في الحلقة الأولى من تحقيق خطف السياح الأجانب في اليمن عرضنا لتاريخ هذه العمليات ولبعض أسباب انبعاثها مجدداً نهاية العام الفائت ومطلع العام الحالي، وهنا الحلقة الثانية نعرض فيها لبعض تقنيات الخطف والمفاوضة وعلاقة العشائر في اليمن بالمجموعات التي تقدم على الخطف. قبل الهجوم على المدمرة الأميركية"كول"في كانون الأول ديسمبر عام 2000 والذي نفذه إنتحاريون ينتمون الى تنظيم القاعده في مرفأ عدن، وقبل هجمات 11 أيلول سبتمبر في العام التالي على نيويورك وواشنطن، كانت ظاهرة خطف السياح والأجانب في اليمن في واجهة الملف الأمني وفي طليعة اهتمام الحكومة واجهزتها الأمنية نظراً لما سببته من قلق أمني وتدهور في قطاع السياحه وتشويه لصورة البلد منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. غير أن التزامات الحكومة اليمنية"الدولية"والوفاء بالاستحقاقات الأمنية الداخلية لجهة"الحرب على"الإرهاب"وملاحقة العناصر والجماعات المتطرفة بعد هجمات أيلول تحديداً"، أدت إلى تراجع الاهتمام بمكافحة ظاهرة خطف الأجانب. وثمة إجماع بين المراقبين والأوساط السياسية والشعبية في اليمن على فشل الحكومة في استئصال هذه الظاهرة من خلال معاقبة مرتكبيها وتنفيذ إجراءات قانونية وتدابير أمنية فاعلة ضد المتورطين فيها من ابناء القبائل التي ثبت أنها تقدم للخاطفين دعماً لوجستياً وحماية"تقليدية"بهدف الضغط على الحكومة وإجبارها على تلبية مطالب خاصة بالخاطفين وتتضمن مطالب للقبيلة والمشايخ الكبار. وهؤلاء عادةً ما يلجأون الى مساومة الدولة نيابة عن الخاطفين أو كوسطاء تقدم السلطات تنازلات عبرهم في مقابل الإفراج عن الرهائن وعدم تعريضهم لأي أذى. خسائر اقتصادية ومنذ مطلع عام 1995 راهنت الحكومة على ازدهار قطاع السياحه في تعزيز مواردها الاقتصادية والسير في برنامج الإصلاحات الاقتصادية الشاملة. غير أن ضعف البنى التحتيه التي تعد عاملاً مهماً في جذب السياح إلى بلد غني بالآثار والمواقع التراثية، وغياب الأمن نتيجة سلسلة عمليات خطف السياح التي أرتكبها مسلحون قبليون ينتمون الى المناطق والمحافظات التي يزورها الآف السياح الأجانب على مدار العام، أسقطت رهان الحكومة. وتراجع قطاع السياحة في اليمن إلى أدنى مستوى له منذ 30 عاماً ونتج عن ذلك خسائر اقتصادية تصل إلى نحو"ربع بليون"دولار سنوياً وتعطيل نحو 35 الف شخص كانوا في حكم المستفيدين من عائدات العمل في قطاع السياحة. وباستثناء حادثة خطف 16 سائحاً غربياً في محافظة أبين جنوب البلاد في كانون الأول 1998، التي نفذها إسلاميون ينتمون الى تنظيم" القاعده" في اليمن فإن كل عمليات خطف السياح والأجانب التي وقعت منذ عام 1993 وحتى مطلع العام الجاري واستهدفت نحو مئتي سائح وديبلوماسي من الأجانب انتهت بسلام ولم تكن وراءها دوافع سياسية. ولعب الوسطاء دوراً أساساً في إقناع الخاطفين بإطلاق سراح الرهائن في مقابل ضمانات من جانب الحكومة بتنفيذ بعض مطالب الخاطفين والقبيلة وفي مقدمها عدم ملاحقة