فيما تصاعدت هيمنة الأحزاب السياسية الدينية على الجامعات العراقية، زادت اشكال استهداف الاساتذة والاكاديميين، فمن الاغتيال آخرهم د. عبدالرزاق النعاس الى الاعتداء بالضرب والإهانة في الحرم الجامعي آخرهم د. مؤيد الخفاف، ووسط اجواء كهذه باتت مغادرة البلاد"حلاً عقلانياً في اجواء غير عاقلة"كما يقول استاذ تحدثت اليه" الحياة"ورفض الكشف عن اسمه. أستاذ الصحافة في كلية الإعلام في جامعة بغداد الدكتور مؤيد قاسم الخفاف كان يلقي درسه في الخامس عشر من كانون الثاني يناير الماضي حين دخلت عليه مجموعة قالت انها من تيار مقتدى الصدر، واقتادته إلى غرفته الخاصة، واعتدت عليه ضرباً عقاباً على اشارته التي اعتبرت"غير مقبولة"الى"الدور المتزايد للمرجعية الدينية في النجف الاشرف في توجيه الحياة السياسية والثقافية". وإذا كانت حال الخفاف أدت الى اتخاذه قراراً بعدم العودة الى الجامعة الا في حال"كشف الجناة وتقديمهم الى العدالة"، فان النهاية التي تعرض اليها بعد ذلك بأسبوع زميله في الكلية د. عبدالرزاق النعاس كانت نهاية دموية، حين سقط الناشط السياسي الذي لا يتردد عن توجيه النقد للحكومة وأحزابها وقواها المتنفذة في غير وسيلة إعلامية الفضائيات العربية بخاصة برصاصات أطلقها عليه مجهولون حال خروجه من"الحرم الجامعي". رابطة الأساتذة الجامعيين حاولت رسم مشهد تصفية الاساتذة الجامعيين فأشارت في لائحة وزعت على نحو واسع أخيراً، اشارت إلى قتل أكثر من مئة شخصية علمية منذ سقوط النظام السابق، وإلى تصاعد"مسلسل ملاحقة العقول العلمية العراقية الذي يهدف إلى إفراغ العراق من عقوله وذخيرته الثقافية والفكرية والتربوية، أو إجبارها من طريق التهديد والتخويف على مغادرة البلاد". جامعة بغداد حصدت المرتبة الأولى لجهة ارتفاع حوادث الاغتيال تليها جامعة البصرة ثم المستنصرية والأنبار والموصل وتكريت، وبعد ذلك هيئة التعليم التقني فالجامعة التكنولوجية والقادسية ومركز وزارة التعليم العالي ثم مركز بحوث السرطان. وباتت الجامعات العراقية التي تضم نحو ثلاثة عشر ألف أستاذ، وكانت تعتبر في سبعينات القرن الماضي من افضل الجامعات العربية، على شفا الكارثة مع قتل الأساتذة أو خطفهم، وهجرة نحو ألف آخر منذ سقوط نظام السابق. ومن بين الأعمال التي صدمت الوسط الجامعي والاكاديمي العراقي، كان اغتيال رئيس جامعة بغداد السابق ونقيب الأطباء العراقيين الدكتور محمد الراوي الذي اصبح"أول من لاحقته طلقات الاغتيال". أما خطر الاختطاف فكان بدأ مع خطف عميد جامعة الانبار في الرمادي عبدالهادي الحديثي على يد مسلحين طالبوا بفدية قدرها 60 ألف دولار للافراج عنه. وكان الحديثي أول أستاذ جامعي يخطف من داخل حرم الجامعة بينما كانت الاعتداءات حتى ذلك الحين أواسط عام 2004 تحصل في الشارع أو أمام منازل الضحايا. وفي"جامعة صدام"التي تعرف حالياً ب"جامعة النهرين"اضطر د. سعدون عيسى عالم الكيمياء الى دفع فدية قدرها 50 الف دولار الى خاطفي نجله البالغ الثانية والعشرين. ولم يقف الخاطفون عند هذا الحد فسلموا نجله رسالة تطلب من الاستاذ الجامعي مغادرة البلاد. وكان