قبل نحو اسبوعين، كان الدكتور عبداللطيف المياح 53 سنة، وهو استاذ في العلوم السياسية، ناشط في مجال حقوق الانسان يعرف في منطقته ب"البروفسور"، يقود سيارته الى مكان عمله عندما اعترض ثمانية رجال مسلحين ملثمين طريقه. وأكدت الشرطة انهم اخرجوه الى الشارع واطلقوا عليه النار تسع مرات امام حارسه الشخصي واستاذ جامعي آخر. واُضيف المياحي بذلك الى مئات من المثقفين والكوادر الادارية الوسطى الذين يقول مسؤولون عراقيون انهم اُغتيلوا منذ ايار مايو الماضي، في حملة تستهدف فئة المهنيين عموماً. وقال العقيد جبار ابو نطيحه، رئيس وحدة مكافحة الجريمة المنظمة في شرطة بغداد: "انهم يستهدفون ادمغتنا. انها عملية كبيرة. بل انها ربما تكون حركة". وتختلف عمليات القتل هذه عن اعمال الثأر وتصفية الحساب مع مسؤولين بعثيين سابقين، او استهداف ضباط الشرطة وآخرين يعتقد انهم متواطئون مع الاحتلال. وهي من نواحٍ كثيرة اكثر غدراً، بحسب مسؤولين اميركيين وعراقيين. فمئات منهم تعرضوا لإعتداءات تهدف ايضاً الى زرع الفوضى وعدم الامان. وقال الجنرال مارك كيميت، احد الناطقين باسم قوات الاحتلال، ان منفذي الاغتيالات التي تستهدف المهنيين في المدن يشنون بذلك حرباً على المؤسسات الناشئة للعراق وعلى التقدم بالذات. وبين الضحايا اطباء ومحامون وقضاة. واضاف الجنرال ان "هذا يتعارض مع كل ما نحاول القيام به هنا". ولم يكن الانتماء الى فئة المتعلمين ابداً أمراً سهلاً في العراق، وقطعاً ليس في ظل القمع في عهد صدام حسين. وفي الوقت الحاضر، اصبح ذلك، في كل ارجاء البلاد، أمراً يعني التعرض الى القتل. وكانت هيفاء عزيز داود، وهي مديرة للكهرباء في بغداد، قتلت بالرصاص عند باب بيتها في حزيران يونيو الماضي. كما قتل فارس عبدالرزاق الأعسم، نائب رئيس بلدية بغداد، عندما أطلق مجهولون النار عليه قرب منزله في تشرين الاول اكتوبر الماضي. وتلقى كل اعضاء مجلس مدينة بغداد تهديدات، حسب عضو المجلس المحامي محمد زامل سعدي. ولفت سعدي، الذي يحمل لوح الزجاج الامامي لسيارته آثار طلقتين، الى ان "الحزبيين هم الذين كانوا يحصلون على الوظائف الجيدة في السابق. اما في الوقت الحاضر فانها من نصيب المهنيين. هؤلاء القتلة يريدون، بشكل يائس، العودة الى تلك الايام". وترى السلطات الاميركية ان ارهابيين اجانب قد يكونون وراء الاعتداءات. وقال الجنرال كيميت: "هناك حافز هائل للارهابيين الاجانب كي يخلقوا فوضى هنا". وتلفت السلطات العراقية الى عناصر حزب البعث السابق او ضباط في الجيش فقدوا وظائفهم، وتشير الى ان اعمال القتل منسقة. ويشير مسؤولون اميركيون وعراقيون الى عدم وجود اي احصاء لكل المهنيين الذين اغتيلوا. لكن الملازم احمد محمود، من شرطة بغداد، قال ان "مئات" المهنيين قتلوا في بغداد. وقدّر محمد سعدي، عضو مجلس بلدية بغداد الذي يتعاون مع الشرطة، ان عدد ضحايا الاغتيال يراوح بين 500 و 1000 شخص. وقال العقيد جبار ابو نطيحه، رئيس وحدة مكافحة الجريمة المنظمة، ان عدد القتلى كبير الى درجة لا يمكن احصاؤه. وأنحى باللائمة على الاحساس العام بغياب القانون والنظام في العراق الذي ما زال يسعى جاهداً لانشاء قوات شرطة. ولا يشارك عسكريون اميركيون في عمليات التحقيق في الاغتيالات، إلاّ ان مستشارين من مكتب التحقيقات الفيديرالي اف بي آي يساعدون في تدريب محققين عراقيين. وقال الملازم محمود 28 عاماً انه لم يلتق اي مستشارين اميركيين. وقد اوكلت اليه، لوحده، مهمة التحقيق في مقتل الدكتور المياح، وهي واحدة من حالات كثيرة مماثلة. في البصرة، اُغتيل اسعد الشريدة، عميد كلية الهندسة، في تشرين الثاني نوفمبر الماضي. وبعد