تضفي وضعية الفلتان الأمني وفوضى السلاح، وما بلغته من مستويات تصعيدية، مؤشرات مأسوية لحال الانفلات الوطني من ضوابط ومعايير الوطنية الفلسطينية، على ما رست عليها منذ أكثر من أربعين عاماً. ذلك أن التنازع الراهن بين قوى فئوية في الصف الوطني، أضحى يتجاوز في مسبباته وتداخلاته وتفاعلاته حدود التنافس الفئوي الحزبي على السلطة. بينما يتحول الصراع على قيادة المشروع الوطني إلى أزمة مقيمة ومأزق فعلي، بات يتغذى من تداخل عوامل عدة أضحت تحيط بمجريات هذا التنافس الذي فتحت أبوابه على مصاريعها داخليا نتائج الانتخابات التشريعية الاخيرة التي فازت فيها حركة"حماس"، وخارجياً التدخلات والتداخلات الاسرائيلية والعربية والدولية، في ما تحاول فرضه لصورة الوضع الفلسطيني، والتي لا تتطابق والصورة التي يحملها الفلسطينيون أو فصائلهم عن أنفسهم وعن قضيتهم وأهدافهم وتطلعاتهم وأمانيهم الوطنية. وفي هذا الوقت بلغت عملية التسوية حالاً من الجمود والمراوحة عند حدود الرؤية الاسرائيلية الاميركية في غياب الآليات الكفيلة بإخراجها من تلك الحالة. على أن عوامل استمرار المشروع الوطني وضمانات تواصله واستمراره هي ذاتها عوامل تعدده. اما اختزاله بطرف او بطرفين فئويين، فذلك أقرب إلى إلغائه عن طريق تحوله إلى مشجب نوازع ذاتية لا تبقي ولا تذر, وهذا يحتم على الجميع إدراك أو استدراك مفهوم أن المشروع الوطني ليس ملكية خاصة أو إقطاعية خاصة بهذا الطرف أو ذاك، مهما علا شأنه وادعى لنفسه احقية الريادة، أو أحقية التمثيل الهيمني أو الاخضاعي، انطلاقاً من عملية ديموقراطية محدودة ومحددة وجزئية. ذلك أن هذا المشروع في طبيعته يختص به كامل الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، وهو المعني به وبتقرير مصيره، بعيداً من هيمنة الفئويات الانانية والنرجسية لتشكيلات فئوية سلطوية باتت تغلب نوازعها الخاصة على نوازع الوطنية الفلسطينية العامة، في نقل مدمر لمنطق التناقض الرئيسي مع العدو إلى الصف الداخلي، واعتبار التعارضات الثانوية الناشئة داخله على أنها سمة الصراع الراهن، وتلك قمة الممارسة العبثية في تماهيها مع الاستهدافات الخارجية. وما يجري على الارض يجسّم خللاً تاريخياً، طالما عانت منه محطات النضال الوطني الفلسطيني منذ بدايات القرن الماضي، في مواجهة الحركة الصهيونية والاحتلال البريطاني من قبل. كما أنه يجسّد اختلالاً استراتيجياً بات يهيمن على الحياة السياسية الفلسطينية في الداخل، في رؤيتها لذاتها وللسلطة التي لم تتعد بعد حدود وضعية اتفاقات أوسلو التي رسّمتها موقعاً رسمياً اراح إسرائيل من جزء كبير من أعباء احتلالها، فيما حمّلت السلطة كل الاعباء التي ناء الاحتلال عن حملها. وإذا كان المطلوب الآن وبشكل ملح، إنقاذ الوضع الفلسطيني من انتكاسة جديدة، بفعل العديد من العوامل الداخلية والخارجية على حد سواء، فمن الملح كذلك إنقاذ الديموقراطية الفلسطينية الوليدة من انتكاسة مماثلة، بفعل سيادة نزعة انقلابية أو أكثر تسود الآن في الساحة الفلسطينية، وهي نزعات سلطوية مضادة لوطنية فلسطينية يفترض بها أن تكون الدافع الاقوى والابرز لتماسك الصف الوطني على اختلاف انتماءاته ومكوناته السياسية والايديولوجية والتنظيمية في أكثر الاطارات شرعية ومشروعية وشعبية واعترافاً دولياً. ولن يكون ذلك ممكناً إلا عبر التصميم الجاد على إنجاح الحوار الوطني لمعالجة كل إشكالات الوضع في اللحظة الراهنة، واستعادة وحدة منظمة التحرير، وإفشال النوازع الانقلابية وطنياً وديموقراطياً، لا سيما في ضوء ما أضحى يتجاوز حدود القلق مما قد تؤدي اليه تلك المنازعات الفئوية من إضعاف للوطنية الفلسطينية، في وقت بدأت ترتفع فيه اصوات تنادي بإعادة إحياء"الخيار الاردني"أو غيره من خيارات مماثلة، يراد لها أن تكون بديلاً من الحركة الوطنية الفلسطينية في تقرير مصير الوطن الفلسطيني والشعب في الداخل وفي الشتات. لهذا تشكل استعادة الحساسية الوطنية الفلسطينية في نطاقها الجبهوي، وفي إطاراتها الوطنية المفترضة، واستعادة بناء الشرعية الفلسطينية على أسس أكثر وضوحاً، وفي ظل مركز قيادي فاعل، جاذبا لكل الفعاليات الكفاحية. انها المهمة الابرز لقوى الحركة الوطنية الفلسطينية في إطارها الجامع في ما تشكله منظمة التحرير الفلسطينية، كونها هذا المركز الذي يتوجب التمسك به رغم كل ما يمكن أن يقال عن مؤسساتها وتشكيلها التنظيمي القاصر حتى اللحظة عن احتضان كامل أطراف العمل الوطني الفلسطيني لسبب من هنا أو لأسباب من هناك. * كاتب فلسطيني