فتحت الفوضى التي يشهدها العراق شهية الجماعات المسلحة للإفصاح عن مطالب جديدة تتجاوز رحيل القوات الاميركية من البلاد. وبدأت أخيراً مجموعات مسلحة توزع رسائل تهديد في الجامعات العراقية تطالب فيها الطلبة والأساتذة على حد سواء بترك الدراسة، ما دفع أكثر من 2000 طالب من المناطق الساخنة أي في جامعات بغداد والمستنصرية والتكنولوجية والنهرين الى الانتقال الى جامعات أخرى قريبة من مناطق سكنهم, بحسب ما أكدت الإحصاءات الرسمية لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية. في المقابل فضل آخرون تقديم طلبات لتأجيل الدراسة في جامعاتهم أملاً في العودة الى مقاعد الدراسة في العام المقبل. ويثير العنف المتزايد داخل الحرم الجامعي مخاوف كبيرة في نفوس الطلبة وعائلاتهم لا سيما الطلبة الآتين من المناطق الساخنة امنياً مثل الرمادي والفلوجة وبعقوبة والموصل وبعض المناطق والمدن الصغيرة التي تحيط بغداد. ففيما يتوجه طلبة هذه المناطق الى جامعتهم في ساعات الصباح الباكر تبقى عائلاتهم حبيسة القلق والخوف لحين عودة الأبناء الى المنزل. ويقول احمد الدليمي طالب دكتواره في كلية الاعلام في جامعة بغداد انه حصل على موافقة رسمية لتأجيل دراسته لمدة عام اثر تعرضه لتهديدات علنية من قبل مجموعة من الطلبة الثائرين في إحدى التظاهرات بحجة انتمائه الى حزب البعث المنحل. وقال أحمد ل"الحياة"ان النشاط المتزايد للحركات السياسية في الوسط الجامعي"أدت الى تحويل الجامعات العراقية الى بؤرة صراع واسعة بين أشكال مختلفة من التصعيد الحزبي والطائفي بعدما نقلت الأحزاب السياسية بتوجهاتها المختلفة صراعاتها الى داخل الحرم الجامعي". ويعتبر أحمد أن الصراع الأيديولوجي"لا يقتصر على الطلبة انما يمتد الى الاكاديميين والأساتذة الجامعيين الذين يجدون أنفسهم عاجزين عن التصدي لاستفحال هذه التيارات في الأوساط الجامعية". ويصف مجيد ياسين، طالب دكتوراه في كلية العلوم في جامعة بغداد، وضع الطلبة والأساتذة في الجامعات العراقية بأنه"مخيف"، موضحاً ان ثلاثة من زملائه في الكلية تركوا الدراسة بعد وصول رسائل تهديد موقعة من فصائل مسلحة"تحذرهم من الاستمرار في الدراسة في جامعات الكفر". ويقول ان أعمال العنف لا تميز بين الطلاب والأساتذة"الذين باتوا ضحايا عنف الجماعات المسلحة من جانب والأحزاب السياسية والدينية من جانب آخر". وتؤكد ايمان سامي، طالبة في كلية الهندسة في جامعة بغداد- قسم الهندسة المدنية، ان الطالبات العراقيات يتعرضن الى ضغوط نفسية كبيرة بسبب سوء الوضع الأمني والخوف من الخطف والقتل، وتقول ان دوامها يقتصر على الامتحانات والمحاضرات العامة وان والدتها تتصل بها مراراً أثناء الدوام للاطمئنان عليها والتأكد من وصولها. وتشير إيمان الى ان غالبية العائلات العراقية التي يدرس أبناؤها في الجامعات والمدارس تعيش الحالة ذاتها. وتنطلق مخاوف العائلات من تعرض العديد من الطلبة والطالبات الى عمليات اختطاف وتصفيات جسدية أمام جامعاتهم كان آخرها مقتل احدى الطالبات في كلية الأعلام في جامعة بغداد في 17 نيسان ابريل الماضي، على يد ثلاثة مسلحين بعدما فشلوا في اختطافها من أمام مجمع الكليات في باب المعظم وسط بغداد ما دفعهم الى اطلاق نيران أسلحتهم باتجاه الضحية واردوها في الحال وسط ذهول المئات من الطلبة والحرس الجامعي الذين لم يتدخلوا تحت وطأة التهديد. وعلى رغم عدم وجود إحصاءات دقيقة لعدد الطلبة والطالبات الذين لقوا حتفهم في أعمال العنف، فإن"الرابطة الطلابية الاسلامية"تؤكد مقتل اكثر من 370 طالباً في حوادث أمنية متفرقة توزعت بين عمليات اغتيال على يد الجماعات المسلحة والقتل الطائفي خارج الحرم الجامعي. ويؤكد طلال سالم رئيس الرابطة في جامعة بغداد ان الإحصاء لا يشمل ضحايا التفجيرات والسيارات المفخخة. ويضيف سالم إن غالبية الطلبة الذين تلقوا تهديدات بالتصفية من سكان مدينة بغداد يقتصر دوامهم على الامتحانات ويحصلون على المحاضرات اليومية من زملائهم في المراحل الدراسية فيما يفضل طلبة المدن الساخنة الانتقال الى جامعات قريبة من مناطق سكنهم. ويقول سامي المظفر وزير التعليم العالي والبحث العلمي