تشكل سيطرة ميليشيات"المحاكم الإسلامية"في الصومال على مدينة جوهر الشمالية، المعقل الاخير لزعماء الحرب المدعومين من الولاياتالمتحدة، تحولاً اساسياً في تاريخ البلاد"الغارقة في الفوضى"منذ اندلعت الحرب الأهلية بعد سقوط نظام الرئيس محمد سياد بري العام 1991. ففي 27 كانون الثاني يناير 1991، فر بري من قصره على متن دبابة، بعدما سقطت العاصمة مقديشو في أيدي"المتمردين". وفي تشرين الثاني نوفمبر من العام نفسه، بدأت الحرب الأهلية التي سقط فيها آلاف بين قتلى وجرحى، على خلفية صراع بين زعيمي الحرب العشائريين محمد فارح عيديد وعلي مهدي محمد. غير أن وساطة للأمم المتحدة بين الأفرقاء أثمرت اتفاقاً هشاً لوقف إطلاق النار، ينتشر بموجبه مراقبون دوليون، لم يلبث عيديد أن طردهم في نيسان أبريل 1992، فقرر مجلس الأمن شن عملية عسكرية، بقيادة أميركية، لفرض الاتفاق. وحط مشاة البحرية الأميركية"المارينز"على سواحل مقديشو، ترافقهم كاميرات التلفزة، بعد ثمانية أشهر من سيطرة عيديد على العاصمة، في عملية أطلق عليها"استعادة الأمل". لكن العملية الأميركية فشلت في"استعادة الأمل"، على رغم أن بعض القبائل الصومالية اتفقت على وقف القتال في أديس أبابا خلال محادثات رعتها الأممالمتحدة مطلع العام 1993. وأوقفت واشنطن تدخلها العسكري، بعدما قُتل 18 من جنودها بنيران الميليشيات التي أسقطت مروحيتين في مقديشو، إضافة إلى مئات القتلى الصوماليين، لتنسحب الولاياتالمتحدة في آذار مارس 1994. وبعد 13 محاولة فاشلة لتشكيل حكومات انتقالية برعاية دولية في الصومال، تمكنت الأممالمتحدة من إقناع المتحاربين بقبول دستور انتقالي وعقد انتخابات لاختيار برلمان موقت في آب أغسطس 2004. وبعدها بشهرين، اختار البرلمان المنعقد في كينيا عبدالله أحمد يوسف، وهو زعيم حرب مدعوم من اثيوبيا، رئيساً للبلاد، قبل أن يسمي رئيس الحكومة محمد علي جيدي 27 وزيراً، معظمهم من زعماء الحرب، في كانون الأول ديسمبر 2004. ولم تتمكن السلطات الانتقالية من دخول مقديشو، لكن يوسف وجيدي زارا جوهر في شباط فبراير من العام الماضي، قبل أن تنتقل الحكومة والبرلمان إلى مدينة بيداوة الجنوبية، حيث التأم البرلمان للمرة الأولى داخل الصومال قبل أربعة شهور. بيد أن الأوضاع الجديدة لم ترض زعماء الحرب السابقين الذين اعتبروا وجود حكومة في البلاد، وإن كانت ضعيفة، يهدد سلطانهم المتزايد. وشكل 12 منهم، بينهم أربعة وزراء في الحكومة الانتقالية، تحالفاً أسموه"تحالف إرساء السلم ومحكافحة الإرهاب"، لقتال"المحاكم الإسلامية"، بدعم من واشنطن التي اتهمت الإسلاميين بإيواء عناصر من تنظيم"القاعدة". واعتبر يوسف تشكيل التحالف الجديد محاولة لتقويض السلطات الموقتة. وشهدت مقديشو معارك ضارية بين زعماء الحرب و"المحاكم الإسلامية"، التي تتشكل أساساً من 12 محكمة عرفية، تطبق أحكام الشريعة الإسلامية في أنحاء متفرقة من الصومال، وتحظى بدعم قبلي واسع. وسقط ما لا يقل عن 375 قتيلاً ومئات الجرحى في القتال الذي انتهى بإعلان الميليشيات الإسلامية سيطرتها على مقديشو. ورحبت الحكومة بانتصار الإسلاميين، وتحاورت معهم، قبل أن يزحفوا شمالاً في اتجاه جوهر التي تحصن بها زعماء الحرب وسقطت أمس، لتحكم"المحاكم"قبضتها على غالبية المدن الصومالية الاستراتيجية... ومستقبل البلاد.