يجرى الحديث عن فشل المشروع الأميركي في العراق، من دون البحث جدياً في كشف حقيقة هذا المشروع، ومدى اقترابه او تقاطعه مع حاجة العراقيين أنفسهم، كذلك فإن أحداً لا يتحدث عن مشاريع أخرى بديلة في حال وصلت الأمور الى طريق مسدود، ثم ما هي الطرق المسدودة والمفتوحة أمام العراقيين؟ وما هي مؤشراتها وحيثياتها؟ العراق ينزف في شكل يومي، والخدمات متردية في شكل كبير، هذه هي الصورة التي يبنغي ان يبقى عليها العراق، الأمر الذي يمكن إدامته بجهود ليست كبيرة، إذ يمكن لمجاميع من الإرهابيين الوافدين، مصحوبين بأموالهم وانتحارييهم، والمسنودين من مجموعات محلية في التقاء مصالح وأهداف آنية، ان يحققوا عدم الاستقرار ذاك، جاعلين من الحياة جحيماً في العراق، فإذا أضيف إليها الكم الهائل من القوى الداعمة لهؤلاء والمستفيدة من تحركاتهم بصورة ما، كانت المحصلة ان الحديث عن"فشل المشروع الاميركي"يصبح مطلوباً لذاته، وليس مهماً بعد ذلك ما يترتب عليه من نتائج. في جلسة خاصة لأحد القياديين العراقيين، لخص تصوره على الشكل الآتي:"يكفي القيام بسلسلة من المجازر الجماعية ضدهم يقصد مكوناً طائفياً آخر، ليخافوا بعدها ويتنازلوا عن مكتسباتهم العددية"، وحين جوبه بحقيقة ان ذلك سيقود الى حرب أهلية طاحنة قد يسقط فيها اكثر من خمسة ملايين عراقي، وستنتهي بتدمير العراق كله، أجاب: لا تخافوا، لقد تعهدت لنا دول إقليمية، بأن تضع كل إمكاناتها تحت تصرفنا". في جانب آخر، يحاجج أحد المحامين العراقيين بحماسة، حول حق"المقاومة"في وضع عبواتها وسياراتها المفخخة قرب الأسواق والأهداف المدنية، لأن ذلك برأيه، سيخدع الأميركيين ويمنح المنفذين مجالاً للاختفاء"وعلى الشعب ان يقدم تضحيات"على حد زعمه، ومع السياسات التي يختزلها شعار"المهم ألا يستقر الوضع في العراق"، تتضح صورة البيئة التي استطاع"الزرقاوي" النفاد منها واستغلالها في سبيل بناء سمعته التي ضخمتها وسائل الإعلام الى حدها الأقصى. وعلى عكس ما يشاع، فإن هذا النوع من البشر، حين يجد نفسه على هذا القدر من الاهتمام، يزداد تعلقه بالحياة الى درجة تثير العجب، ففي وقت يتيه فيه صلفاً وغروراً بحيث يدخل في يقينه انه سينجو من القتل دائماً، يدفع مئات الشباب الى التضحية بأنفسهم في عمليات سهلة - لكثرة الأهداف ويسر الوصول اليها. وككل من يسكره حب الظهور وپ"الثقة بالنفس"، فإنه سرعان ما يرتكب أخطاء قاتلة تؤدي بنتيجتها الى سقوطه، فأين أخطأ الزرقاوي؟ 1 - الاعتقاد بأن اللعب على الوتر الطائفي وحده، سيكون كافياً لضمان الولاء من بيئة ينبغي ان تطوبه"أميراً"عليها، اعترافاً منها بفضله في"إرعاب"خصومها، وهو ما يعني تجاهلاً لكل العوامل التي من شأنها ان تضعف أو تحد من توجه كهذا، فإلغاء أو استفزاز الشعور الوطني لدى هذا المكون العراقي الذي يعتمد عليه ويتحرك ضمنه، لا بد سيواجه برد فعل معاكس يتجلى في التصادم بين الانتماء الطائفي والوجود الوطني، خصوصاً حين تهدد بالتحول الى مجرد أداة بيد طامعين أو طامحين لبناء سمعتهم على حساب العراق أرضاً وإنساناً، وتالياً الدخول في مشاريع