في وضع إستثنائي يتطلب جهداً استثنائياً ومعالجة جادة, بعيداً من شعارات التعمية والنزوع الفئوي، يقف الوضع الوطني الفلسطيني على محك النجاح أو الفشل في مواجهة مهمة تصليب جبهته الداخلية، وما تطرحه مجريات الصراع من تحديات، في ظل إنعطاف مهم في واقع القوى الحزبية الاسرائيلية ببرنامجها الحكومي الذي يتجه إلى فرض وقائع جديدة على الارض في المناطق المحتلة من معازل وكانتونات وجدار فصل وتقسيم قسري وضم كيفي وتهويد معلن، وفي ظل ما تشهده الحال الوطنية الفلسطينية من إنقسام في المؤسسات الوطنية والمجتمع الاهلي, وهو ما بات يستدعي تفكيراً عقلانياً حكيماً، هدفه الحد من التآكل الداخلي ووقف إنتشار ثقافة الكراهية والعنف. وإذا كان في الإمكان ضبط المسائل الخلافية على مستوى القيادات، إلاّ أن ليس في الامكان حصرها وضبطها في صفوف القواعد أو على مستوى المجتمع الاهلي، في ظل هذا المستوى من الفلتان الامني، والحصار الداخلي والخارجي، في حين أن إستمرار الشحن الفئوي لن يفضي إلا إلى تعميق الازمة والمأزق القيادي وإستمرارهما. وفي حين تجاوزت الامور على الارض حدود التنازع على الصلاحيات، ووصلت إلى مستوى إحتدام التنازع على السلطة من داخلها ومن خارجها، فإن مراكمة مثل هذه الممارسة لن يفضي كذلك إلا إلى مستويات لا تحمد عقباها، قد تؤدي بالسلطة ذاتها إلى خسارة شرعيتها، ليس في نظر مجتمعها، بل وفي نظر المجتمع الدولي الساعي أساساً إلى تقويضها، وليس إلى إفشال الحكومة فقط، وهذا ما يضع الفلسطينيين في مواجهة مهمة توحيد صفوفهم، ووأد اي فتنة يسعى الاحتلال إلى إستثارتها، تدفع بها إلى الواجهة حال الاحتقان السائد الذي يغذيه تمترس الفئويات النرجسية خلف مواقفها غير المبدئية. وما جرى ويجري بين حين وآخر من إشتباكات مسلحة وإنفلات أمني وتعبئة فئوية لم يأت من فراغ، بل هو النتيجة المنطقية لحال الفراغ الذي يخلقه التنازع على السلطة، وسط ضغوط الوضع الاسرائيلي والدولي، والمصاعب الاقتصادية والاجتماعية التي تضيّق الخناق على المجتمع الوطني برمته. وإذ تتجاوز مجريات الوضع الوطني في ما آلت إليه من وضع شبه كارثي، في ظل حصار شامل وضغوط حملات التجويع المنسقة، فإن الدعوة للحوار الوطني الشامل والمبادرة التي أطلقتها"الجبهة الشعبية"ورسالة المناضل مروان البرغوثي، كلها باتت أكثر من حاجة وضرورة وطنية للخروج من عنق الزجاجة. لكن الاهم دخول أروقة الحوار من دون شروط مسبقة، وخوض غماره بجدية من يستهدف إنجاحه للوصول إلى نتائج إيجابية، وإيجاد السبل السياسية الكفيلة بتمكين الوضع الوطني الفلسطيني من مواجهة الحصار الخانق، وإستعادة حيوية إستئناف مهمات الكفاح الوطني في مواجهة خطط الحكومة الاسرائيلية الجديدة القائمة على إستمرار رهانها على الانقسام الفلسطيني للمضي في تعزيز إتجاهات فرض حلولها الاحادية. وهذا يرتب بالتأكيد مسؤولية كبرى على قوى الحوار الاكثر عقلانية وإنفتاحية، في لعب دور مهم في إستعادة حركة التنازع إلى إطاراتها المفترضة، وإيجاد آليات لتوافق سياسي ووطني ينعكس إيجاباً في الوضع الوطني العام. فالاحتكام إلى لغة الحوار بدل الاحتكام إلى لغة السلاح والتخريب، يستدعي من كل العقلاء إستعادة أسس البناء السليم لبيت الشرعية الوطنية الفلسطينية أولاً، وليزينوه من الداخل بكل أطياف مكوناتهم وتعددية رؤاهم الائتلافية وغناها، حفاظاً لها وإحتفاظاً بها، في مواجهة كل الرياح العاتية الهادفة إلى تقويض ركائز البيت الوطني، وإلاّ فإن إستمرار التنازع الفئوي السلطوي ونوازع التحول من الوطني إلى الايديولوجي وما يستدعيه كل ذلك من تداعيات مدمرة، لن يكون إلاّ معيناً لما يراهن عليه الاعداء. ولعل الفرصة التي تستدعيها دعوة الحوار تكون دافعاً لجعله معمقاً وشاملاً، وبما يفضي إلى تحويله حواراً إستراتيجياً لا يقتصر على القضايا التكتيكية أو الخلافية الراهنة. وهذا يتطلب إيجاد لغة حوار منتجة مشتركة تتجاوز حدود القواسم المشتركة، وتضمن خلق آليات لتوافق وطني مديد بين مؤسستي الرئاسة والحكومة اولاً، وبما يفضي إلى إعادة تشكيل الحكومة حكومة وحدة وطنية موسعة على قاعدة إستعادة إنسجام النظام السياسي، ما يمهد عملياً وفعلياً للبحث في تفعيل مؤسسات منظمة التحرير وإستعادتها