قضى ثلاثة معتقلين في غوانتنامو، ظروف موتهم تبقى غامضة حتى يبينها تحقيقٌ من جهةٍٍ مستقلة. المعتقلُ مكانُ سيئ السمعة لا يطاله القانون الأميركي ولا القوانين التي تنظم التعامل مع أسرى الحرب. تهمةُ المعتقلين الانتماءُ الى تنظيم"القاعدة"الذي لا يفرق إلا بين من يوافقه ومن يخالفه، حيثُ المخالفون جميعاً دماؤهم حلال. المنطقُ قد يقول ان الذين يعاديهم هذا التنظيم يجب أن يكونوا الأشدَ عداءً لأولئك المعتقلين، لكن الدول الغربية كانت الأشد شجباً، فبغالبيةٍ ساحقة أدان البرلمان الأوروبي ما حدث وطالب بإغلاق المعتقل، ثم واجه الرئيسُ الأميركي المزيد من المطالبة بإغلاقه، شعبياً ورسمياً، في القمة الأوروبية التي حضرها في فيينا. لم نسمع برد فعلٍ لهذه القوة في بلادنا، بل الواقع عندنا كان ويبقى عكس موقف برلمان أوروبا. الردُ الأميركي على إدانة البرلمان الأوروبي لغوانتنامو، كما جاء من بوش شخصياً، علل وجود المعتقل بخطر تهمة الانتماء ل"القاعدة"و أدعى أنه يبحثُ عن بدائل تسمحُ بإغلاقه. لم يرد بأن النقد تدخلٌ مرفوضٌ في شؤون اميركا الداخلية. فقط في بلادنا يُتهمُ المُتحدث عن حقوق الإنسان بالعمالة أو التدخل في ما لا يعنيه، و يُتهمُ من يسمي الأشياء باسمائها ب"المس بالشعور القومي"، حيث تعريف"الشعور"شأن الحكام وحدهم والقومية والوطنية هي ما يقررون. لذلك تقوم الدنيا ولا تقعد عن حق لموت ثلاثة معتقلين مسلمين في معتقل اميركي، أما عندنا فيختفي المئاتُ والآلاف ولا يُعرف لهم سبيل، ويُضربُ المتظاهرون على قارعة الطريق بالنعال فيمر ذلك كله على أكثرنا مرور الكرام بل ربما نرى في خوض الآخرين فيه تدخلاً في شؤوننا أو مساً بفخرنا القومي ! ونجدُ بيننا من يعزي بالزرقاوي وينبري للدفاع عن جزار بغداد المخلوع باسم عزة الأمة. الحديثُ باسم الأمة يجمع ممجدي الزرقاوي والمدافعين عن صدام حسين وأشباهه، لا فرق هنا بين من يُعرف هذه الأمة إسلامياً أو قومياً. ففي الحالتين تُبررُ قدسية الجماعة استحلال الأفراد كأدوات انتحاريين،"استشهاديين"أو"فدائيين" أو كأهدافٍ للقمع أو حتى القتل الجماعي. فاللأمةِ هنا نهجٌ صحيحٌ واحد تعرفه قيادةٌ واحدة لا تتمثلُ الأمةُ إلا بها ولا تمتثلُ إلا لها، ومن يعادي هذه القيادة، أو حتى يخالفها، فقد وقف في وجه خير الأمة ومن ثم فقد عادى الأمة جميعاً. تسير الجوهرة هنا في اتجاهين فخطاب القيادة هو خطاب الأمة التي هي جوهرٌ واحدٌ خيّرٌ خالص مما يعني أن كل خطابٍ آخر هو جوهر الشر نفسه، سواء كان اصحابه"أعداءً للعروبة"يستهدفون"قلبها النابض"ام أعداء لحضارة"سبعة آلاف سنة"، أم غربيين معادين للإسلام. من يجوهرُ ذاته خيراً مطلقاً لا بد بالضرورة ان يتخطى جوهرة الآخرين شراً إلى تجريدهم من الإنسانية، ومن ثم لا يقيمُ لحيواتهم أو كرامتهم وزناً، لذلك يعني موت متهم بالإرهاب في معتقل أميركي عند الأوروبيين أكثر بكثير مما يعنيه ضحايا"الشهيد"الزرقاوي أو"القائد المجاهد"صدام حسين عند كثيرين منا. هم لا يجزئون وعيهم بقيم يجبُ أن تبقى مطلقة أما نحن فنفعل. لم يتعامل البرلمان الأوروبي مع المتهمين بالإرهاب على أنهم أعداءٌ حلالٌ تعذيبهم وقتلهم بل على أنهم أفرادٌ لهم حدٌ أدنى من حقوقٍ لا بد من حفظها حتى إن ثبتت تهمٌ بحقهم، وهم في تعاملهم ذلك يعون أن حرباً على الإرهاب تتشدقُ بالدفاع عن الديموقراطية لا يمكنها أن تهدر كل أسس الديموقراطية من تقديسٍ للقانون وما يضمن من حقوق دون أن تكون تناقضاً ونفاقاً خالصين. لكن ما يمارسه الآخرون نفاقاً نعيشه نحنُ استغباءً. كذب الأميركيين هنا لا يكادُ يحتاج إلى إشارة، ليس فقط من خلال هدر منظم ومنهجي لحقوق الإنسان، كما تصرخ غوانتنامو، لكن أيضاً من خلال تشدق بالديموقراطية يناقضه سكوتٌ أو"لوم مهذب"تجاه تصرفات حلفاء مشغولين بسحق كل ما هو ديموقراطي. لأميركا مصالحها ولذلك قراءات قد تتباين، والاعتماد عليها لإحداث إصلاح ديموقراطي في المنطقة يبدو اليوم ضرباً من السذاجة. بالمنطق نفسه لا تبالي حكوماتنا إن سد مواطنوها الطرق احتفالاً بنصر في لعبة كرة، أما أن يتحرك الشارع مثلاً ضد غوانتنامو أو أن يعبر عن حنقه على ما تفعله إسرائيل كل يوم بحق الفلسطينيين فهذا شأنٌ آخر. والقمع الاختياري هذا يخدمه دوماً خطاب الوحدة والفخار في الحديث الأبدي عن"اللحظات العصيبة"و"المراحل الحرجة"و"التحديات الكبيرة"التي تحتمُ الوحدة إذ لا"صوت يعلو على صوت"المعركة". أن يصبح التعذيبُ في بلادنا أمراً معتاداً، ألا نتجمهرَ بعشرات الآلاف إلا احتفالاً بلعبة، أو ان نفرح بحرق سفارة، ليس في كل ذلك تعبيرٌ فقط عن قدرة أنظمة حاكمة على ضبط الشارع لكنه دليلٌ على نجاح في تدجينِ الوعي وتسطيحه ومن ثم في نزع الإنسانية بل السياسة عنه، فالسياسة في مجملها تعايشُ وحلولٌ وسط، وتقدير لتباين الخصوم والتفاوت والتعددية بينهم، لا رؤية كل ما هو مختلفٌ كلاً واحداً. منطقُ جوهرة الآخر هي ما ربتنا عليه أنظمةٌ قومية معاديةٌ للديموقراطية. المنطق نفسه الذي يتحدثُ اليوم عن معاداة الغرب وشن حرب مفتوحة معه لا يترك مجالاً للعلاقة بالآخر، أي آخر، إلا التصادم، لذلك يعني غوانتانامو عند الآخرين أكثر مما يعني عندنا. أما نحن فنبقى في انتظار نسخٍ أخرى من صدام حسين والزرقاوي. * كاتب مصري