ل"الحياة"ان الوزارة سمحت لطلبة الجامعات ممن تعرضوا للتهديد بالانتقال الى جامعات أخرى تقع في مناطق سكنهم بعد أحداث سامراء في شباط فبراير الماضي التي زادت من نسبة الاحتقان الطائفي في الجامعات وأدت الى انقطاع طلبة الموصل والانبار وتكريت عن الدراسة في جامعة بغداد". ويشير المظفر الى ان الوزارة تدرس حالياً إمكانية إلغاء القبول المركزي المعمول به منذ أكثر من ثلاثين عاماً في العراق وتطبيق نظام التوزيع الجغرافي الذي يقضي بقبول الطلبة في جامعات قريبة من مناطق سكنهم. وكانت الوزارة فشلت في تطبيق هذا النظام العام الماضي بسبب اقتصار وجود بعض الاختصاصات في جامعات بغداد واعتراض سكان المدن الآمنة في جنوب وشمال العراق الذين يرغبون ان يكمل أبناؤهم الدراسة في اختصاص محدد من دون غيره على رغم الصعوبات الأمينة في بقية المحافظاتالعراقية لا سيما بغداد. ويعترف المظفر بتوزيع جماعات مسلحة منشورات تحذر فيها الطلبة من الاستمرار في الدوام لكنه يقول ان"الحل العسكري ليس الأمثل وانه يفضل ان تبقى الأجهزة الأمنية بعيداً من الجامعات وإن كانت الحاجة للاستعانة بها ملحة في بعض الأوقات". ويرى باسل الخطيب مدير الدائرة الاعلامية في وزارة التعليم ان حماية الطلبة والأساتذة"باتت أمراً مستحيلاً"بسبب تزايد أعداد الطلبة في الجامعات واختلاف مواقع سكنهم وامتداد الصراع السياسي الى الجامعات على رغم التحذيرات المستمرة لوزارة التعليم من تحويل الجامعات الى أرضية للصراع السياسي بين الأحزاب والتيارات السياسية. ويقول الخطيب ان الوزارة لا تملك إحصاءات دقيقة لعدد ضحايا العنف من الطلبة لكن الإحصاءات الرسمية لعدد الأساتذة تشير الى مقتل 105 أساتذة جامعيين ممن هم مدرجون في ملاك وزارة التعليم العالي. ويؤكد ان الإحصاءات لا تمثل الأساتذة الجامعين في كليات الطب كونهم على ملاك وزارة الصحة كما لا تشمل المحاضرين غير المتفرغين. وأشار الخطيب الى هجرة أعداد كبيرة من الأساتذة الجامعيين بعد حصولهم على أجازات طويلة من دون راتب لمدة عام او عامين. ويؤكد رئيس رابطة المدرسين العراقيين عصام الراوي ل"الحياة"إن الإحصاءات الرسمية المتوافرة لدى الرابطة تؤكد مقتل 206 أساتذة جامعيين منذ بدء عمليات الاغتيالات والتصفيات الجسدية بعد دخول القوات الاميركية الى العراق في نيسان ابريل 2003. وبدأت حملة الاغتيالات بفلاح الزوبعي الاستاذ في الجامعة المستنصرية وانتهت بمقتل احد الاساتذة في كلية المأمون في الشهر الماضي. ويصف الراوي مسألة قتل الأساتذة بأنها"كارثة حقيقية"ويقول ان الكثيرين من أساتذة الجامعات لجأ الى الهجرة باعتبارها"الحل الامثل"الذي سيجنبهم التصفية. ويشير الى انقطاع عدد من الطلبة من الجامعات لا سيما طلبة الدراسات العليا الماجستير والدكتوراه عن الدوام بعد وصول رسائل تهديد من جماعات مسلحة وجهات أخرى مجهولة. ويؤكد ان جميع جرائم الاغتيالات التي طاولت الأساتذة في الجامعات بقيت من دون متابعات امنية او قانونية بسبب ضعف الأجهزة الأمنية وعدم تركيز الحكومة على حماية هؤلاء الضحايا واقتصار اهتمامها على المسؤولين. ودفع تصاعد وتيرة العنف في الجامعات وتفاقم ظاهرة اغتيال الأساتذة وهجرة العقول وزارة التعليم العالي الى إغلاق بعض الاختصاصات في الموسم الدراسي الحالي الى جانب إغلاق أقسام الدراسات العليا في العديد من الكليات التابعة لجامعتي بغداد والمستنصرية لعدم توافر الكادر التدريسي اللازم لتشغيل الاقسام المذكورة. ولا تقتصر عمليات التصفية الجسدية والعنف على طلبة الجامعات وأساتذتهم بل تمتد لتطاول المدرسين في المدارس الابتدائية والثانوية وطلبتهم الذين غالباً ما شهدوا عمليات ذبح معلميهم وسط مشاعر الذعر والخوف الكبيرين وكان آخرها نحر مدير مدرسة"آمنة"الابتدائية في مدينة الشعب في 19 نيسان الماضي. وأعلن وزير التربية العراقي عبد الفلاح السوداني يوم الثاني عشر من نيسان يوماً للطالب الشهيد وهي ذكرى مقتل أول طالب عراقي في مواجهات مسلحة العام 2004. ويؤكد السوداني ان عدد المعلمين الذين قتلوا جراء أعمال العنف بلغ أكثر من 400 معلم الى جانب 100 طالب منذ بدأ الاحتلال الاميركي للعراق في نيسان 2003.