مساعد مدير"مركز دراسات الوطن العربي"في جامعة بغداد الدكتور عبد اللطيف المياحي اغتيل اوائل عام 2004 بعد يوم واحد من ظهوره على شاشة إحدى الفضائيات العربية مدافعاً عن دعوة المرجع الديني آية الله علي السيستاني الى إجراء انتخابات مبكرة، كما اغتيل الأستاذ في الهندسة الكيماوية في جامعة بغداد الدكتور غائب الهيتي في آذار مارس 2004، ومن قبله اغتيل الأستاذ في كلية العلوم في جامعة بغداد الدكتور مجيد حسين علي المتخصص في مجال بحوث الفيزياء النووية. وتواصل مسلسل اغتيال العقول العراقية فاغتيل رئيس قسم الجغرافيا في جامعة بغداد د. صبري البياتي في حزيران يونيو 2004، كما اغتيل أستاذ جراحة العظام والكسور الدكتور عماد سرسم، واغتيلت عميدة كلية الحقوق في جامعة الموصل الدكتورة ليلى عبدالله سعيد في جريمة طاولتها وزوجها، ووجدت بعد تعرضها لطلقات نارية عدة، مذبوحة داخل منزلها. وشهدت جامعة البصرة سلسلة اغتيالات راح ضحيتها اساتذة واكاديميون وصفوا بانهم من عناصر"البعث"المنحل. واذا كان أطراف كثيرون داخل الجامعات وخارجها يتفقون على ان الاعتداءات"دليل على النية في تدمير الجامعة العراقية"فإن لا أحد يمكنه الاشارة الى مراكز تنفيذ تلك الاعتداءات والتهديدات. وما يجعل توجيه الاتهام أمراً صعباً هو ان"الضحايا يغطون مجموعة كبيرة من الاختصاصات وليست لهم التوجهات السياسية او المعتقدات الدينية نفسها". ويرى استاذ للقانون في جامعة بغداد خشي الكشف عن هويته ان"مسؤولية التحقيق في جرائم اغتيال الأكاديميين والعلماء العراقيين تقع على الأجهزة الأمنية والقضائية"مشدداً"على ان هذه العمليات لا علاقة لها بالثأر أو الانتقام الفردي"بل تندرج ضمن الجريمة المنظمة التي تمول من الجهات المستفيدة منها، ولو ألقت السلطات الأمنية القبض على القتلة المأجورين ستتمكن بالتالي من معرفة الرؤوس المخططة للمشروع الشيطاني الذي يستهدف العقل العراقي". ويؤكد أستاذ القانون الدولي ان"معظم هذه الجرائم ظل بلا متابعات أمنية وقانونية والمطلوب من الحكومة العراقية الجديدة ان تضع أمن العلماء في أولوياتها من خلال حماية العلماء أنفسهم ونشر قوات الأمن في المراكز العلمية وفي تجمعات الأساتذة ما يضيق الخناق على منفذي الجرائم". من جهتها ترى المؤسسة الأكاديمية الرسمية العراقية وزارة التعليم العالي ان من"غير الممكن توفير الحماية لجميع أساتذة العراق لأنهم بالآلاف"لكنها خيرت الأساتذة في قرار لها قبل أيام بين القبول بعناصر حماية تعينها لهم او عناصر يقومون هم باختيارها، غير ان أحد اكثر قراراتها إثارة للجدل كان الصادر في شباط فبراير الجاري حين اعتبرت إرسال الاختصاصيين العراقيين في مجالات طبية وعلمية نادرة في دورات بحث خارج البلاد"وسيلة لحمايتهم من التصفية والاغتيال". تدخل الاحزاب السياسية والطائفية في المؤسسات الاكاديمية نشطت الحركات السياسية بين الطلبة وأصبحت الجامعات مكاناً للنزاعات وفرض السيطرة الحزبية. وثمة مروحة واسعة من أشكال التصعيد الحزبي والطائفي، فالطلبة القريبون من القوى السنية يتولون نزع ملصقات تروج عمل"هيئة اجتثاث