ثمة تغيير جوهري يعصف باستراتيجية الأمن الوطني، صمم ليتناسب مع خطورة التحديات السياسية والأمنية المتشابكة التي تواجه الأردن هذه الأيام، وتؤمن له دوراً قيادياً في مجهود أقليمي جديد بمواجهة مد تنظيم"القاعدة"الارهابي، والنفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، ضد مصالح أميركا وحلفائها. من وجهة نظر اصحاب القرار، فإن الدور الإيراني وتحالف طهران مع دمشق و"حماس الخارج"، وكذلك خطة رئيس الوزراء الاسرائيلي يهود اولمرت لانسحاب أحادي الجانب من الضفة الغربية، وبوادر حرب فلسطينية داخلية، تستدعي دوراً امنياً يتخطى الحدود، لاكتشاف مخططات الآخرين، ووضع الاستراتيجيات الامنية والسياسية، لمواجهتها. إذ أن درهم الوقاية الآن خير من قنطار علاج، والسياسة فن المستحيل. ضمن الحسابات الاردنية ايضاً ستشهد السنة المقبلة على ابعد تقدير حرباً اميركية جديدة في المنطقة، ضد ايران هذه المرة، ما سيدخل المنطقة في كابوس المواجهة، اضافة الى ان هناك تيارات متنفذة داخل اسرائيل واميركا، وغيرها، تعتقد ان حال الفوضى مفيدة على المدى المتوسط. ازاء ذلك، بدأ الاردن اعادة النظر في دوره السياسي والامني، وحساباته المحلية والاقليمية، حماية لمستقبله المهدد شرقاً وغرباً وشمالاً. كل ذلك فيما تبدو الجبهة الداخلية هشة، والاوضاع المعيشية اليومية في تراجع مستمر، بسبب تداعيات رفع اسعار المحروقات، وجمود في مسار الاصلاح السياسي، وتراجع مخيف لثقة الشارع بالحكومة، وتوتر عال مع حليف"حماس"في الاردن، ممثلاً بالحركة الاسلامية واسعة النفوذ، وصديقة السلطة لأكثر من ستة عقود في مواجهة خطر الشيوعية والقومية. تطلب ذلك إعادة هيكلة شاملة لوسائل وآليات المتابعة والنشاط الاستخباري لدى دائرة المخابرات العامة، التي كانت أول جهاز استخباراتي يخترق تنظيم"القاعدة"العالمي في مرحلة التكوين في أفغانستان في نهاية الثمانينات على يد السعودي المنشق أسامة بن لادن، اضافة الى كونها حليفاً اقليمياً رئيساً في دعم الحرب العالمية على الإرهاب. الملك عبدالله عسكري التنشئة مدني التعليم، وخبير متمرس في مقاومة الارهاب من خلال موقعه السابق كقائد للوحدات الخاصة، اشرف بنفسه على اعادة الهيكلة، بمساعدة مالية وتقنية من اميركا. جزء كبير من الإستراتيجية الجديدة مبني على سياسة الهجوم الاستباقي غير التقليدي، بهدف الوقاية والحماية، من خلال تحرك استخباراتي نشط خارج الحدود، خصوصاً في دول الجوار، وبين العشائر العراقية والسورية في المناطق المحاذية، لإحباط عمليات إرهابية في مرحلة الإعداد. إضافة الى نشاطات مكثفة لاختراق الحركات والإطراف الإقليمية، برعاية إيران، والتي تسعى الى الحصول على موطئ قدم في دول الجوار، لاستخدامها كإحتياط استراتيجي في المستقبل، لتوريط اميركا وحلفائها، إذا ما وقعت المواجهة العسكرية بين أميركا وإيران، على خلفية الملف النووي. والتقديرات أن ايران تعد خطة"يوم القيامة"لليوم الثاني، حيث ستسعى طهران إلى توسيع حدود المواجهة بينها وبين أميركا، لتمتد الى العراق ودول الخليج والمشرق العربي، لتطال الضربات الإيرانية المباشرة أو الحليفة، أهدافاً أردنية وإسرائيلية. وستنخرط في المواجهة بين المعسكرين المتناحرين الميليشيات والأحزاب الموالية لايران بدءاً بالعراق وانتهاء بسورية ولبنان، وفلسطين. التغيير الاستراتيجي يوفر للأردن نافذة للعب دور إقليمي