افترضت نظريات التحديث السوسيولوجية التقليدية، دوراً للحرب في بزوغ الحداثة، بوصفها المشروع الأسرع نفوذاً لنظرية التغيير الاجتماعي الكلية، ومدخلاً لفهم التطورات الاجتماعية لعصرنا. واتفقت معها الليبرالية المجددة والمرممة في الفلسفة الاجتماعية، بأن الحرب والعنف من مكونات الحداثة، على رغم ان نظرية التحديث ما تزال ترتبط بإحلال أحلام عصر حديث مُبرأ من العنف. في هذا التباين كان عليها تفسير النزاعات التي يستخدم فيها العنف، باعتبارها جوانب من مرحلة ما قبل التاريخ البشري المتمدن، ومن ثم التمحيص بدقة في الحروب الاستعمارية والامبريالية العسكرية والاقتصادية، والعدوان الاقليمي وصولاً الى المواجهة النووية. وفي سياق تناقضات الاطار المرجعي والرؤى والنظريات التي تعرضت للنقد الحاد، طال الأساليب الفكرية للبناء النظري والفرضيات الأساسية الكامنة في رؤيتها الكونية، التحديث الذي انتهى الى ثورات القرن العشرين، نتاج التأثيرات الداروينية على الفكر الاجتماعي، فقد قدمت الحرب والعنف باعتبارهما من مكونات الحداثة، طالما انهما مهدها وأصول نشأتها، من خلال بحث العلاقة بين التحديث والحرب والثورة، فيما قفزت عن انبثاق الفاشية من رحم روح حروبها، وتأثيرات دور الحرب الأهلية على جوهر الحداثة، ولم تستطع به تقديم تفسير تاريخي لبزوغ الاقتصاد الرأسمالي في باكورة العصر الحديث، كما لم تستخلص نتائج هذا التفسير التاريخي في ما يتعلق بشروط"الديموقراطية والتنمية"في مناطق أخرى من العالم، بوصفها راهناً نتاجاً اميركياً شمالياً، يتيح لها استغلال التفوق في تكنولوجيا الاتصالات لتنويع حداثات بعيداً عن الحرب، ومن ثم تقديم مفهوم واسع للعلاقات بين الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية في المجتمعات العصرية، يتجاوز الرؤية الضيقة للبنية الفوقية الاميركية الشمالية، بتعصبها وانغلاقها على بنيتها الأساسية، وبمعنى ما فقدانها للتفسير الموضوعي لشرعيتها المنطقية وأسبابها وتأثيراتها، ومراوحة الداعين والمنتسبين اليها بالاستناد الى وهم اعتناق نظرية لها تراث عريق، ونقلها الى مجرد صراع بين معتقدات سياسية تخدم ايديولوجيا بذاتها، في مستوى التنظير والتجريبية الدموية الجشعة بدلاً من البرامج الواقعية، وفشل ادعاءاتها حول الحرب وحول تطورات الحداثة، ما تشير له الدراسات الاجتماعية التاريخية بهذا الصدد، وشكوكها بقوة الأسس والخلفيات والمنطلقات. في مواجهة الادعاءات حول ديموقراطيتها، برزت اليوم وتميزت الحركات الاحتجاجية في الغرب، كتعبير عن الخوف من سلطتها المعرفية، التي تستبطن في حروبها التجريبية الاستعمارية نمطاً من القمع والإقصاء، يحول بينها وبين التعبير عن مصالح شعوبها، الذين لا يمكن اختزالهم في طبقة اقتصادية ضيقة في البناء الفوقي. فخلف تجريبيتها تخفي رزمتها المعيارية. وفي الوقت نفسه تقدم مفارقاتها بتحديداتها القسرية لمنحى توجه العلوم الاجتماعية. والخلاصة مزيد من تعميق الصدوع الداخلية لنظرية التحديث وجهودها التنظيرية الوظيفية، المناقضة تماماً للحياة المتمدنة الرافضة للنزوع الى الحروب. وحين يشاهد العالم استعارة حاجتها للحرب باستخدام منطلقات الدين والأخلاق، وإعلاءها ذلك في الخطاب اليومي المموه الى مصاف المنافسة الاقتصادية، التي عبرت عنها الليبرالية ب"التبادل التجاري السمح"، وإحكام رفض بناء مثل هذا النظام بإملاءات العقل والمنطق عبر المنافسة الرياضية. وعلى هدي هذه الافتراضات تملي التجارة الحرة مشاركة المواطنين في سياستها الخارجية، ومثلها الاتفاقات والمعاهدات كوسيلة لصوغ العلاقات بين الدول في المفاهيم الليبرالية للسلام، وفي حكم القانون الذي يوجب منع الحرب وجميع أشكال العنف ضد البشر في المجتمع العصري والمتمدن، بدلاً من إعفاء النظرية"المجددة"للتحديث من التأثر والاستخلاص من حروب وأحداث التاريخ العالمي، وعلى وجه التحديد الحربين العالميتين. وعن مدى القدرة التدميرية الكامنة في بعض برامج الحداثة، حين تصل ذروتها الى أدلجة الحروب والعنف، فهي تضع وعودها موضع تساؤلات كبرى. كما ان الحركات الأصولية لا يمكن فهمها بالكامل الا ضمن هذا الاطار. لقد سبق أن توحدت وتوالفت كل الرؤى والنظريات التي وردت في التراث الكلاسيكي لأدبيات العلوم الاجتماعية بين 1880 و1920 وبرزت بعدها على أرض الواقع العملي برامج البحث