل لبنان اعتقدت طائفة أو أخرى أنها تحمل لبنان كله إلى جانبها وفشل الجميع في أن يفعلوا ذلك، ودخلت الأطراف في حرب أهلية بشعة أول ما فعلته أن هدمت البلاد على رأس أهلها وشرّدت العباد في أطراف الأرض، ولا يزال البعض يقاوم التوافقية على أمل الغلبة! أما التجربة السودانية فكانت افضح وأنكى، اذ أصبحت البلاد حقيقة لا قولاً على شفا التقسيم المناطقي والعرقي. ولا يزال العراق يسعى إلى توافقية مفقودة أدخلت شعبها في نفق ضياع حتى الأمل، ومن يتابع أخبار العراق اليوم يجد نفسه متحسراً مع المواطن العراقي، على عبثية عدم حمل المجتمع على مسار واحد أو الحرب الأهلية. في الكويت الأمر مختلف، فقد سارت التجربة الكويتية بين النهوض والأفول في تجربة ديموقراطية يحفها دستور حديث. ولم تسلم التجربة من الخطأ والتراجع. اذ تم حل مجلس الأمة المنتخب من اجل مراجعة المسار أكثر من مرة، وكان الحل خارج نطاق الدستور في عدد من المرات. هذا الأمر لم يعد قائماً فقد حل المجلس في السنوات الأخيرة عام 1999 وهذه السنة 2006 حلاً دستورياً، أي نودي للانتخابات في اطار الفترة الزمنية التي قررها الدستور. دستور الكويت مرّ عليه زمنياً ما يقرب من نصف قرن، وفيه اعتراف بأن ينظر فيه بعد خمس سنوات من تطبيقه، وهو أمر عقلاني ومنطقي، اذ تتغير أحوال المجتمع من حيث العمران والمعاش والسكان. إلا أن محاولات التغيير أصابها ما أصاب بعض النخب السياسية من"فقدان الثقة"المتبادلة، وقد وجد الكويتيون اليوم أن عدد مواطنيهم تضاعف اثنين وعشرين مرة منذ العمل بالدستور، ولا يزال ممثلوهم في البرلمان بعدد الخمسين عضواً، وهو العدد نفسه الذي انتخب منذ نيف وأربعين عاماص. مثل هذه المشكلات العالقة يحتاج إلى بناء توافق عقلاني يساير الزمن ولا يفرّط في الثوابت، إلا أن الثقة من اجل توافق على أعلى مما هو قائم لم تتوفر بعد. تأتي انتخابات حزيران يونيو 2006 على خلفية اختلاف بين قوتين في المجلس الذي أنهيت ولايته، غالبية تريد تغيير حجم الدوائر الانتخابية إلى حجم اكبر تعتقد انه يخلص المجتمع من مثالب الدوائر الصغيرة التي يمكن للمال السياسي أو الصلات القرابية أو حتى شراء الأصوات من أن يؤثر على نتائجها، وأقلية ترى أن الحال يجب أن يتبقى على ما هي عليه، وكان الطريق الأفضل لتلمس حل معقول هو العودة الى الناخب، خصوصاً انه ناخب فطن، وأيضاً سيكون معززاً بزميلته الناخبة. وللمرة الاولى تجرى انتخابات برلمانية عامة في الكويت بمشاركة المرأة، ومن الملاحظ أن أعداد النساء المسجلات في قوائم الناخبين تفوق أعداد الرجال. وما هي إلا أسابيع قليلة حتى نعرف مع العالم الإجابة عن السؤال المعلق وهو: هل تخترق امرأة كويتية الحصار السياسي إلى قبة البرلمان أم تقف"التقاليد"حجر عثرة أمامها؟ علينا أن ننتظر قليلاً. عندها سنرى ما إذا كان الحديث عن الحق السياسي للمرأة في الكويت والذي ناضلت من اجله طويلاً هو منحصر في حقها النسبي في ممارسة الانتخاب فقط، أم أنه حق مطلق للوصول إلى سدة البرلمان للمشاركة في الرقابة والتشريع، عندها سنعرف هل أن العامل الاجتماعي والثقافي هو الذي سيقرر، أم أن هناك وعياً سياسياً جديداً يتشكل في الكويت. في مسيرة مشاركة المرأة العربية السياسية وجدنا أن التجارب تقول لنا أنها"فاعلة سلبية"حتى الآن. فكثير من النساء العربيات اللائي وصلن إلى البرلمان العربي هن فاعلات سلبيات، إما بسبب أن النظام يريد تزيين الصورة السياسية، أو بسبب دفع عائلي زوجة زعيم قتل أو سجن أو شقيقة زعيم كبير. ربما تختلف الصورة في الكويت، هذا في حال وصول امرأة إلى السدة البرلمانية. وحتى لا يندهش البعض، فإن المرجح أن لا تصل أي امرأة إلى السدة البرلمانية في هذه الدورة، لعدد من الأسباب بعضها موضوعي، وبعضها ذاتي. الموضوعي أن الانتخابات وتوقيتها فاجآ الجميع. كلٌ كان يعتقد أنها ستكون في صيف السنة المقبلة 2007 إلا أنها تحركت بفعل عدد من القضايا إلى قبل ذلك الموعد بسنة. فلم يكن هناك استعداد من جانب النساء وكثير من الرجال لهذا التوقيت المفاجئ، مما يُفوت عليهن خصوصاً فرصة ثمينة للاستعداد للمعركة، ولأنها معركة حاسمة بعد جدل طويل حول تغيير الدوائر الانتخابية، فالكثير من الناخبين سيرى أن القضية أما