الليل يغمر بيروت المشتعلة بالكهرباء. نحن في المطعم على سطح Virgin العالي، وجوزف سماحة يقطع شطيرة البيتزا بالشوكة والسكين، ويسأل وليد نويهض عن الأحوال في البحرين. وليد يقول شيئاً عن الحرارة الشديدة والرطوبة العالية. وشخص آخر - نسيتُ اسمه - يقول ان اهل الخليج كلهم في بيروت الآن، انظروا هذه الزحمة، مليون ونصف المليون اتوا فقط في هذين الشهرين، متى كانت بيروت مزدهرة بالسياحة هكذا، عليكم ان تشكروا بن لادن، لولا سقوط البرجين في نيويورك ما ازدهرت بيروت في هذا الصيف، الحرّ هنا ايضاً ليس قليلاً، والعرق والرطوبة! نشرب شراباً بارداً وننظر الى المظلات الحمر فوق رؤوسنا تخفق في نسائم الصيف كأجنحة حمام او اشرعة سفن. من مكاني ارى البحر اسود مستوياً، وحين تظهر طائرة في الأفق ارى نورها الأصفر يشق صفحة الماء ويقترب من مدينتنا. مصابيح السيارات التي تعبر ساحة الشهداء تحتنا تنعكس على الأكواب فوق منضدة البار، وتنعكس على زجاج النظارات وعلى العيون. اصوات لا تُحصى تختلط في فضاء هذا المطعم المفتوح. اللغات تتمازج عربية وفرنسية ويابانية وإنكليزية وإيطالية، واللهجات يصعب حصرها. كأننا في برج بابل. الوقت تأخر، جاوز نصف الليل، لكن بيروت لا تذهب الى النوم. السياح يملأون المطاعم والمقاهي والشوارع والأرصفة، وأهل البلد خرجوا للتنزه: شبان وشابات، رجال ونساء. روائح طعام وعطور وأجسام وملح البحر، المدينة تغرق في الروائح. المهرجانات تعبر الشوارع، والموسيقى صاخبة. مطربون ومطربات. راقصون وراقصات. الهرج والمرج يستمر الى ساعات الفجر. في الصباح لا ترى إلا وجوهاً ناعسة، في الحمرا او مونو. رجل نحيل، حركة جسمه غريبة، يقترب من طاولتنا. وليد اول من ينهض ملقياً من يده شوكة في اسنانها قطعة لحم مشوية. الشوكة تستقر عند حافة الصحن المملوء بالخضر المسلوقة جزر وبريكولي ولوبياء وبازيلاء. وليد يصافح الرجل، وأرى جوزف يقف هو ايضاً في يسراه المنديل، ولأنه طويل يضطر الى الانحناء قليلاً وهو يدفع كرسيه الى وراء، والرجل الغامض يصافحه ويلفظ اسمه. بعد ذلك يستدير نحوي، ويقول اسمي من اين يعرفني؟. لكن ما أستغربه بينما اصافحه ناظراً الى أسفل، ما يلفت فيه - منذ ذلك اللقاء الأول - صوته، نبرة الصوت الهامسة، كأن عطلاً اصاب اوتاره الصوتية. لم يكن صوته مبحوحاً، لكنه بدا مخنوقاً، كأنه يخرج من تحت التراب. حين تحدث وليد تذكرت انني اعرف هذا الرجل، انني طالما رأيته من قبل، انني طوال سنة تقريباً كنت أراه وأرد على تحيته المهذبة مرتين كل يوم: مرة صباحاً، وأخرى مساء. كان الرجل حارساً في مدخل صحيفة "الحياة"، هنا، على رمية سهم من بناية Virgin. لكنه تغير! اولاً فقد وزناً. ثانياً اختلف صوته. ثالثاً... ثالثاً ماذا؟ لا أعرف. لا أدري كيف اقول هذا. لكن عليّ قوله: بدا كأنه وصل الى هذا المكان للتو آتياً من عالم آخر. بدا غير حقيقي. لا أعني انه بدا غريباً عن جو المطعم، لا، ليس هذا. بدا - بصوته الهامس وبحركة الجسم البطيء الثقيل مع انه شديد النحول - كأنه غير متأكد من وجوده. هل يمكن ان يشك احدنا في انه موجود؟ تذكرت وهذه الذكرى اخرجتني من الحيرة، تذكرت عندئذ او لعل الذكرى جاءت بعد وقت، تذكرت ايام كنت ادرس ليلاً في مستشفى الجامعة الأميركية. كنت ارى وجوه المرضى، حين يخرج واحد منهم ليلاً، ويتمشى وقتاً في الممر الطويل المضاء بالنيون الأبيض وهو يدفع قدامه عمود المصل. مريض مصاب بالأرق يمشي وحيداً في الليل في الممر الأبيض الطويل، خارج غرفته، ولا يعرف اين هو. كأنه لا يصدق انه على قيد الحياة. انه نجا! هكذا بدا ذلك الرجل. بدا خارجاً من مرض. من عالم لا علاقة له بعالم الأصحاء، هؤلاء الذين يتوزعون هذه الطاولات، يضحكون ويشربون ويأكلون البيتزا والمعكرونة واللحم والإسكالوب والبطاطا المقلية ويطلبون المزيد. ظلّ الرجل النحيل واقفاً. جلستُ وسمعت وليد - الذي بقي واقفاً - يسأل الرجل اين يعمل الآن، أما زال في شركة الSecurity نفسها؟ اجابه الرجل انه ترك الشركة ثم عاد إليها، والآن عنده دوامان، دوام ليلي هنا، ودوام نهاري في "برج الغزال"، هناك! كان يشير بيده الى منطقة التباريس، وراء ظهري، والتفتُ الى حيث يرتفع "برج الغزال"، ورأيت السيارات تعبر "جسر فؤاد شهاب" ونور مصابيحها الكهربائية يقع على قرميد "كنيسة الأرمن" وينتشر كالذهب فوق بنايات الصيفي الجديدة المرممة: النوافذ بعضها منار، وبعضها اسود. ألاّ تبلغ الضجة الناس هناك؟ هل يقدرون على النوم؟ لكنهم - لا بد - يقفلون النوافذ ويشغلون المكيّفات. ليست هذه بنايات فقراء. بقي الرجل ساكتاً لحظة لم يكن في لباس العمل، هل انتهى دوامه الليلي، ام ان دوامه يبدأ الآن؟. ثم قال انه قبل ذلك عمل حارساً في "اللعازارية"، وبعدها في "خربة سيتي بالاس"، السينما القديمة. قال إن ذلك كان مباشرة بعد السنة التي قضاها حارساً ل"الحياة". سأله جوزف شيئاً لم أسمعه كان احدهم يحدثني من الجهة الأخرى، والأصوات الكثيرة من الطاولة الى يسارنا تطغى على اصواتنا. وحين تكلم من جديد - هذا الصوت الهامس الضعيف، كأنه يحتضر واقفاً بيننا - استرقت نظرة الى وجهه: كانت المظلة الحمراء فوق رؤوسنا تلقي عتمة على جانب وجهه، لكنني رأيت نوراً بارقاً تحت الرموش. ليس هذا رجلاً بليد الذهن. كان يقول شيئاً عن انظمة الشركة، وعن الشركات الأمنية الأخرى المنافسة عمل هذه الشركات يزدهر مع ظهور كل هذه المطاعم والنوادي الليلية والفنادق والأعمال الوافدة الخ الخ...