طغى في العقد الأخير، وما زال، مصطلح المجتمع المدني على مختلف الخطابات السياسية الحزبية العربية، وعلى وجه التحديد الخطاب الليبرالي واليساري والقومي، وباعتباره المصطلح المهيّمن والمبالغ في شاعريته حدّ الافتنان والهيام، من دون أن نغفل أنه من أهم الموضوعات في علم الاجتماع والسياسة. إلا أنه مفهوم مُختلف عليه في التفسير والتحديد والوجهة من زوايا شتى، ويحمل تأويلات بعضها ينطوي على اتجاهات بالغة التطرف، بدءاً من تحديد الدور الإنساني ودور الاقتصاد ونظام الدولة والثقافة المحلية على ضوء علاقات الانتاج. فغياب التحديد يعني مباشرة غياب المرشد في الحياة السياسية، خصوصاً في عالم ثالث ما زال يخطو نحو الديموقراطية، هو أول من يتأثر بموجات وممارسات العولمة الغربية، وبالذات منها ممارسات الليبرالية المتوحشة في اعصارات عولمتها الاقتصادية، في حين ينبغي أن يستمد مشروعه من كينونته وقيمه التي يفرضها واقعه. ويتباين هذا المفهوم الأوروبي الغربي مع المفهوم الأميركي، لكن أوروبا في مقاومة هذا المفهوم، وضعت مفاهيمها النظرية في مصاف الهدف الأساسي لاهتمامات علومها الإنسانية حول الاستخدام المعاصر للمفهوم المذكور، فثمة أشكال متنوعة ومختلفة من المجتمع الرأسمالي، رغم أنها جميعها ترتبط بميلاد الحداثة والمواطنة والديموقراطية، وفي استخدامات متباعدة ومتنوعة، يهمنا منها ذلك الإنساني الذي أخذ السياق التاريخي في الاعتبار، وربط شروط الديموقراطية بمفاهيم وتوجهات إنسانية نحو عدالة اجتماعية نسبية ما. منذ تسعينات القرن الماضي، أي منذ انهيار المنظومة السوفياتية، تغيرت وبدرجة متسارعة خريطة معتقدات الفكر الإنساني اليساري العربي. فالبعض بات يقدم المجتمع المدني باعتباره النظرية الاجتماعية الحديثة، والآخر في حال هيام أشبه بحال ثأر من ماضوية ذاتية. وفي مبالغة تقفز عن أن مصير التحول الديموقراطي العربي، تعتمد أساساً على حل اشكالية الصراع، يجدر الربط بين الديموقراطية والعدالة الاجتماعية، والإدراك بأن مفهوم المجتمع المدني قد استخدم من قبل الغرب في الحرب الباردة في معارضة الدول الاشتراكية السابقة، فهو راهناً بات يلعب دوراً رئيسياً في إعادة النظر في طبيعة المجتمعات الليبرالية بنية وممارسات، وفي ضبط وترشيد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وفي أوروبا بالذات، تعرض على الصعيد العملي للتنقيح المستمر عبر أنماط مؤسسية مجتمعية، وصولاً الى خليط مناسب للحال المعينة في زمانها. أما عربياً، فقد افتقد استخدام مفهوم المجتمع المدني الى الدقة التي يستحقها، حين يجري تقديمه كمذهب خالص نقي فضفاض وبلغة احتفائية معممة، باسم النظام الاجتماعي المنشود، أو خروجاً من المأزق الراهن. وفي غياب تحديات واستراتيجيات تحرك مثل هذه الخطابات والأدبيات المهيمنة، عبر تحديد نموذج نظام اجتماعي، بدءاً من الآراء المتعارف عليها بشأن السوق الحرة والصراعات الطبقية وبما يولّد ذلك من دلالات في المعيار التقويمي تؤدي الى الكشف بجلاء عن الروابط المدنية، وطالما أن رأس المال الاجتماعي ليس محايداً، فهو جوهر القدرة على التحدي، انطلاقاً من الواقع الاقتصادي وعلاقات الانتاج ومفاهيم معينة نسبية من العدالة الاجتماعية، باعتبارها الطاقة التي تعمل بها الديموقراطية، أي في مقاربات مفاهيمية واقعية غير منغلقة، تمكن الناس من المشاركة في الممارسات الترابطية. وطالما أن كل المفاهيم قابلة جوهرياً للجدل، وبالذات تلك الوضعية المصاغة اجتماعياً وتاريخياً، نخص منها مفهوميّ الديموقراطية والعدالة الاجتماعية، بالبحث عن نموذج بناء معقول لمقاربة مفهوم المجتنع المدني من حيث الجوهر، فإن حال الترابط ينبغي أن تجري باستخدام محدد لرسم السياسات والممارسات، وليس عبر افتراضات ذهنية عامة، وفروع معرفية شاقة، فالنظرة الوضعية تعني أولاً بالظاهر والوقائع، بعيداً عن أي تجريد أشبه بالهرطقة وعملية غناها ومراكمتها تقوم على أنها قابلة للجدل الخلاق لا الى الفناء الفكري. وفي مراجعة سريعة لتاريخ المفهوم، فإن تراث المجتمع المدني المستمد من المفهوم الأوروبي، أصوله مغرقة في القدم، بدءاً من الفلسفة الاغريقية أرسطو، حين ارتبطت فكرته منذ تلك البدايات، بالمبادئ الأساسية للسياسة وعلم الاجتماع، ثم حقق قفزات عملاقة منذ القرن الثامن عشر، حين قام مفكرو أوروبا برسم الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع المدني، كأداة نقدية عملية في مواجهة أنظمة الحكم المطلق، وصولاً الى مرتبة تحليلية في فروع المعارف المتخصصة في مجالي