وحدتها المؤسسية والسياسية والتنظيمية بإنضمام كل الاطراف المبعدة والمستبعدة. وإذا كان الجميع يتفق الآن على ضرورة صياغة المنظمة ومؤسساتها، بتفعيلها وتوسيع قاعدة المشاركة الوطنية في إطارها بما يتناسب والواقع الراهن للتجربة الديموقراطية بإنتهاء صيغ المحاصصات السابقة، فإن توجهات مناقضة المنظمة والتصادم معها على قاعدة الاشتباك السياسي والتنظيمي، تحمل من الأخطار أكثر مما تحمل من محاولة الحفاظ على الثوابت المبدئية لهذا الفصيل أو ذاك، ودخول"حماس"أو غيرها من الفصائل المبعدة والمستبعدة من مؤسسات المنظمة قبل أو بعد صياغتها، لا يلغي مواقفها الثابتة، ولا يصادر حقها في الاختلاف بفعل دخولها النظام السياسي أو مؤسسات المنظمة، في ظل الضرورة القصوى للحفاظ على مرجعية المنظمة والاحتفاظ بها قائداً رمزياً وواقعياً شرعياً وحيداً، لكفاح شعب من المفترض أن تتحد وتأتلف كل مكوناته في إطارها الواحد الموحد، لإنجاز مرحلة من مراحل تحرير الوطن من الاحتلال. فالمنظمة هي خيمة المشروع الوطني وإئتلافه الجامع لكل اطراف العمل الوطني الفلسطيني، وهي على رغم ما أصابها من وهن في عدد من المحطات وما شهدته من مسلكيات ضارة، إلا أنها لم تفقد شرعيتها، ولم تكن يوماً رهينة طرف فئوي يفرض شروطه على الآخرين. لهذا يجب أن تبقى عنوان المشروع الوطني الفلسطيني وعماد شرعيته التي خيضت من أجلها صراعات دامية أحياناً, ليس مع الاعداء فقط ولكن مع الاشقاء أيضاً، ومن داخلها وفي داخلها كذلك، على ما شهدته سنوات ما بعد إجتياح لبنان عام 1982. وتشكل حاجة تفعيل مؤسسات المنظمة وتطويرها وإعادة صياغتها إحدى الضرورات السياسية الوطنية، وهذا ما يتجاهله أصحاب الرؤى العدمية ودعاة التمسك اللفظي بتهويمات الايديولوجيا و"الجملة الثورية"على حساب وقائع السياسة الوطنية، في ما تذهب إليه مواقفهم من تشكيك وعدم إستساغة أي شكل من أشكال الحوار الوطني الشامل، وهم لهذا يتلجلجون في تصريحاتهم ويذهبون مذاهب شتى من أجل إفشاله. على أن أهمية الحوار وأهدافه، وما يتطلع إليه الشعب الفلسطيني, تبقى أكبر وأجلّ من تصريح هنا أو هناك يحاول أصحابه وضع العصي في دواليب التوجه نحو رسم سياسات وإيجاد الحلول المسؤولة للمأزق الوطني في اللحظة الراهنة. ولهذا تشكل دعوة الحوار في حد ذاتها، إحدى أبرز الضرورات الوطنية اللازمة والملزمة لكل الحريصين على معالجة الوضع الوطني الفلسطيني، بعد ما بلغه من تأزم اضحى يفرد جناحيه على كامل مناحي حياة الشعب الفلسطيني، في الداخل كما في الخارج، وهذا ما يرتب وجود رؤية أوضح، وضرورة توفير كامل شروط المسؤولية الوطنية لقيام حوار منتج، يساهم المجتمع الاهلي فيه بطاقات مهمة، طالما جرى إستبعادها حتى الآن, كي لا يبقى الوضع الوطني ينحدر في إتجاهات كارثية، لا يعود معها في الإمكان إصلاحه، وحتى لا تتحول المناكفات المسلحة لأدوات تسلطية وسلطوية، في ما تضمره وتحوزه من حوامل الدفع بالمجتمع الوطني للدخول إلى نفق الاقتتال الفئوي، وما يمكن أن ينزلق إليه نحو شكل من أشكال الاقتتال الاهلي، ليجري توظيفه عملياً لمصلحة أصحاب النوازع السلطوية والنوازع الانقلابية من أصحاب الرؤى العدمية، حيث لا ناقة للمجتمع الوطني ولا جمل من ورائها، في ما قد تجره من أضرار مؤكدة بالمشروع الوطني نفسه. بعد كل هذا, فإن التجربة الديموقراطية الفلسطينية الغضة والهشة ما عادت تحتمل أي خروج عن إطار"اللعبة"، وهي تدخل اليوم محكاً أكثر جدية، ليس في ما تشهده التجربة داخلياً. ولكن في ما يترصدها إسرائيلياً ودولياً من إستهدافات، يمكن أن تؤدي بها إلى إنكسار واسع، لن يشمل هذه المرة منطوق التحالفات بين القوى على إختلافها، بل سيشمل الوضع الوطني برمته في إطار حركته التاريخية، وهي أحوج ما تكون إلى برنامج قواسم مشتركة يتفق الجميع على طابعه الائتلافي، كونه الخط السياسي الناظم لحركة الشعب الوطنية، وبضمنها الحكومة، في توجهاتها وسياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء، وبما يضمن الحفاظ على الطابع الديموقراطي التعددي للمجتمع الفلسطيني، وتلك في هذه اللحظة الحاسمة مهمة الحوار المركزية في أبعاده الاستراتيجية الشاملة لا في أبعاده الفوقية والخلافية الراهنة. * كاتب فلسطيني