الواقعية في سياقها، ومنه منهج البدائل الماركسية للتنمية، فتناولت موضوعات التطور الرأسمالي والحروب الاستعمارية والعدوان الاقليمي، مثل ما شهده العالم في الحرب العالمية الثانية، واستخدام السلاح النووي للمرة الأولى في العالم. ثم الثنائية القطبية وسباق التسلح خلال الحرب الباردة، والتي انتهت بانهيار الاشتراكية السوفياتية الطراز. وبحسب ماركس فإن العمليات التناحرية من حيث طبيعتها تتضمن في داخلها التناقض، وتحويل كل حد الى نقيضه، وينسحب ذلك ايضاً على الرؤية ذاتها لتعاليم روسو حول المساواة. فقد كان الجانب البرجوازي من مطلب المساواة بلا خدمات أو وجود قابلية استيلاد. ففي الحالة الطبيعية كان البشر متساوين، وفي زمن روسو كان هذا المطلب حاداً في صيغة المطلب البشري العام وبرز في صورة التكيفات الحقوقية والسياسية المرتبطة بالنجاح الآني والإثارة وبحسب تعبير ماركس 1865"ذاك الذوق الأخلاقي البسيط والحصيف، والذي كان يحمي مثلاً روسو من كل مساومة مع السلطة القائمة، وإن كانت تبدو كذلك". في سياقنا المعاصر يتناول الكاتب ريجيس دوبريه اغتيال العقل في كتابه"حوليات الحماقة الظافرة"، بأن الحمق والمأسوية وأن أولى ضحايا الحروب هي ملكة التفكير، وينطلق من زاوية إنسانية غير متحيزة يميناً أو يساراً، وكي لا ينجرف العالم إلى ويلات وكوارث، فالتغليب والتماهي بالحروب الدينية والحضارية، كما يرى، تتسم بالعمر المديد، خلافاً لأي حروب ايديولوجية أخرى. ويكمن حلها في مواجهة العجرفة الطائشة المنغلقة الراهنة، وبما تحمل من كلمات فارغة عن التحرر والديموقراطية في سبيل مصالح سائر الشعوب، بإدراكه العميق للعلائق الفعلية للحرب، والتي تستعاد في شكل الهبات للمرابي حين تسيطر على انتاجه العقلي. وفي هذا المنحى، فإن كلمة"ديموقراطية"الأميركية المدلول هي مرادف لكلمة"حضارة"بالمعنى المحدد السابق للدول الاستعمارية، وقد ركز على كلمة للجنرال ديغول ابان الحرب الأميركية على فيتنام:"ان طائرة ب 52 لا تقضي على الشعور الوطني، وتدمير الأرض لا يعني امتلاكها". كذلك، وبالإدراك، ثمة اجماع على أن نمط الانتاج الرأسمالي هو نمط عالمي ودولي وتوسعي بطبيعته ومنذ نشأته، بدءاً من آدم سميث ومروراً بماركس ولينين وتروتسكي وروزا لكسمبورغ، وصولاً الى هنتينغتون وانتوني جيدنز. في الاطروحات النظرية الاجتماعية ان الاستخلاص من جميع الدروس المستلهمة عن الاصول الاجتماعية للديموقراطية والديكتاتورية، وازالة العقبات التي تقف في وجه محاولات الديموقراطية، يبرز في السياق الأول نشأة وانتشار الفاشية من روح الحرب، وهو الدرس الأول في أوروبا لحربين عالميتين وفي استنتاج الاجابة على مفهوم التحديث والاستخلاص الأوروبي، فإن المحافظين الجدد في الجدل المحتدم قد اعتبروها مفاهيم"هرمة"، مقارنة بالحداثة الأميركية الشمالية، وتعبيراً عن رفض المفاهيم الأوروبية لشيخوخاتها. هكذا تبرز الخلافات بين منجزات بناء الفكر الاجتماعي ومحاولة الإمداد بافكار مقنعة تتناول الأصول والزمان والتطور وبين النزوع المنجرف للحروب. من هذا المنظور تأتي الحرب بالدمار، وتتبعها كنتيجة الثورات وانتشار حال من السخط والرفض الذي تبزغ منه القوى الثورية، في محاولة عصرية محمومة لاستعادة التحديث، واستعادة الزمن. فالثورة الفرنسية ساهم بها الى حد كبير التنافس الانكليزي - الفرنسي في القرن الثامن عشر، وكذلك الثورتان الروسيتان 1905 و1917، الأولى ساهمت بها الحرب الروسية - اليابانية التي انتهت بهزيمة روسيا، والثانية ساهمت بها الحرب العالمية الأولى التي أفضت الى دمار شديد في البنية الاجتماعية وانهيار التنمية، كما جسد نتائجها بروز الفاشية في المانيا. الآن وبعد الاستدارة الواسعة في الزمان، فإن الحرب على العراق التي حصدت من أرواح العراقيين قرابة ثلاثة أرباع المليون إنسان، جريمة لا يبررها عقل وبمصاف جرائم الابادة، وبرسم الليبراليين العرب الجدد، وبالذات الذين انتقلوا من لاهوت الى آخر، ممثلاً ب"البيان الليبرالي الجديد"، وقد تجردوا من احترام خصوصيات الأفراد والجماعات والشعوب، وبالذات شعوبهم بالدعوة الى الحروب وبشغف محموم لعقاب البشر وفي نزوع عنيف بأن حروب أميركا هي"قاطرة"الحداثة والتطور، فيما هو مشاهد عياناً من احياء محاكم التفتيش باسم الدفاع عن الديموقراطية وفي مصيدة لجوهرها ومضمونها. * كاتب فلسطيني.