قرأت قبل مدة قصيرة قصيدة لمحمد اسماعيل بعنوان"ظهري انحنى". الى جانب القصيدة المنشورة في مجلة صورة رجل لبناني قروي على الأرجح يلبس السروال العادي ظهره انحنى ولحيته كبيرة لعلها كانت السبب في ثقل جسمه وانحناء ظهره يعتمر طاقية عادية وبيده عصا يعتمد عليها. الصورة في حد ذاتها جميلة واضحة. لكن القصيدة غاية في ما يمكن أن يقال عن التقدم في السن. محمد اسماعيل يتحدث عن نفسه في أدوار مختلفة. اللغة طيّعة، سهلة. التركيب جميل جداً وموسيقي. القصيدة مكوّنة من ستة مقاطع، لولا ان هذا لا يتفق مع أصول النشر من حيث المساحة لكنت نقلتها واكتفيت بذلك، لكنني أريد أن أتحدث عنها. اللغة كما قلت واضحة لا تعقيد فيها. تبدو كأنها بسيطة ولكنها في غاية التركيب اللغوي الطيب. ألفاظها عادية لكن هذه العادية في الألفاظ هي التي تحمل في باطنها هذه المعاني الدقيقة والرقيقة. ما الذي يقوله محمد اسماعيل في هذه القصيدة؟ يتحدث عن نفسه فيبدأ بالقول:"أنا الذي كنت أنا هذا كان". ما الذي يقصده من هذه المقطوعة الصغيرة؟ انه كان شاباً قوياً فتى مرموقاً يعين المحتاج ويساعد المريض يهتم بنفسه وبأسرته فيعود الى اليوم الذي نظم فيه هذه القصيدة ويقول:"واليوم لم أبقَ أنا"فما الذي مرّ به هذا الرجل عبر هذه السنوات. أولاً يقول:"قد بَعُدَت عني المُنى/ والغمُّ مني قد دنا". هذا الرجل كان صاحب نظرة مستقبلية طموحاً في حدود امكاناته، لكن هذه المُنى بعُدت عنه أي انه أصبح عاجزاً عن التفكير بها أو الوصول اليها. لكنه لا يكتفي بذلك فهو يريد أن يُرينا ما الذي كان يقوم به بين شبابه وبين هذه السنوات التي أناخت بكلكلها عليه. يقول:"أنا الذي كنتُ أطير"، أطير معناها أتنقل كما أشاء، أزور من أشاء، أتحدث الى من أشاء، أتنقل في العالم بقدر ما يمكنني مادياً اليوم"جانحي كثير هبط"بعد أن كان يطير سعادة أصبح اليوم أسير البؤس أسيراً في هذا المنحنى. ولا يكفي انه كان يطير. "أنا الذي كنت طليق/ واليوم أصبحت رقيق". كان طليقاً يتنقل كما يريد ويتكيف مع الظروف والأحوال ولكنه اليوم أصبح رقيقاً بمعنى عبداً فكيف ذلك؟ يصف الحال بقوله:"ضيّعت في سيري الطريق/ وبِتُّ رهناً للفنى". ما أبعد الشقّ بين الرجل الذي كان طليقاً وكان يطير والآن ضيّع الطريق في سيره ولم يعد يستعمل الطريق هذا الذي قصده. وبتُّ رهناً للفنى أنتظر اليوم الذي أفنى فيه."أنا الذي كنت أروح/ والعطر من ردني يفوح". أنا الذي كنت أروح بمعنى أتنقل، أرحل، أسافر. والعطر من ردني يفوح، عطر الشباب، عطر القوة، عطر العنفوان هذا الذي كان يفوح من جسمه."واليومَ جسمي بالجروح/ أضحى عليلاً مثخنا". هي ليست جروح حقيقية هي جروح داخلية. الجسم لم يعد يتحمل مشاق الحياة. حتى هذه التي ذكرها لم تكن كافية يقول:"أنا الذي شق السبيل/ للجاه والمجد الأثيم". جاهد، عمل، تغلّب على الصعوبات شق طريقه وصل الى أمجاده. كل هذا شيء مر به."