مع وأما ضد، لذا فإن الالتفاف الاجتماعي لتوصيل ولو امرأة واحدة على سبيل التفاخر إلى السدة البرلمانية لا يحظى بزخم شعبي كبير، لأن الأجندة تتفوق عليها أمور أخرى ملحة. أما الأسباب الذاتية فهي كثيرة تختلط فيها الثقافة الشعبية بنظرة المرأة الى نفسها والى غيرها في المجتمع، الذي لا يزال في الغالب مجتمعاً ذكورياً، يشكل فيه خضوع المرأة للرجل قيمة ايجابية لا سلبية. سيتسرّع كسالى المعرفة في القول بأن النساء في الكويت لا تأثير لهن على الأحداث. هذا غير صحيح، بل هذا حكم متسرع تكذبه الحقائق المعروفة، فانتخابات الجمعيات التعاونية والانتخابات الطلابية تساهم فيها النساء في الكويت منذ زمن. وإذا كانت ممارسات تلك الانتخابات رفيق نستأنس به، أو أصل يقاس عليه، فإن مشاركة المرأة تتعدى عدد الرجال في كلا الحقلين، وفي دراسة أخيرة لانتخابات الجمعيات التعاونية، تبين أن عدداً من بين من توجهوا إلى صناديق الانتخاب كانت للمرأة غالبية الثلثين تقريباً. وهذا يحدث في اتحاد الطلبة. إذا قسنا على ذلك فإن النساء سيكون لهن الصوت الحاسم والمؤثر في نتائج الانتخابات النيابية المقبلة، علماً بأن عدد المسجلين من النساء في معظم الدوائر يفوق عدد الرجال، بسبب الحجر القانوني على رجال الأمن والجيش من خوض الانتخابات كناخبين. مساهمة المرأة الكويتية في الانتخابات ستكون حاسمة في الترجيح، من حيث التصويت لبعض المرشحين. ومن اللافت أن بعض رجال مجلس الأمة السابق الذي اقرّ بعد مقاومة حق المرأة في الانتخاب والترشيح، وفقد ولايته أخيراً، وكانوا في أقصى المعارضة لفكرة دخول المرأة المعترك السياسي من حيث التكييف الديني أو السياسي أو الاجتماعي، هم اليوم أكثر من سارع في التحضير للجان المرأة، وبعضهم رسم على شفتيه ابتسامة عريضة وهو يتصور معهم صورة جماعية إشارة إلى"مناصرة حقوقهن السياسية". انقلب البعض على ما كان يروج له، وهذا ما يؤكد خطورة خلط الممارسات السياسية والاجتماعية بما هو ثابت في الدين، فالدين ثابت لكن المعرفة الدينية متغيرة، مع اتساع استخدام العقل وتضييق فرص النقل. ومن الملاحظ، رغم أن المعركة الانتخابية شهدت في تحضيراتها الأولى تكثيف اللقاءات النسائية لحشد الأصوات لمرشح أو مرشحين يرون فيهم الكفاءة، ويتجادل بعضهن في الملتقيات أو في مكاتب العمل، بل أن بعض الأسر غيّرت بناء على اقتراح النساء خططها لبدء العطلة الصيفية فأرجأتها حتى انتهاء الانتخابات آخر الشهر الحالي. دخول المرأة الكويتية إلى ساحة الانتخابات والترشيح يعني إعطاءها زخماً وفرصة لتوسيع وعي سياسي كانت بعيدة عنه لفترة طويلة. وتؤسس الخطوة تناقضاتها كمثل أي تحرك اجتماعي، فتتحول إلى تكوين خواصٍ جديدة في المجتمع يؤسس عليها. فلن يكون المشرّع قادراً بعد الانتخابات المقبلة على تجاهل مطالب المرأة، خصوصاً الحياتية أو المطلبية منها. لذا فإن المتوقع أن تتفجر مطالب جديدة لإصلاح قوانين الأحوال الشخصية وزواج الكويتيات من غير كويتيين والعكس أو الإساءة العضوية للمرأة والطفل، أو حقوق التملك والتجنس، التي برز بعضها اليوم في الخطاب الدعائي لبعض المرشحات. إذا كان ثمة إصلاح مطلوب في المدى المتوسط كي تقوم المرأة بدور سياسي ايجابي في المجتمع، وليس سلبي كما هو متوقع في الدعم والترجيح فقط، فان علينا أن نصلح ابن العم الفقير للسياسة واعني بها الثقافة، فالثقافة العربية،ومن ضمنها الممارس في الكويت، تؤسس لوضع المرأة في الدرجة الثانية في التعاطي الاجتماعي . ومن القصص القريبة إلى تفسير ذلك المعنى أن الديمقراطية التوافقية الممارسة في الكويت لا زالت لم تهضم مشاركة المرأة،حتى عندما دخلت الوزارة، فكانت الوزيرة الأقل مسائلة من قبل النواب، كونها امرأة! نتيجة الانتخابات المقبلة في الكويت ستقرر ما إذا كان حرمان المرأة من لعب دورها السياسي إرادة سياسية أو موقفاً اجتماعياً. ولعلي استبق النتائج بالقول انه موقف اجتماعي لا تنفع في تقويمه القوانين والتشريعات بأكثر مما ينفع في إصلاحه"إصلاح الثقافة المجتمعية". وسيكون مفيداً في هذا الأمر مراقبة الحملة الانتخابية، وردود فعل الإعلام العربي والعالمي حولها. أنها تجربة تستحق أن ترصد، إلا أن المفاجآت فيها ستكون قليلة. * كاتب كويتي.