الخاطفين أمنياً أو توجيه اتهام ضدهم. تعهدات حكومية الحكومات المتعاقبة في اليمن خلال السنوات العشر الماضية تعهدت بالقضاء على ظاهرة خطف الأجانب واقتلاع دوافعها واجتثاث أسبابها وملاحقة مرتكبيها ومحاكمتهم. وفيما تعتقد الحكومة أن انتشار السلاح بين القبائل يعد سبباً في إقدام بعض رجال القبائل على خطف الأجانب والتحصن في مناطق جبلية وعرة، فهي ترى ان اللجوء إلى التفاوض مع الخاطفين نابع من حرصها على أرواح الرهائن وعدم خوض مواجهات قد تؤدي إلى تأجيج الصراع مع القبائل وتهديد السلم الاجتماعي وبالتالي تعريض أمن البلد واستقراره للخطر. ويقول قبليون في المناطق التي تعد مسرحاً لعمليات خطف الأجانب في اليمن أن تلك الظاهرة تشكل رداً على إهمال الحكومة لقضايا أبناء هذه المناطق وحرمانها"المتعمد"من مشاريع التنمية والخدمات والوظائف الحكومية والعسكرية. إضافة إلى اعتقاد لدى ابناء القبائل في محافظة مأرب شرق صنعاء التي شهدت غالبية حوادث خطف الأجانب في اليمن، بأنهم محرومون من عوائد النفط الذي يضخ من محافظتهم وبالتالي يلجأون للضغط على الحكومة من خلال خطف الأجانب أو تفجير أنبوب النفط الذي يمر في مناطق النفوذ القبلية بين محافظتي مأربوصنعاء توقفت عمليات تفجير أنبوب النفط في السنوات الأخيرة بهدف لفت انتباه وسائل الإعلام والصحافة الخارجية إلى قضاياهم وإرغام الحكومة على تلبية مطالبهم. من وسيط إلى خاطف ويقول أحد رجال القبائل:"كنت وسيطاً ضمن وسطاء أوكلت إليهم السلطات الحكومية التفاوض مع خاطفين ووعدت بالوفاء بما نلتزم به للخاطفين في بعض المطالب غير أن الحكومة نكثت بتعهداتها واضطررت إلى خطف احد السياح لكي نرغم الدولة على تنفيذ وعودها لتبرئة ساحتنا كوسطاء أمام الخاطفين الذين يلحون علينا بتنفيذ ما وعدناهم به بأسم الحكومة". ويضيف:"شيوخ القبائل ووجهاء المنطقة يتحاشون القيام بأي وساطة بسبب عدم وفاء الدولة بوعودها، فمثلاً في الوقت الذي كنا نفاوض على إطلاق رهائن ونبحث مع الخاطفين ذات مرة في مطالبهم ونحاول إقناعهم بأن عملية الخطف جريمة وتسيئ للقبائل وللبلاد، فوجئنا بوسطاء آخرين ترسلهم الدولة للتفاوض مع الخاطفين انفسهم من دون علمنا بل وتقدم لهم فديه مالية أو تلبي مطالبهم وهذا الأسلوب أحرج العديد من الوسطاء وولد شكوكاً بأن الدولة تحاول إظهار الوسطاء بأنهم يعوقون مطالب الخاطفين وأن لهم مصالح خاصة". وسيط آخر من مشايخ القبائل طلب عدم الكشف عن هويته يؤكد انه أضطر إلى دفع مبلغ كبير من ماله الخاص كان التزم به فدية لخاطفين بموافقة السلطات التي تنصلت من التزامها في ما بعد. وتشير مصادر قبلية في محافظتي مأرب والجوف المتجاورتين، إلى أن السلطات الحكومية غالباً ما تفضل اللجؤ للوسطاء من أجل إطلاق الرهائن نظراً لضعف نفوذها في المناطق النائية، علماً ان هذه السلطات تصدر بلاغات أمنية بأن قوات الأمن والجيش أطلقت أو حررت الرهائن. وتضيف هذه المصادر أن السلطات لجأت في اكثر من مرة الى وسطاء كانو قاموا بعمليات خطف