مهلكة لا منتصر فيها، وقد ركز الزرقاوي على ضمان الولاء طوعاً أو كرهاً، الأمر الذي تجاوز حدود التحمل، فقد طبقت استراتيجية الرعب في المناطق الغربية من العراق على نطاق واسع، إذ يكفي ألا تكون أي شخصية مهما بلغ شأنها، مساندة للإرهابيين او حتى مشكوكاً في ولائها، حتى تكون على قائمة التصفية، وعليه بات الجميع في تلك المناطق، رهائن بيد مجموعات الزرقاوي، وهو نموذج لما ستؤول إليه الحال في أي منطقة يستطيع الإرهاب تثبيت أقدامه فيها. 2- ضبابية الهدف، فقد خاض الزرقاوي عملياته جميعها تقريباً، ضد العراقيين البسطاء، من دون معارك حقيقية مع الاحتلال، وليس هناك من هدف معلن سوى إشعال الحرب الأهلية تمهيداً لإقامة إمارته الخاصة، الأمر الذي جعله في تضاد مع بقية المجموعات العراقية المسلحة، التي تختلف جذرياً في توجهاتها، فأي مصلحة ستحققها في وطنها حين ينتصر الزرقاوي مستخدماً إياها كوقود؟ 3 - تحول المناطق التي يتواجد فيها، الى مصانع لتفريخ أجيال من الانتحاريين المستعدين لنشر الموت في كل مكان، ومع الضخ الإعلامي الذي حوّله الى"ملهم"وقدوة، تصور انه أصبح فعلاً"أميراً"ليس على مناطق في العراق وحسب، بل في المنطقة كلها حيث لا يستطيع بلد ان ينجو من عقابه. لكن الزرقاوي كان يضيق الخناق حول نفسه؟ فالدول الإقليمية، استطاعت التعامل مع الأخطار التي يمكن ان يشكلها عدم الاستقرارالعراقي، وتحصرها بالتالي ضمن نطاق محدود، فقد دخلت العراق أعداد من الإرهابيين الذين يمكن ان يؤثروا في أوضاعه الأمنية، وغالبية هؤلاء انتحروا أو قتلوا أو اعتقلوا هناك، وما تبقى تكفلت به الأجهزة الأمنية في تلك البلدان، واستمرار الحالة العراقية الراهنة، يعني امتصاص المزيد من قوى الإرهاب، بعيداً من ساحاتها، وعليه يمكن تحقيق فائدتين معاً، عرقلة المشروع الاميركي من الاندفاع نحو بلدان أخرى، والتخلص من المتطرفين، لذا فمن الطبيعي ان يكون العراق حالة نموذجبة ينبغي إدامتها أطول فترة ممكنة، على ألا يسجل فيها أحد الطرفين انتصاراً حاسماً، فإذا كان تثبيت ركائز الحكم الحالي - ديموقراطي - فيديرالي - يعني تغييراً في المنطقة يبدو متوقعاً، فإن نجاح الإرهاب باقتطاع مناطق شاسعة من العراق يعني إقامة إمارة رعب سيجرى العمل على توسيعها باستمرار لتشمل المنطقة برمتها، ما يعني قيام وضع كارثي لا يمكن تصور حصوله، إقليمياً ودولياً. من هنا انتهت مهمة الزرقاوي، وأصبح وجوده عبئاً ثقيلاً على الأطراف نفسها التي دعمه بعضها، واستفاد منه بعضها الآخر، لذا كانت النهاية المتوقعة. هل سيدخل مصرع الزرقاوي تحولاً ملموساً على الوضع العراقي ؟ قد لا يظهر ذلك في الوقت القريب، لكن فصائل المقاومة العراقية، لا بد ستسارع الى إمساك أمر مناطقها بيدها، تمهيداً لتنفيذ أجندتها الوطنية التي هي جزء من المشروع العراقي العام، وهذا يعني تراجعاً في عدد المفخخات التي تستهدف المدنيين، وارتفاعاً في أعمال المقاومة الحقيقية الموجهة ضد الاحتلال، أي سيتبلور مشروع عراقي يتكامل بوجهيه - السياسي - المقاوم - مع خفوت ضجيج المشاريع"الانتحارية". * كاتب عراقي.