سياسي، عبر البوابة الأمنية، خصوصاً بعد فشل الرهان على تعزيز دور عمان الإقليمي السياسي، من خلال دعم مسيرة السلام الشرق أوسطية، والتي توقفت خلال السنوات الماضية. هذا التغيير جاء بعد سلسلة مراجعات داخلية عميقة بدأت مع انضمام الأردن كطرف رئيس في الحرب العالمية على الإرهاب، عقب هجمات 9/11/2001 على نيويوركوواشنطن، واشتدت بعد نجاح تنظيم"القاعدة"العراق، بقيادة الطريد الأردني أبو مصعب ألزرقاوي، في أول عملية انتحارية تضرب عمق عمان من خلال تفجيرات ثلاث فنادق في شهر كانون أول نوفمبر من العام الماضي. فالاردن، بحسب المسؤولين، اصبح الاول في المنطقة على لائحة مستهدفي"القاعدة"، بسبب موقف شخصي يحرك الزرقاوي ضد الاجهزة الامنية، وبسبب تحالف المملكة السياسي والامني والاقتصادي مع واشنطن وادواتها في المنطقة. وبعد تفجيرات الفنادق، توعد الملك بمطاردة الزرقاوي ومعاقبته، ونقل المعركة على الإرهاب إلى خارج الحدود. يتجه التركيز الامني/ السياسي اليوم الى الخارج، أكثر منه إلى الداخل، مع أن احداً من المسؤولين لا يخفي ان هناك تنشيطاً على الساحة الأردنية لأطراف إقليمية وحركية، لتجنيد عناصر محلية، للحصول على موطئ قدم للمستقبل. وفي خلفية المشهد الاكبر مسلسل أزمات وتوترات مع سورية، وسط حملات صحافية متبادلة وخلافات سياسية جوهرية، اذ يعتقد الأردن أن التحالف السوري - الإيراني يستهدف بين أطراف عدة الساحة الأردنية. وحسب أصحاب القرار، فإن ايران حددت أهدافاً على ارض الأردن وفي الخليج، لضربها في حال تعرضت لهجوم أميركي، وهي تعتمد على دعم لوجيستي سوري. كما يزعم أصحاب القرار بأن دمشق تقدم تسهيلات لكل تنظيم يخطط لضرب الأردن مثل تهريب اسلحة وتدريب عناصر على تنفيذ هجمات ارهابية، على ما أظهرته اعترافات المعتقلين على ذمة قضية"أسلحة حماس". وباعتقادهم أن الجماعات الفلسطينية المعارضة تنشط في دمشق، بالتعاون مع"حزب الله"، لضرب المصالح الأردنية. أما في دمشق، فإن المزاج الرسمي تجاه الأردن ليس أفضل بكثير. فسورية تنظر الى الأردن باعتباره طرفاً أساسياً في التحالف الأميركي ضدها، وفي مقابل الملاحظات الأمنية، وسورية لها على الاردن مآخذ أمنية خطيرة. اذ تعتبر دمشق أن الأردن منخرط في مؤامرات أميركا لإطاحة النظام السوري، من خلال دعم المعارضة في الخارج والداخل، وأنه بدأ يتحرك بين عشائر السنة وجماعة"الإخوان المسلمين"المحظورة، من خلال الاحتكاك مع بعض النشطاء والقيادات من المقيمين على أرضه منذ مجزرة حمص وحماة في الثمانينات. يستهدف جزء من النشاط الاردني الاستخباري في الخارج تنظيم"القاعدة"العالمي وفروعه في العراق والدول العربية والخليجية، بالإضافة الى رصد تنظيمات مسلحة تعمل في دول مجاورة. فالمنطقة الإقليمية الملتهبة أصبحت نقطة صراع استخباري للمحورين، وللمتحالفين معهما، والاردن في عين عاصفة المخاطر الإقليمية، وقد يتأهل للعب دور أساسي في محور المتضررين العرب من تنامي نفوذ إيران، وحلقة عمق أساسية لتحقيق الاستقرار في الإقليم. ويقوم جزء آخر من الإستراتيجية الكلية على مفهوم مفاده انه اذا توفرت حماية الأمن الوطني فإن حماية لدول الجوار تتوفر بالضرورة، من خلال التعاون معها وتبادل المعلومات والأفكار ضمن الشبكة، وان تفاوت حجم الأدوار، وكمية المعلومات المتبادلة. وقد نجح الجهد الأمني الأردني في إحباط عمليات إرهابية عدة ل"القاعدة"في دولتين