البعث"فضلاً عن التكتل لمواجهة التيار الشيعي الذي يروج صور السيد السيستاني و"الشهيد الصدر الأول"و"الشهيد الصدر الثاني"ومحمد باقر الحكيم، إضافة إلى الترويج لزيارة المراقد الشيعية في إيران وبأسعار رمزية، وإشاعة"الشعائر الحسينية"وتحديداً في الجامعة المستنصرية التي دعا رئيسها د. تقي الموسوي الشهر الماضي الى إحياء ذكرى عاشوراء داخل الحرم الجامعي، وفيه لم يعد غريباً وجود أعداد غير قليلة من رجال الدين وهم يجتمعون مع الطلبة ويلقون محاضرات في"الإسلام السياسي". وكان الاحتفال ب"عيد الغدير"في جامعتي بغداد والمستنصرية أوجد حالاً من"الاحتقان الطائفي"، فالطلبة الشيعة احيوا ما يعتبرونه"اليوم الذي سمّى فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم الإمام علي بن ابي طالب خليفة من بعده"، وجاءت الشعارات التي سمحت برفعها ادارتا الجامعتين لتعمّق جواً مشحوناً بالنزاعات الفكرية والدينية والسياسية . وكان أستاذ الرياضيات الدكتور عبدالسميع الجنابي عميد كلية العلوم في الجامعة المستنصرية في بغداد قتل طعناً بالسكين وألقيت جثته على قارعة الطريق في آذار 2004، حين منع تعليق اللافتات السود في عاشوراء وهو ما قوبل بموجة من الاحتجاجات بين الطلاب الشيعة الذين نظموا اعتصاماً دام اكثر من أسبوع رفعت خلاله لافتات تهدد ب"قطع رأس من يحارب الحسين"، وطالبوا بإقالة العميد الذي اضطر الى الاختفاء بناء على نصيحة الوزارة. في فوضى أجواء التشدد السياسي والديني الطائفي، ثمة طلبة يتحدثون عن الدور الذي يمارسه الأساتذة في التحيز إلى بعض الطلبة وفق التقسيمات الطائفية والقومية والحزبية، وهو ما ينفي تحوله الى ظاهرة. اكثر من أستاذ تحدثت اليهم"الحياة"لكنهم لم يستبعدوا وجود"حالات فردية"دالة عليها. وفي حين يقول معلقون سياسيون عراقيون ان"المنتصر الحقيقي في الانتخابات الاخيرة هي الميليشيات التي فرضت جواً من الخوف والترويع"، فان الجامعات كانت مثالاً آخر على النشاط المتزايد للميليشيات"الدينية"داخل الحرم الجامعي. وتلك الميليشيات أصبحت تتحكم بأمن الجامعة وفرض الحجاب على الطالبات كما في جامعة البصرة، حيث الطالبات المسيحيات والصابئيات وضعن الحجاب تجنباً ل"جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"المنبثقة من"جيش المهدي"التابع للسيد مقتدى الصدر، فيما شهدت الجامعة المستنصرية إقامة معرض للكتاب الإيراني وبيعت خلاله كتب بأثمان بخسة، إضافة إلى بيع حجاب المرأة"الشرعي". انتماءات عمداء الكليات ورؤساء الجامعات وأساتذتها الى الأحزاب الدينية صعد من أشكال الصراع السياسي والطائفي في الحرم الجامعي، كما ان تدخل الشرطة العراقية كطرف منحاز في قضية اعتداء مناصري مقتدى الصدر على طلبة كلية الهندسة في جامعة البصرة العام الماضي، وقمع الطلبة المحتجين كشفا عن"صمت رسمي"وإنْ صدر اكثر من موقف احتجاجي لوزير التعليم العالي سامي المظفر حول ما تتعرض له الجامعات والمؤسسات الاكاديمية من انتهاكات. الدعوات تتزايد الى أن يبتعد عمداء الجامعات والكليات ومعاونوهم عن التدخل المباشر في الحياة الجامعية والبقاء على الحياد