للسياح وأصحاب سوابق في هذه العمليات وهذه النوعيه من الوسطاء صارت لها خبرات في اساليب ابتزاز الحكومة وهناك حالات كثيرة يكون فيها الوسيط شريكاً في الخطف. وتؤكد الحكومة اليمنية رفضها لما تضمنته تقارير دولية خلال السنوات الأخيرة وأشارت إلى غياب نفوذها عن العديد من مناطق ومحافظات نائية وقبلية تعاني من الحرمان في قطاع التعليم والصحة والخدمات، وبالتالي يسهل عليها"التمرد"والقيام بعمليات خطف السياح الأجانب واستخدامهم كرهائن لتلبية مطالب الخاطفين وإيواء العناصر المتطرفة وحماية المطلوبين في قضايا أمنية خطيرة. ويتلقى اليمن مساعدات أمنيه وعسكرية من الولاياتالمتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وبعض الدول تتمثل في معدات وتجهيزات حديثة وتدريب وحدات خاصة في الأمن والجيش وتقديم منح تدريب وتأهيل للكوادر الأمنية في أميركا وأوروبا. غير أن هذه المساعدات على محدوديتها موجهة لمكافحة الإرهاب وملاحقة المطلوبين من عناصر"القاعده"وتجفيف منابع الناشطين الإسلاميين ومراقبة الحدود البحرية والبرية. وفي الوقت الذي حققت الحكومة اليمنية نجاحاً في ملاحقة عناصر"القاعده"وتقديمهم للمحاكمات وملاحقة المطوبين أو قتلهم بوسائل مختلفة، إلا ان عمليات الخطف الأخيرة التي تعرض لها سياح غربيون منذ 21 تشرين الثاني نوفمبر الماضي وحتى مطلع العام الجاري على يد مسلحين من رجال القبائل في محافظتي مأرب وشبوه، أثارت جدالاً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية ووضعت الحكومة في قفص الأتهام لجهة مسؤولياتها عن مكافحة الظاهرة. واتهمت السلطات بالفشل والعجز. وذهبت أحزاب المعارضة بانتقادها الحكومة إلى درجة تحميلها مسؤولية تفشي ظاهرة خطف الأجانب نتيجة سياساتها العقيمة في معالجة الأوضاع الداخلية وفشلها في فرض سيادة القانون من خلال قبولها التعامل مع الخاطفين والقبائل التي تؤويهم أو تحميهم خارج القانون وبصيغ وفاقيه تؤكد حقيقة أن الدولة لا تزال تهاب القبيلة وتخشى نقمتها. وفي هذا السياق هناك من يتهم الحكومة بتعطيل قانون الاختطافات الذي صدر عام 1998 وتحويله الى نص لم يطبق وكأنه صدر خصيصاً لمحاكمة زعيم الجهاد أبو الحسن المحضار وأتباعه إضافة إلى محاكمة خاطف من أل الزايدي قبل بضع سنوات حكم عليه من محكمة أبتدائيه بالإعدام غير أن محكمة الاستئناف خففت الحكم إلى السجن 20 عاماً لاختطافه سياحاً غربيين وما لبث أن أطلق سراحه بعد عام على صدور الحكم. وقيل حينها إن الحكومة أقدمت على إطلاقه كمبادرة"صلح"مع قبيلته بعد أن لقي أحد أبناء القبيلة مصرعه على يد دورية أمنية كانت تلاحقه اذا كان مطلوباً في جريمة خطف زائر ألماني واحتجازه نحو شهرين في منطقة صرواح. وكانت تلك أطول فتره إحتجاز يتعرض لها مختطف أجنبي في اليمن في تاريخ هذه الظاهرة. بلد سياحي منذ مطلع العقد السابع من القرن الماضي انفتح اليمن الشمالي على السياح الغربيين وكان يستقبل عشرات الآلاف من دول أوروبا الغربية وأميركا واليابان، فيجوبون