السياسة وعلم الاجتماع، اللذين ينصب اهتمامهما الأساسي على فكرة المجتمع المدني. تلا ذلك، التراث المستمد من الفيلسوف هيغل، ومن ثم ماركس على وجه الخصوص، والذي قام بتحديد مباشر في مقولته المتكررة عن الاقتصاد السياسي للرأسمالية، وفحوى كتابه"الثامن عشر من برومير"، والتي آثرت تحليل التركيب البنيوي للمجتمع المدني، والتماسه من الاقتصاد السياسي، فما ذهب اليه ماركس ايضاً، هو أن قوى التغيير التاريخي المصيرية، التي يقع الفاعلون البشر ضحية لها، هي ذاتها من اثارة الفعل الانساني، ومن آثاره الجانبية غير المتوقعة. فالاخفاق بالمعايير العقلانية، هو نتيجة العمى وعدم التبصر بنواحي القصور، وصولاً الى نظرية"الأزمة". ويعتقد مارسك ان المؤسسات التي عززت سوء التوجيه الخاص بالفعل، يمكن تغييرها هي ذاتها، من خلال نوع محدد جداً من الفعل، يمكن تسميته ب"الثورة أو الصراع الطبقي". وينبغي هنا التأكيد على أن اخفاقات نهايات القرن العشرين في نموذجها السوفياتي قد مرت بذات الاعتبار المعياري للعدالة الاجتماعية، أي بذات نوع"العمى وعدم التبصر"، ونحو العودة مجدداً الى مفاهيم المجتمع المدني، السلم والانسانية، ومؤازرة أسباب الحياة والعدالة الاجتماعية، باعتبارها المفاهيم المعاصرة للهوية والمواطنة، التي هي امتداد حتمي للديموقراطية، ولممارستها من قبل جميع شرائح المجتمع، وهي مسارات مسيطرة بغض النظر عن المكان الذي تنتمي اليه في هذا العالم، لكنها في الدراسات النظرية الأوروبية تتركز حول الى أي مدى ينبغي احتواء شروط السوق. وفي تحديد أكثر لهذا التراث، برز منهج آخر، اعتمد عليه غرامشي، وسار عليه آخرون بعده أبرزهم"هابر ماس"، الذي اهتم بالجوانب غير الاقتصادية للمجتمع المدني، بنظرته اليه ككينونة منفصلة، ليس عن الجهاز القهري للدولة فحسب، بل ايضاً عن المؤسسات الاقتصادية للمجتمع. ومركزه هو الميدان الذي يتم به دعم ومنازعة فرض الهيمنة، عبر المؤسسات الثقافية والاجتماعية والأنشطة المجتمعية. وتواصل من بعده ايضاً، من فصل الحقول الاجتماعية الثقافية عن الحقول السياسية والاقتصادية، ولكن عبر نظرة أن لكل من هذه الحقول منطقها الخاص، فالسياسة لها السلطة والادارة، أما التراكم فيكمن في الاقتصاد، والتواصل الحر والمفتوح فهو في المجتمع المدني. وهنا يجري استثناء السوق وفق هذا المنهج، باعتبارها تقوم بنفس العمليات البيروقراطية للدولة، فهي تعمل بكينونتها الذاتية المستقلة، لكن مبدأ هذه الكينونة المستقلة يهدد تماسك الحياة العامة والمجتمع المدني وماهيته، لأن المجتمع المدني لا يوجد في فراغ مستقل مكتف بذاته، بل في موقع الحاجة للموارد المادية والثقافية المختلفة. إن مجموع الملاحظات السابقة، لا ينتقص من حقيقة ان على المجتمعات العربية أن تعيد بناء ذاتها، لتتحول الى مجتمعات مدنية، انطلاقاً من احتياجاتها، وما يتطلبه ذلك من اصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، لا أن يعكس موجة الضغط الخارجية، وبما يوحي منطق عملياتها الأولى في الليبرالية الاقتصادية بلا حدود، وعلى"تأليه"السوق والأرباح الهائلة لصالح الشركات العابرة الكبرى، والتي تتحول مصالحها الى استراتيجيات للهيمنة مغلفة بشعارات ديموقراطية عامة. بينما المهمة البحثية العربية الراهنة، تبدأ من حقيقة ان الاستقلال الاقتصادي هو وحده القادر على تكريس الاستقلال السياسي، وبالتركيز على قضايا العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وإعادة توزيع الثروات والمداخيل من خلال إعادة سيطرة الشعوب على ثرواتها ومقدراتها، الى جانب البعد السياسي. فالرأسمالية بلا حدود تفتقر الى ضبط النفس أمام المزيد من الاحتكارات والمكاسب وعلى حساب الطبقات الفقيرة والوسطى، وازدياد معدلات البطالة، وتراكم هذه الظاهرة خصوصاً بين ملايين الشباب، الذين لم يرعاهم المجتمع في التعليم والصحة والحق بالعمل. فالشعارات المجردة باسم"الديموقراطية"، لا يمكن الوثوق بها كأساس لاصلاح وتطوير المجتمع وتحقيق التنمية من دون ربطها بالعدالة الاجتماعية، ومن دون تقديم تصورات نقدية لمكونات النظام المؤسسي الثلاث، الدولة، السوق، المجتمع، فالثقافة المدنية لا تنشأ نشوءاً آلياً. وأخيراً، أليست معضلة الفقر والبطالة سبباً في صعود تيار الاسلام الأصولي السياسي المتشدد، على صعيد المجتمع العربي عموماً من جيوش المهمشين، والذين باتوا مشكلة معقدة تواجه عملية التحول الديموقراطي العربي، بما ينطوي عليه لاحقاً من اتجاهات سياسية واقتصادية وثقافية بالغة في التطرف؟ * كاتب فلسطيني