، وكنت أرتب في ذهني ما قاله قبل قليل، لأعرف الأماكن التي حرسها نهاراً أو ليلاً: "الحياة" ثم "اللعازارية" ثم "سيتي بالاس" أشار الى المكان وهو يذكر اسمه، خلف ظهري، وقبل جسر فؤاد شهاب: صالة السينما القديمة بقبتها البيضاوية الباقية من ايام الحرب، منخورة بالشظايا، تبدو كرأس عملاق خرافي في هذا الليل المشتعل بالأضواء والسيارات والبشر. وبعد ذلك - اذا فهمت جيداً ما ذكره - انقطع فترة عن العمل هل كان مريضاً؟ هل تحول الى هذا الرجل النحيل، الهامس الصوت، البليد الحركة، في تلك الفترة؟. بعد سينما سيتي بالاس، بعد حراسة هذه الأطلال - المسوّرة بالشبك وحواجز الباطون والحديد - عند حافة الساحة البيضاء الفارغة، انقطع عن العمل زمناً. وبعد الانقطاع عاد، وها هو الآن يحرس "فيرجين" ليلاً وبناية "برج الغزال" قال شيئاً عن المصرف الفرنسي فيها: BNP نهاراً. لكن ماذا كتبت قبل قليل؟ هل قلت انه كان "بليد الحركة"؟ الأفضل أن أمحو هذه العبارة: كان جسمه ثقيلاً مع انه نحيل، بل شديد النحول، لكنه لم يكن بليد الحركة. اعني لم تكن حركته بليدة بسبب كسل فيه. على العكس: بدا كأنه يجاهد - كأنه يبذل طاقة خيالية، طاقة غير انسانية - كي يتمكن من الحركة، وكي يتمكن من قول ما يريد. احاول ان أستعيد الأحداث بالتتالي الزمني، ولا أدري هل أنجح في هذا أم أفشل. فأنا بعد ذلك سأجلس معه وقتاً طويلاً. وهذا سيترك أثراً في ذكرياتي الأولى عنه. لو لم أره بعد ذلك اللقاء، لاستطعت ان أسرد ما حدث - ما رأيت وسمعت - على نحو أدق ربما. مرة اخرى صافحه وليد. وهذه المرة تحرك جوزف في مقعده كأنه سينهض لم أره حين جلس، ربما جلسنا معاً، في اللحظة ذاتها، وودّع الرجل الحارس، وكان الرجل يكرر الأسماء مرة اخرى، بالصوت الهامس ذاته. ووجدت نفسي أرفع نظري عن الصحن امامي سلطة يونانية: خس وبندورة وخيار وبصل مع جبنة فتّة وزيتون اسود وصلصة حامض ومايونيز وملح وزيت زيتون وقطرة Balsamic Vinegar وأنظر الى الرجل الذي ينظر إليّ مطيلاً النظر كأنه يتفحصني. كانت نظرة مثيرة للقلق: كأنه يعرفني. كأن بيننا صلة قديمة، وأنا نسيت الصلة. كأننا كنا اصدقاء، ثم حدث امر ما، وأنكرت صداقته. لكنني لا أعرف هذا الرجل، هذا الحارس الذي يُدعى بطرس، الذي يبدو مريضاً، بشعره الأسود ووجهه الشاحب الضارب الى بياض كأنه بياض الشمع. لا أعرفه، فلماذا يرمقني بنظرة العتب هذه؟ كنتُ على وشك إزاحة نظري والدخول في كلام - اي كلام - مع جوزف، حين تكلم الحارس موجهاً كلامه إليّ مباشرة. انحنى بظهره قليلاً، وقد اعطى كتفه لوليد - الذي كان يجلس عندئذ - كأنه لا يريد ان يسمع احد غيري كلماته. وسمعته يقول: - أنا أعرفُك. أعرفُك وأقرأ ما تكتبه وعندي كل كتبك. أقرأك وأريد ان أخبرك شيئاً. ليس الآن، ليس هنا، هذا ليس لا المكان ولا الوقت المناسب، كيف أستطيع ان أراك؟ * من رواية تحمل العنوان نفسه وتصدر عن دار الآداب والمركز الثقافي العربي بيروت والدار البيضاء.