القرى والشواطئ والمدن والجبال والوديان التي تحكي آثارها حضارة متميزة وأدواراً تاريخية لجنوب شبه الجزيرة العربية إضافة إلى طقسها المعتدل شتاءً وصيفاً وتنوع تضاريسها الجغرافية. قوافل السياح والمستشرقين الغربيين لم تتوقف وساهمت في تعزيز الموارد الاقتصادية لليمن. وبعد تحقيق الوحده اليمنية منتصف عام 1990 اهتمت الحكومة اليمنية بقطاع السياحه ووضعته في اولويات برامجها وخططها الاقتصادية والتنموية. ودخل رجال أعمال يمنيون دائرة المنافسة بالاستثمار في القطاع اذ ارتفعت عائدات السياحه إلى نحو ربع بليون دولارسنوياً. غير أن ظاهرة خطف السياح والديبلوماسيين الأجانب التي بدأت عام 1993 على يد مسلحين من رجال القبائل واستمرت على وتيرة متقطعة حتى مطلع العام الحالي ألقت بظلالها الكئيبة على قطاع السياحة الذي تعرض ولا يزال لخسائر فادحة، وكذلك على سمعة اليمن وصورته في الخارج ومصالحه الاقتصادية والسياسية مع دول العالم. ويعتقد مراقبون ونواب وأوساط حزبية وقبلية أن الطريقة التي انتهت بها عملية خطف واحتجاز أسرة الوكيل السابق في وزارة الخارجية الألمانية بورغين شرويغ من جانب قبيلة آل عبدالله بن دحام في محافظة شبوة شرق البلاد شجعت الخاطفين من قبيلة جهم في محافظة"مأرب"المجاورة على خطف السياح الإيطاليين الخمسه بعد مضي أقل من 20 ساعة على إطلاق الأسرة الألمانية عبر تفاوض مع الخاطفين من جانب الحكومة والوسطاء في محافظة" شبوه" يتقدمهم وزير الدفاع اللواء الركن عبدالله علي عليوة، انتهى إلى اتفاق بين قبيلة آل عبدالله الخاطفون والحكومة بضمان الوسطاء، أفضى إلى تلبية الحد الأدنى من مطالب الخاطفين بما في ذلك عدم ملاحقة أو توجيه اتهام ضد أي من أبناء القبيلة. وعلى رغم أن ظاهرة خطف السياح في اليمن وجهت ضربة موجعة لقطاع السياحة وحرمت البلد من عوائده المالية خلال العقد الماضي، فإن أفواج السياح الغربيين لا تزال تتوافد الى اليمن على رغم تحذيرات دولهم. فاليمن يكتنز الكثير من مقومات جذب السياح المتمثله بمواقعه الأثرية وطابعه المعماري التقليدي وأسواقه الشعبية وتراثه الشعبي والقرى المعلقة في قمم الجبال الحاضنة للمدرجات الزراعية على ضفاف الوديان والسدود، إضافة إلى التنوع في المناخ والطبيعة الجغرافية. ولطالما عبّر"المخطوفون"عن انطباعات إيجابية لجهة تعامل"الخاطفين"معهم اذ يحرص هؤلاء وأبناء القبائل، على رعاية"الرهائن"وتوفير متطلباتهم الضرورية والسماح لهم بالاتصال بأقاربهم واصطحابهم في رحلات"قنص"كنوع من الترفيه إضافة إلى إعطائهم بعض الهدايا الرمزية"كتذكار". غير أن شعور الرهائن بأنهم في وضع تقيد فيه حريتهم يعكر صفو رحلتهم السياحية في ربوع"اليمن السعيد"وإن كانت عمليات الخطف عند بعضهم نوعاً من"المغامرة"غير المحسوبة. وهناك سياح أطلق سراحهم وفضلوا مواصلة برنامجهم السياحي في اليمن وهناك من عاد إلى بلده ثم شده الحنين لزيارة البلد مرة أخرى وهناك من حرّم على نفسه مجرد التفكير بزيارة اليمن مرة أخرى بفعل الخطف.