لم يكن متوقعاً لميثاق الشرف الذي وقعه الأقطاب اللبنانيون ان يصمد طويلاً. مقدمات الخرق واسبابه اكثر من ان تحصى. ولو لم يلجأ النائب والزعيم الدرزي وليد جنبلاط لمثل هذا الخرق لربما لجأ إليه آخرون. على اي حال لم يكن ممكناً ان يداوي ميثاق شرف اعلامي ما افسدته الاصطفافات الطوائفية الحاشدة والتي بلغت في لبنان حداً لم يعد ممكناً معه معالجتها برتق الخروق وتعميم المواثيق. لا شك ان ميثاق الشرف كبَّل على نحو ما يد الصحافة اللبنانية ووسائل الإعلام، وهي كانت مصدر شكوى سورية منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان على أقل تقدير. لكن اقرار ميثاق شرف إعلامي لا يصب في الضرورة في مصلحة الإدارة السورية والموالين لها في لبنان. فالتخاطب السياسي في الشهور الأخيرة والتراشق الإعلامي بلغا حداً لم يعد ممكناً بعده ان يتم التغاضي عنه، وكان من الأفضل والانسب ان يتم الاتفاق بين المتحاورين، فضلاً عن القوى السياسية والصحافة في لبنان، على العودة إلى ما يمكن تسميته بأدب المجاملات السياسي، بديلاً عن قلة الادب التي كانت سائدة في التخاطب السياسي والتراشق الإعلامي الذي خرج عن الضوابط كلها. من نافل القول ان بعض الصحافة ووسائل الإعلام أخذت، في بيروت، في السنوات الاخيرة، تخرج عن الضوابط المهنية والأدوار التي يفترض بها ان تؤديها في اي مجتمع من المجتمعات. ولاح لبعض الصحافيين وكتاب الرأي انهم يستطيعون تغيير المعادلات السياسية من خلال رفع عقيرة الخطاب وتحديده. بل ذهب بعضهم الآخر إلى حد التصريح والإعلان، وصولاً إلى التهديد والوعيد، كما لو كان الصحافيون والمحللون يملكون من اسباب القوة السياسية ما يخولهم تنفيذ تهديدهم ووعيدهم او اطلاق تصريحات نارية كما لو انهم رؤساء دول قادرة. هذا التوتر في الأدوار والتضخم في دور الإعلام اللبناني جعل منه هدفاً سهلاً يمكن التصويب عليه ومعاقبته بجريمة التخريب والتحريض. إلى حد ان السيد حسن نصرالله برر الهجوم الذي شنه مناصرون ل"حزب الله"على مناطق في بيروت بحجة ان الجمهور مستفز، وينبغي عدم استفزازه. والحال أن اقطاب الحوار اللبنانيين اقروا ميثاق الشرف الإعلامي تحت ضغط هذا الهجوم. ففي منازلة اولى بين الصحافة، المتورمة الدور، والجمهور المتعصب، جرى الانتصار للجمهور المتعصب وعوقبت الصحافة. ولم يعد من سلامة الحجة ان ينبري صحافيون للقول اليوم ان الصحافة لم تكسر سيارات ولم تعتد على املاك الغير، ولم تهاجم الناس المطمئنين في بيوتهم، وان الجمهور الغاضب هو الذي فعل هذا كله وفي مناسبات متعددة كان آخرها احتجاج جمهور"حزب الله"على البرنامج التلفزيوني. كان يجدر بميثاق الشرف ان يلحظ خطورة اللجوء إلى الجمهور وممالأته على طول الخط. وان ينبري احدهم في الاجتماع نفسه للدعوة إلى ميثاق شرف يمنع اللبنانيين من اللجوء إلى الشارع وتحكيم الجماهير الغاضبة والمنقسمة على بعضها وعلى نفسها بمصير اللبنانيين. لكن ما تم إقراره بالضبط هو تقديس الجمهور مرة أخرى والهجوم على الرأي المنفرد والمفرد، لئلا نقول الفردي. فللفردية اصول وتبعات ليست متوافرة في الافراد اللبنانيين. والحق ان تقديس الجمهور ورغباته ليس من شأن فئة من الفئات دون غيرها. بل وتذهب الصحافة نفسها إلى مثل هذا التقديس، وكثيراً ما كان الصحافيون يستشهدون بالجمهور تمثيلاً على صحة ما يذهبون إليه. في المحنتين اللتين المتا بلبنان بسبب تحكيم الجمهور الغاضب بمصير البلد وحال الرأي فيه: في 2 حزيران يونيو يوم تظاهر مناصرو"حزب الله"في المناطق، وفي 5 شباط فبراير الماضي يوم تظاهر جمهور كبير امام السفارة الدنماركية في بيروت احتجاجاً على الرسوم الكاريكاتورية المسيئة، كان ثمة جمهوران اغفل واحد منهما وتم تظهير الآخر. في الحادثتين، ثمة جمهور اعتدي على ارزاقه وعلى ابنائه، لكنه لم يحرك ساكناً ولم ينجر إلى لعبة الشارع، وجمهور آخر تهجم واحتل المشهد برمته. والحق ان الصحافة التي تخوفت في المرتين من الجمهور الذي يستعرض اعتداءاته في الشارع ويجهر بتعصبه الاعمى، لم تجد في الجمهور القاعد في البيوت جمهوراً يمكن ان تستند إليه. بل تم تجاهله بوصف هذا الجمهور لا يملك مخالب ولا اسنانا يستطيع ان يقاوم بها الجمهور المسلح. والحق ان ليس ثمة جمهور بلا مخالب وليس ثمة شعب بلا اسنان. لكن قعود جمهور يعتدى عليه عن الدفاع عن نفسه وعن ارزاقه أمر يجب ان يضاف إلى رصيده لا ان يضعه في موقع من يتم تجاهل مصالحه. كان اجدر بالمتحاورين ان يدافعوا عن حق القاعدين الآمنين في بيوتهم، والذين لم ينجروا إلى الاستفزاز وان يعمدوا إلى توقيع ميثاق شرف يحرم التعدي على الآمنين، لا ان يوقعوا ميثاقاً يدعو في خلاصة امره ومنتهاه إلى تحكيم الجماهير الغاضبة ومزاجها المتغير برقاب اللبنانيين. وكان اجدر بالصحافة ان تدافع عن الجمهور المعتدى عليه، لا ان تهلل لميثاق شرف يحقن دم اللبنانيين إذا احسنوا مداراة الجمهور الغاضب. * كاتب لبناني