قد لا يتخيل الإنسان الذي يعيش في المجتمعات المتطورة كم هو تحت المراقبة. وليس المقصود هنا طبعاً الكاميرات والتنصت على الهاتف، وهي وسائل اصبحت معروفة. فالتجسس المعلوماتي على الإنسان تخطى التحركات والمظهر الى ما هو أعمق من ذلك، إلى طريقة الإنسان في التفكير وبالتالي تصرفه وطريقة التعامل معه. أصبح هم المعلوماتية اليوم، ليس فقط تسهيل عيش الإنسان في القرن الحادي والعشرين، بل التوصل الى تعريته على كل المستويات. ولا يمكن أن يتخيل الإنسان الى أي مدى يمكن أن يصل نشاط شركات المعلوماتية خصوصاً تلك المتخصصة في جمع المعلومات عن الناس لأغراض عدة. منذ دخول الإنترنت والأنظمة المعلوماتية إلى حياة الناس دخل الإنسان الى النظام الجديد. وبسرعة نشأت شركات مهمتها البحث عن المعلومات وتجميعها وبيعها. ويكاد لا يمر يوم من دون إدلاء المواطن بكمية من المعلومات عنه وعن حياته وعاداته الى إحدى هذه الشركات. تبدأ القصة من الإنترنت حيث تؤسس عنوانك البريدي. وللحصول عليه، يجب تعبئة استمارة معلومات إلكترونية عنك: الاسم، تاريخ الولادة، البلد، الجنس، وانتهاء بتحديد المواضيع التي يهمك الحصول على معلومات عنها. هذه بداية كافية لشركات تجميع المعلومات لأنك وضعت لديها معلومات أساسية تشبه بطاقة الهوية. ومن هناك تبدأ القصة، قصة متابعتك واستكمال المعلومات عنك. فأثناء البحث على الإنترنت هناك من يتابعك منذ دخولك الموقع. وهو قادر على تحديد الدولة التي تنطلق منها وتحديد الكومبيوتر الذي تستعمل وذلك من خلال رقم تعريفي زود به جهازك. كما يتابع أيضاً ، المواقع التي تتصفحها ويحاول ان يفهمك أكثر. فإذا كنت من الباحثين عن الصحف، فهذا معناه انك مهتم بالأخبار. ومن هذه النقطة يحاول تحديد نوعية الأخبار التي تهمك كالاقتصاد أو الثقافة. وهنا بدأ يعبر نحو الذوق الأدبي والاهتمامات الفكرية. وإذا كان الباحث يركز دوماً على مواقع دينية فسيفهم المتتبع ان لديه ميولاً دينية قوية سيحاول تصنيفها. وفي حال ذهبت"الفأرة"نحو مواقع الدردشة أو البحث عن شريك فهناك تحدد الميول الجنسية للمتصفح وذوقه في الشريك. وإذا حاول التبضع عبر الإنترنت فالمتتبع سيسجل الأشياء التي يرغب بها وذوقه فيها. هذا نموذج بسيط لأنسان فتح حساباً على الإنترنت للحصول على عنوان بريدي سرعان ما سيمتلئ برسائل دعائية لا يعرف من أين تأتي ولا لماذا تختاره هو بالذات. بغض النظر عن الصورة"الإستخباراتية"التي يأخذها في الظاهر، يهدف هذا النظام في الأساس الى المساعدة في إعادة هيكلة الاقتصاد عبر توزيع الطاقات في صورة أفضل. كما تسمح المعلومات المستقاة من المستهلكين بحمايتهم ومنع عمليات الاحتيال في حقهم، كما تسمح بإقامة صلة وصل أقرب وأدق بين المنتج والمستهلك. ولكن هذا النظام سيف ذو حدين. من الناحية البناءة، واضح أن النظام الاقتصادي الحديث مبني أساساً على المعلومات. وهناك شركات متخصصة في جمع المعلومات وفق تقنيات خاصة تعرف ب Data mining ، وتجمع