ذلك بشهرين، قتل محمد قاسم، المدرس في كلية التكنولوجيا، طعناً بسكين في منزله. وفي الموصل، قتل قاضي التحقيق يوسف خورشيد، ورئيس فرع نقابة المحامين عادل الحديدي في عمليات اطلاق نار في الشارع. ولاحظ شهود السيارة ذاتها التي اُطلق منها النار في كلتا الحالتين. وقالت ايمان المنعم يونس، مديرة قسم الترجمة في جامعة الموصل، ان شخصاً ما دسّ قصاصة ورق تحت باب غرفتها. تضمنت التهديد التالي: "الأفضل ان تتركي وظيفتك وإلا ستواجهين ما لا تريدينه". وفي داخل الظرف كانت هناك طلقة. فاستقالت. كما قتل عدة اطباء. وتلقى عدد اكبر منهم تهديدات. واغلق بعضهم عياداته، فيما واصل آخرون العمل في مواقعهم. وقال عبد علي مهدي، مدير معهد الطب الاشعاعي والنووي في بغداد: "أُمهلت اسبوعاً واحداً. لكن لا يمكن ان اترك عملي. اذا غادرت، لا يوجد من يأتي ليحل مكاني". وكان الدكتور المياح، بروفسور العلوم السياسية، رفض ايضاً الرضوخ للتهديد، وهو أمضى سنين في السعي للإفلات من جهاز الامن في عهد صدام. وتتذكر عائلته كيف كان يعمل، كأحد الناشطين الشيعة في العمل السري، من اجل إطاحة النظام. وفي التسعينات، شكّل المياح جمعية سرية تدعى "العراق الموحد بيتنا". وكان يتنقل ليلاً بسيارته ال"فوغسواغن" الزرقاء ليلقي منشورات من النافذة تفضح انتهاكات النظام، بحسب ناشطين آخرين. وقال سامي محمود البيضاني، استاذ التاريخ في جامعة المستنصرية في بغداد، حيث كان المياح مديراً لقسم الدراسات العربية: "كان ناشطاً على النمط القديم، ملتزماً كلياً بقضيته". وقبل بضع سنوات، احتجز المياح في مقر جهاز الامن. وقال خالد علي المياح، شقيق البروفسور: "لدينا تعبير يقول ان اي شخص يدخل ذلك المبنى يخرج منه جثة". لكن احد عملاء الامن كان أحد الطلاب السابقين للمياح سمح له بالخروج. وكان لدى المياح، بحسب عائلته، حلفاء كثيرون في اجهزة الامن. كانوا يعتبرونه البروفسور الذي يملك تسعة ارواح. واعتادت ابنته، هبة 16 عاماً، ان تسهر معه في الليل بينما كان يعد المنشورات. وفي احدى المرات سألته عما اذا كان خائفاً: "قال لي: اذا كنت أنا أخاف وأنت تخافين، من سيفعل اي شيء؟". وفي اعقاب الحرب رفض المياح دعوة للقاء جاي غارنر، الجنرال السابق الذي كان اول حاكم مدني للعراق. وابلغ اصدقاءه انه أمر خاطئ ان يتولى عسكري قيادة البلاد. وقال زملاؤه ان البروفسور ركز اهتمامه بدلاً من ذلك على حقوق الانسان، فحضر مؤتمراً في الاردن ونظم ندوات. ثم بدأت التهديدات. وقالت الشرطة ان رجلاً توجه الى مكتب المياح في الخريف الماضي وطلب منه ان يغلق مركز حقوق الانسان في جامعة المستنصرية. لكن البروفسور رفض. وقال شقيقه انه تلقى تهديداً نهائياً قبل يومين من مقتله: استقل من وظيفتك والاّ. وسلّم المياح سكرتيره مجموعة من وثائقه ليتولى حفظها. وابلغ ابنته انه عندما يحين الوقت لزواجها عليها ان تتشاور مع عمها. بدا كما لو انه كان يقول وداعاً. قالت هبة، وهي ترتدي حجاباً اسود وسترة جلدية سوداء: "كنت أدرك ان الخطر يحيط بأبي. كنت اقرب اليه من روحي". وفي تلك الليلة، توجه الدكتور المياح لحضور مقابلة مع قناة "الجزيرة" انتقد خلالها الاحتلال ودعا الى انتخابات سريعة. وفي صباح اليوم التالي، 19 كانون الثاني يناير الماضي، غادر المياح متوجهاً الى عمله في سيارته الزرقاء اللون من طراز "ميتسوبيشي". ولم يبلغ ابعد من شارع جانبي مترب على مسافة ميل. قال شقيقه ان ما يؤلم اكثر من اي شيء آخر هو انه بعد كل تلك السنوات التي عمل خلالها المياح من اجل الديموقراطية في العراق، غدا تحقيقها وشيكاً. واضاف: "هؤلاء لا يغتالون اشقاءنا فحسب. بل مستقبلنا".