خليجيتين. وهذا يعطي الاردن دوراً جديداً، وقد يساعده على تعزيز جدوى حصوله على دعم اقتصادي ومالي من دول الخليج. هناك جزء آخر في الإستراتيجية الجديدة يقوم على عرض الانجازات الأمنية على الرأي العام، عبر الإعلام المحلي الرسمي والخاص، لتحضيره للمستقبل، خصوصاً إذا اضطر الأردن الى تشديد قبضته الأمنية، لمواجهات تحديات داخلية وخارجية. وأول تجليات التغيير النوعي في العمليات الاستخبارية عابرة الحدود بانت هذا الأسبوع، عندما أعلنت دائرة المخابرات العامة اعتقال"مسؤول الغنائم"في تنظيم"القاعدة"في العراق، زياد خلف رجا الكربولي، بعدما استدرجته الاستخبارات إلى مكان خارج العراق، عقب جهد استخباري وملاحقة من جانب مجموعة"فرسان الحق"الحديثة، والتابعة لوحدة العمليات الخارجية في الدائرة، بإسناد من الكتيبة"71"التابعة للعمليات الخاصة في القوات المسلحة. وقبل أيام من ذلك عرض التلفزيون الأردني اعترافات لثلاث من الموقوفين على ذمة قضية"أسلحة حماس"، بعضها إيراني الصنع، تقول عمان انها دخلت الأردن من سورية، بتدبير من بعض قادة"حماس"المقيمين هناك. بدورها تنفي دمشق و"حماس"هذه الادعاءات. مساء الثلثاء، عرض التلفزيون الأردني تسجيلا للكربولي، الملقب ب"أبي حذيفة"، والذي باشر المدعي العام إجراءات إحالته الى محكمة امن الدولة. بصوت هادئ ومتزن، اعترف الكربولي، بعمليات قتل وسلب وخطف سيارات وشاحنات على الحدود الأردنية - العراقية، مستغلاً وظيفته كمخلص جمركي على نقطة حدود الطريبيل العراقية، بحسب التحقيقات الأمنية، ليقوم بهذه العمليات التي شملت قتل السائق الأردني خالد الدسوقي في أيلول سبتمبر الماضي، وخطف الديبلوماسيين المغربيين عبد الرحيم بو علام، وعبد الكريم المحافظي، اللذين قتلهما تنظيم"القاعدة"في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، بالإضافة إلى خطف وكيل وزارة المال العراقي ثم إطلاق سراحه، بعد الاحتفاظ بسيارته المصفحة. وتخللت التسجيلات التلفزيونية مقطع للقطات ثابتة للمعتقل الكربولي، محاطاً برجال أمن مقنعين، وهو ينزل من مروحية عسكرية أردنية، وكذلك مقابلات مع عائلة الدسوقي، مكونة من زوجتيه وأطفاله الخمسة وشقيقته، معبرين عن فرحتهم بإلقاء القبض على القاتل المزعوم، ومناشدين الحكومة إعدامه في وسط ساحة المسجد الحسيني الكبير، في قاع مدينة عمان، ليكون"عبرة للآخرين". لكن تبقى هناك خشية من تبعات كثيرة قد يجرها الأردن على نفسه بعدما قرر أن يصبح رأس الحربة الأنشط في مواجهة التحديات الأمنية والسياسية على كل جبهات الخارجية وفي الاقليم، بموجهة قلق داخلي وانقسام مجتمعي حول السياسة مع العراق وحكومة حماس الجديدة في فلسطين، والتقارب مع أميركا وإسرائيل. وقد تؤدي هذه التحركات الاردنية، والتي قد يراها بعض المتضررين بأنها استفزازية، إلى إشعال روح الانتقام من المملكة، من خلال القيام بعمليات متتالية، أو من خلال اشعال الجبهة الداخلية من خلال أستغلال الصعوبات الاقتصادية والتوتر مع الاسلاميين. لكن قوة العالم العربي انهارت، وخارطة التحالفات تغيرت، خصوصاً بعد انهيار العراق وصعود نجم ايران والاسلام السياسي في المنطقة، وهناك سباق عالمي على استرضاء أميركا، اتقاء لشرها. والأردن البراغماتي يحاول حماية نفسه بالطرق الامنية كافة، وعبر اللجوء إلى المجهود الديبلوماسي: افضل وسيلة لحل الصراعات العالقة. * كاتبة وصحافية من الاردن.