هذه المعلومات في ما يعرف بالمخازن أو Data Warehouses . فأحياناً يمنحك السوبرماركت بطاقة وفاء تجمع فيها النقاط كلما تسوقت وفي المقابل تربح الهدايا والحسومات. وصحيح أن هذه البطاقة تدخلك في نادي المثابرين بالنسبة الى المؤسسة التجارية وتعطيك بعض الفوائد ولكنها في النهاية تمنح المؤسسة كماً كبيراً من المعلومات عن مصروفك الشهري والسلع التي تستهلكها، ونوعية طعامك، وكمية علب الدخان التي تستهلكها. وفي النهاية تصبح هذه المعلومات سلعة برسم البيع قد تهم المنتج أو شركات التأمين التي تهتم بالأنظمة الغذائية للمؤمَّنين لديها. طبعاً هذا نموذج بسيط، ولكنه يبين إلى أي مدى تصل عملية جمع المعلومات عن المستهلك. وبالتالي يظهر كيف تستطيع هذه المؤسسات أن تسهم في خرق خصوصيتك وبيع الآخرين معلومات عنك. من هنا تركيز عدد كبير من مواقع الإنترنت على احترام سرية المعلومات التي يدلي بها المستخدم وذلك بموجب ورقة شروط وتعهدات. ولكن في كل الأحوال يستطيع أي موقع إنترنت اشتركت فيه ان يعرف عنك على الأقل المعلومات الآتية: عنوان البريد، الجنس، حجم الاستهلاك والدخل، العمر، القدرة الشرائية، نوعية المحيط الذي تعيش فيه الحي أو البلدة، المستوى العلمي، الوضع العائلي، وأرقام الهاتف والفاكس وعنوان البريد الإلكتروني ورقم بطاقة الائتمان، وغيرها من المعلومات. كل هذه الأمور سلاح كبير ومهم في يد من يمتلكه. ما ورد أعلاه يبين الوسائل المباشرة والمنظورة لجمع المعلومات. لكن هناك عناصر إلكترونية تدخل الى جهاز الكومبيوتر وتتمركز في أماكن لا يمكن رؤيتها الا بواسطة الخبراء أو المتخصصين في هذا المجال. منها ما هو شرعي مثل"الكوكيز"ومنها ما هو غير شرعي مثل"الويب باغس". فال"كوكي"هو ملف نصي صغير يدخل الى جهاز الكومبيوتر كلما دخل المستخدم موقعاً للإنترنت. ويعلق هذا الملف في الجهاز لكي يسهل عمليات الدخول المتتالية الى الموقع في المستقبل. وكلما عدت الى الموقع مجدداً فسيتعرف عليك مباشرة من خلال ال"كوكي"الموجود في جهازك. كما يدخل ال"كوكي"الى جهازك كلما ملأت إضبارة إلكترونية في أي موقع للإنترنت ويحتفظ بالتالي بكل المعلومات الشخصية التي أدليت بها. في المقابل يشكل"الويب باغس"رسماً فنياً أو غرافيكس موجوداً على صفحة الإنترنت أو في رسالة بريدية تتضمن موقعاً الكترونياً. وبالتالي فهو ينزل في ذاكرة الكومبيوتر ويجمع المعلومات عن الذين يدخلون الى موقع الإنترنت الذي أرسله. هذه مجرد فكرة فقط عن الأدوات التي تدخل الى حياة المستهلك ومستخدم التكنولوجيا كل يوم. فكل شيء أصبح مكشوفاً وتجارة المعلومات أصبحت سلعة مغرية لكل المنتجين وأجهزة الاستخبارات. ووسائل الحماية من كل هذه المنظومة التي تعتدي على خصوصياتك تكون بالعودة الى الوسائل البدائية، كالدفع نقداً وعدم امتلاك عنوان بريدي أو التبضع من خلال الإنترنت وعدم ملء الإضبارات الإلكترونية... فهل تستطيع القيام بذلك؟ أم أن الأسهل عليك ان تتعلم كيف تعيش مكشوفاً!