ما نقوم به كل يوم من تسوق وشراء هو المنجم الأهم عن حياتنا ومن نحن وماذا نحب. تخيل لو كان هناك بنك معلومات يحلل كل ما تقوم به من تسوق وتصفح للأنترنت لبناء بروفايل عنك، كم سيكون هذا البروفايل مفصلا ودقيقا. أكثر من ذلك، تخيل لو أن معلومات الملايين من الناس دخلت هذا البنك، ليقوم عبر برامج كمبيوتر متقدمة جدا بتحليل الأنماط الشائعة في الشراء ويخلق استنتاجات يربط فيها بين هذه الأنماط بطريقة تجعل الكمبيوتر يعرف عنك ما لم تقله أحد..! هذا بالضبط واقع شركات السوبرماركت العملاقة في أمريكا حسب ما كشفته مجموعة مقالات وكتاب لصحفي أمريكي ركز بشكل خاص على كشف أسرار عمليات جمع المعلومات عن العملاء والمتسوقين لدى هذه الشركات، وخاصة منها «Target» والتي تمثل واحدة من أكبر هذه الشركات الأمريكية، التي حسب ما يكشف هذا الصحفي بالأدلة أن مبيعاتها زادت من 44 مليار دولار في 2002م إلى 67 مليار دولار في 2010، من خلال سبب رئيسي هو استخدام هذا النظام المعلوماتي المتقدم. إحد القصص التي يرويها هذا الباحث واسمه « Charles Duhigg» هو عندما وصل النظام لاستنتاج أن المرأة التي تشتري أنواعا معينة من الكريمات والفيتامينات والاحتياجات الصحية تكون في الأشهر الأولى من حملها، والمرأة الحامل هي هدف تسويقي مهم بسبب إقبالها على التسوق لطفلها الجديد، مما يدفع الشركة التسويقية لإرسال عشرات الإعلانات البريدية والإلكترونية التي تحكي عن منتجات مهمة أو جديدة خاصة بالأطفال والحوامل. الشركة طورت مقياسا يدرس ما تشتريه المرأة من 25 منتجا، ليعطيها درجة احتمال كونها حامل. إحدى الفتيات الأمريكيات المراهقات توقع النظام أنها حامل، وبدأ يصلها إلى المنزل إعلانات خاصة بالحمل والأطفال، مما دفع الأب ليأتي غاضبا إلى محلات «تارجت» متهما إياهم بأنهم يشجعونها على الحمل. مدير السوق لم يكن يعلم شيئا لأن هذا التسويق يتم من مراكز متخصصة، فاعتذر للأب عن هذا الخطأ، ولما اتصل المدير بالأب بعد أيام ليتأكد من رضاه، اعتذر له الأب بحزن لأنه اكتشف أن ابنته حامل فعلا..! لقد ساهمت المنافسة المحتدمة بين الشركات التجارية للبحث عن شيء أقوى من الإعلان لكسب الجمهور، وهذا الشيء حسب ما يقول هذا الباحث هو «العادة»، لأن العادات في التسوق هي أكبر أمر يصعب تغييره، وهو أكثر ما يخبر المعلنين عن طبيعة الشخص واحتياجاته وأهوائه ونمط إنفاقه، وخلق العادات لدى الجمهور تحتاج لهذا الفهم العميق، ولكن لأننا نتكلم عن ملايين الناس، فإن هذا يتطلب أنظمة كمبيوتر متقدمة، وآليات ذكية ولطيفة في جمع المعلومات عن الجمهور. بالنسبة لشركة «تارجت» فإن جمع المعلومات يتم عبر إيجاد رقم خاص لكل شخص من الجمهور يتم ربطه ببطاقة الائتمان أو البنك أو البطاقة الشخصية ورقم الموبايل وعنوان الإيميل، ويتم عادة أخذ هذه المعلومات من الجمهور تحت حجج مختلفة، وعلى أساسه يبدأ جمع المعلومات وتحليلها. إذا كان هذا كله يثير القلق في نفوس الكثير من الناس، فإن القلق الحقيقي ما يتوقعه البعض في المستقبل القريب أن يتم ربط هذه المعلومات بالمعلومات التي تأتي من جوجل وفيسبوك والشركات التسويقية التي ترصد تحركات الجمهور على الأنترنت. هذا هو سبب التركيز الخاص على قوانين الخصوصية في عام 2012م والصراع الضخم حولها، والسباق المحموم بين جمعيات حماية المستهلك والأجهزة التشريعية في الدول الغربية من جهة، وبين شركات الأنترنت الكبرى من ناحية أخرى لحسم هذه القضية، لأن شركات الأنترنت تنتظر ملايين الدولارات من عملية بيع المعلومات الشخصية للمعلنين.بالنسبة للعالم العربي، فإن «التسويق المباشر» جملة وتفصيلا ما يزال ضعيفا جدا، ولا يزيد عن فكرة إرسال إيميل أو رسالة للجمهور بدون أي تمييز ذي معنى في قواعد المعلومات، وإذا كان هذا طبعا يصب في صالح وسائل الإعلام التي لا تلقى أي منافسة من «التسويق المباشر» في اجتذاب الميزانيات الإعلانية، فإن هذا يترك الباب مفتوحا على مصراعيه لدخول الشركات الغربية المتخصصة في هذا الأمر. الشركات الغربية ستنجح ليس فقط بسبب خبرتها والبرامج التي تملكها، ولكن لأن معلوماتنا الشخصية كعرب موجودة في الحقيقة لدى شركات الأنترنت الأمريكية بشكل لا تملكه أي شركة عربية، أو حتى ربما أي جهاز حكومي استخباراتي. ثورة المعلومات تتضمن أيضا ثورة في جمع المعلومات الشخصية، وحسب ما يقول أحد الباحثين لن يمكنك الهروب من هذه الثورة مهما فعلت إلا إذا كنت تدفع نقدا دائما، ولا تعطي معلوماتك لأي شركة تسويقية أو موقع أنترنت، وهذا يبدو مستحيلا هذه الأيام..!