واليوم يجفوني الخليل/ لأنني ندو الضنى"، وفي المقطع الأخير يقول:"أنا الذي عافَ الحياة/ واشتاق أن يلقى الممات/ وصاح تحت التنازلات/ ظهري أيا دهري انحنى". من الممكن أن يصف الواحد أتعابه وضناه ويأسه من الحياة في مثل هذه المقطوعة البسيطة. صاح تحت النازلات ظهري أيا دهري انحنى. كل ما قاله من الشكوى ان ظهره انحنى لكن ظهره انحنى لأنه لم يعد قادراً على أن يظل منتصباً واقفاً. قرأت هذه القصيدة وتمتعت بها وفكرت فيها وقلت شكراً لك يا ألله انني أنا في التاسعة والتسعين لا أشعر بمثل ما يشعر هذا الرجل. أنا بعد أتحرك لولا أن أوعية الدم في رجليّ أصبحت ضعيفة عن نقل الدم ولذلك فأنا مضطر أن أستعمل الووكر"Walker"وأن أقضي وقتاً طويلاً في البيت إذ ليس من اليسير أن يخرج الواحد بالپ"Walker"في شوارع بيروت. لا الملح ولا الزبدة هناك ثلاثة أمور أحسب انها هي التي ساعدتني على ان احتفظ بهذه الصحة في هذه السن. الأول ليس لي فيه فضل فهو هبة من الله انه أعطاني ضغط دم منخفض نسبياً فأنا في هذه السن ضغط الدم عندي بين 120 و125. هذا فضل من الله أورثني إياه لعله عن جدي أو غيره. مع هذا هناك أمران تنبهت لهما: أدركت وأنا في منتصف الخمسينات انني بدأت أزيد وزناً، بالتعبير العامي:"انصح". ويظن الناس ان هذه صحة وهي في الواقع بدء مرض ان لم يُتلافَ. الأمر بسيط أنا كنت آكل بقدر ما كنت أمشي وأتنقل في سن الأربعين والثلاثين وهذا خطأ. فأنا أحتاج كمية من الأكل أقل في هذه السن وتدريجاً يقل الأقل مع السن على طول حتى يتناسب مع الحركة الجسمية. ما الذي فعلته؟ قمت بأمرين، الأول انني قللت الكمية التي أتناولها وهذه كانت قضية بسيطة من حيث انها قرار يُتخذ ويمكن أن تُسيطر عليه. وهناك أمور أخرى هي القسم الثاني من العلاج الذي اتبعته وهي أن أخفف أنواع الطعام فأنا منذ أكثر من ثلاثين سنة لا آكل السكر ولا الملح ولا السمنة ولا الزبدة ولا اللحم المدهن. كل ما يطبخ في البيت يطبخ بالزيت أو على الأفضل يكون مقلياً أو مسلوقاً أو مشوياً. الأمر الثاني في هذه الناحية التقليد هي الاعتناء بنوع المآكل، ففي هذه الحال يجب أن يخفف المرء من أكل المواد النشوية يكون أخذه من الأرز والخبز والبرغل وما شابه ذلك أقل مما كان يتناوله قبلاً. يجب أن يقلل من اللحوم بقدر الإمكان ويعتمد الخضار اعتماداً كبيراً في المطبخ. هناك أمر آخر يجب على المرء أن يهتم بالحصول على السكر والملح من غير الخضار من الفواكه. أنا الآن ومنذ نحو عشرين سنة أو أكثر وأنا أتناول طعاماً خفيفاً في الإفطار لا يتعدى فنجاناً من الحليب مع ملعقة عسل بدل السكر وبعض أنواع الخبز وقطعة جبنة أو لبنة أو ما يشبه ذلك. الغداء هي طبخة وكلما تعددت أنواع الخضار فيها كلما سررت بها أكثر وقد رزقني الله فتاة أعتبرها كابنتي هي التي تُعنى بي الآن حريصة على ان تراعي هذه الأمور. أما في المساء فالعشاء خفيف ولكنني في بحر الصباح أشرب كأساً من عصير البرتقال وبعد الظهر بين الغداء والعشاء آكل صحناً من الفاكهة. هذا في ما يتعلق بالأكل. لكنني أمشي كل يوم نحو مئة متر في البيت على الWalker، الآن داخل البيت غداً عندما يصبح الطقس مناسباً أقوم بتمارين رياضية خفيفة لذراعيّ وبقية أنحاء الجسم. وأيضاً يأتي شخص خبير يعمل لي مسّاجاً أربع مرات في الأسبوع، فأنا هذه الهبة التي أعطاني الله، هذا الجسم حافظت عليه.