للتخفيف من أجواء الاحتقان الحزبي والطائفي داخل الجامعة. وصدرت مواقف"تأييد"للأساتذة في الجامعات، فمنظمة"كُتّاب بلا حدود"أصدرت بياناً أكدت فيه"تضامنها مع الأستاذ الجامعي العراقي لما يتعرض له من عمليات قتل وخطف وابتزاز وتشويه للسمعة في ظل غياب الدولة وتحول الجامعة الى ساحة لتصفية الخصوم الفكريين الذين يتعرضون في تعاطيهم مع الشأن العراقي الى الأحزاب الدينية التي باتت تهيمن على الجامعات وتطبق على أنفاس الجميع". ونوهت المنظمة التي تنشط في العراق عبر عدد من مثقفي البلاد واكاديمييها الى"تعرض الدكتور هاشم حسن الأستاذ في كلية الإعلام الى الإرهاب والتهديد في أكثر من مناسبة، كما تعرضت عميدة الكلية الدكتورة حميدة سميسم لحملة تشويه إعلامية تبنتها صحيفة تابعة لأحد الأحزاب الدينية". وكان الرئيس العراقي جلال الطالباني دعا أساتذة الجامعات العراقية وطلبتها الى إبعاد المؤسسات الأكاديمية عن التدخلات والتأثيرات السياسية، وذلك في مواجهة حملة الاغتيالات التي طاولت أساتذة الجامعات وأرغمت المئات منهم على مغادرة البلاد. وأكد طالباني في كلمة إلى"المؤتمر التأسيسي للاتحاد العراقي للتدريسيين الجامعيين"الشهر الماضي أن"الديموقراطية لا يمكن أن تفهم في شكل يسوغ الاعتداء على أستاذ أو فرض قيود لا قانونية على الطالب". عجز حكومي وحيال"عجز"حكومي عن حماية الأساتذة، عملت"رابطة التدريسيين الجامعيين"على إشراك المؤسسات الأكاديمية الرسمية في"مهمة إنقاذ"الأساتذة والعلماء فنظمت مؤتمر"الحريات الأكاديمية في الجامعات العراقية"في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، وقدم الى المؤتمر سبعة عشر بحثاً علمياً جاءت في محاور عدة أبرزها"أثر التدخلات الدينية والحزبية والطائفية في أداء المؤسسات الأكاديمية". وانطلاقاً من مفهوم الحريات الأكاديمية أكد الجامعيون على: 1 - توفير المناخ الحر للأساتذة للكتابة، والحديث عن الحقيقة كما يرونها بلا قيود، وبخاصة قيد إنهاء الخدمة أو الوظيفة من الإدارة العليا في الجامعة، أو من جانب السلطة السياسية في البلاد، بالإضافة إلى حق الأستاذ في توفير الحماية له من الضغوط، في داخل الجامعة أو خارجها، حينما يمارس حقه في الإفصاح عن الآراء والحقائق التي يتوصل إليها في بحثه. 2 - العمل على ممارسة الجامعة دورها في شكل مستقل، وذلك من خلال السماح لها بوضع وتحديد وممارسة السياسات الخاصة بها، من دون أي تدخل أو كبح من أي جهة خارج نطاق حرمها الجامعي . 3 - إصدار التشريعات التي تكفل الحرية الأكاديمية في الجامعات إدارةً وعلماً وبحثاً، وضرورة ترجمة المبادئ التي تضمنها إعلان اربيل 2004 الصادر عن اجتماع رؤساء الجامعات والمعاهد العراقية إلى صيغ تشريعية وتنظيمية ملزمة في المجالات المنهجية والإدارية. 5 - من الضروري أن تقتصر سلطة وزارة التعليم العالي، والبحث العلمي، على الجامعات والمعاهد الفنية، على واجبات الإشراف والتخطيط والتنسيق، وأن يترك ما سوى ذلك من إدارة وتنفيذ وبحث وتدريس إلى الجامعات والمعاهد الفنية وغيرها. إضافة بنود اكاديمية اخرى ليس من مجال لعرضها هنا.