أنّى لك أنيس صايغ أن تكفر بمعجزات عقلٍ لم يكن في سحابة العمر منك"لقيطاً"أو"هجيناً"أو"سجيناً"أو"زنديقاً"أو"عابثاً"، وأنت من أبدعت فيه ذاتاً جماعية راكمت من الوطن ماضيه وحاضره ومستقبله حتى كأنك - وحيداً - نهضت بمركز الأبحاث، وما تفتق في وجدانك من لمّ الشتات الثقافي وذاكرة فلسطين في موسوعة اقتحمت ميدانها الكبير وأنت تتنقل تحت الرصاص ووسط الدمار، بعيداً عن تسلق قمة أفرست أو الهبوط على سطح القمر! أبدأ قراءتي كتاب"أنيس صايغ عن أنيس صايغ"،دار رياض الريس، 2006، بمثل هذا السؤال، فأنيس يقول عن نفسه إنه فلسطينيولبناني وسوري، فهو يحمل قلباً يضخ دمه العربي في شريان النضال الفلسطيني واسقاط الاغتصاب، ومعه شريان الثقافة اللبنانية المنفتحة على الحضارة العالمية، ليبقى شريان الإباء والشموخ والاعتزاز السوري التواق الى الوحدة والانطلاق. فسورية كما يراها أنيس صايغ وكما كتبها فيليب حتي هي أساس الحضارة في العالم. وفيها يقول أنيس صايغ:"إن لكل انسان في العالم وطنين يدين لهما بالولاء: مسقط رأسه وسورية". أما عن مدينة الولادة والنشأة وأيام الطفولة والصبا فطبريا تبقى عند أنيس صايغ سيدة المدائن وعميدة الأمصار لأنها الأساس والقاعدة ومآل الأحلام والتطلعات. هي الأعز في القلب والأقوى في الوجدان وهي التي لم يتخلَّ عنها أنيس صايغ طوعاً ولم يستبدل بها بيروت إلاّ مرغماً. فبيروت عنده هي المحطة النهائية، قبل العودة الى طبريا التي يخشى أن تبقى حلماً في الخيال. واذا يستطرد أنيس صايغ في تسجيل أحلامه على الورق يقول:"بالرغم من أن الندم لا مكان له في حياتي فأنا أعترف أني أخطأت اذ لم أتخصص بعلم التاريخ. كنت أتمنى لو أُتيح لي أن أعوض في عالم الآثار وأصرف العمر بين الحجارة والحطام والغبار لأن دراسة العهود الغابرة أكثر عظمة وأقل مرارة من دراسة تاريخنا المعاصر. فالحجارة على الأقل أصدق من الإنسان وأكثر شفافيةً". الذي استهواه صدق الآثار وتهوّل من الكذب والمراوغة يقول:"لم أقم في حياتي بعمل أو نشاط إلا وكان القلم الأداة التي تُعزي ولا تخون. فأنا لستُ إلا كاتباً، ولا اعترف بمهنة إلا مهنة الكتابة التي بقيت أحوم في سمائها وأغوص في بحار حبرها والورق". وعالم الكتابة الذي حبس أنيس صايغ نفسه فيه خمسين عاماً في بيروت التي شلعت السياسة فيها الثقافة وتجرأت على كسر الأقلام واغتيال أصحابها، ترك فيها أنيس صايغ المقالة الصحافية، والتأليف والترجمة وإعداد الموسوعات والقواميس وتحرير المجلات والزوايا الصحافية وادارة مركز البحوث حتى لكأنه وُلد والقلم بين أصابعه. أما عن القلم الذي التصق بأصابع أنيس صايغ حتى لكأنه منها صار شرياناً أو عصباً فقد اعترضته وقائع أليمة راحت تتحول الى نوادر للتسلية وفكاهات للدعابة. فهو اذ يتحدث عن علاقة الثقافة بالسياسية يحيلنا الى العلاقات بين السيد ياسر عرفات وبينه في ثلث قرن من الزمان ويترك الحكم على السيد ياسر عرفات وعلى تجربته معه للقارئ وللتاريخ بغير أن يسمح لنفسه إلا بتقديم الوقائع بما أوتي من أمانة ودقة وموضوعية وصدق. وهنا يضيف أنيس صايغ"أما أن يُعتب عليَّ بأني أنبش صفحات من الذاكرة عن عرفات بعد رحيله فأمر مردود ومرفوض، لأن هذه الصفحات جزء أساسي من تاريخ شعب وقضية وثورة. وان تجارب المرء الشخصية حق من حقوق الأمة وتراثها الثقافي والسياسي والنضالي وليست ملكاً لفرد يستأثر بها ويتستر عليها". وأنيس صايغ، اذ تعود به الذكريات الى العام 1966 يقول:"كنت أجلس في صالون فندق شبرد العريق في القاهرة برفقة كبير مناضلي فلسطين وسيد شهدائها وديع حداد وفجأة دخل عدد من الرجال وولجوا المصعد بسرعة فقال لي جليسي: هل عرفت الرجل القصير الذي تقدم هؤلاء؟ أجبت: لا. فقال: انه ياسر عرفات رئيس فتح. ثم أردف: انه شخص خطير. احذر منه. ولما أصبح عرفات رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية وانتقل الى لبنان بعد مجازر الأردن، رغب سامي العلمي مدير البنك العربي في بيروت 1969 أن يعرّف أعلام الفلسطينيين في لبنان الى رئيسهم الجديد فأقام حفل استقبال في دارته في بعلشميه، وكان الصيّاغ الثلاثة يوسف وفايز وأنيس بين المدعوين. وإذ قال نبيل شعث لياسر عرفات: أعرفك إلى الدكتور أنيس صايغ مدير مركز الأبحاث"فمدّ إليّ يده بتردد وفتور وتمتم"بتاع الشقيري؟"ومضى الى مدعوين آخرين. ويتابع أنيس صايغ قائلاً:"لم يكن الجفاء في تلك المقابلة الخاطفة حادثة عابرة، وانما تكررت بصيغ مخالفة. فمن بين عشرات اللقاءات بين الرجل وبيني في مدى ربع قرن، بقيت العلاقات مضطربة والودّ مفقوداً! غير أن باحثاً ومفكراً وناقداً فلسطينياً خصّ العلاقة بين عرفات وبيني في فصل كامل من كتاب له بعنوان"بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية"وكان فيصل دراج يرى في كتابه ان هذه العلاقة ما كان يمكن أن تكون غير ما كانت عليه لاختلاف بين الرجلين في العقلية والنظرة الى الثقافة وحرية الكاتب وصدق الكلمة والانضباط والتضحية والسلوك السياسي والفردي وخصوصاً العلاقة بين المثقف والسلطة، السلطة التي يجب حذفها من قاموس الحكام العرب واستبدالها"بالتسلط"!! مركز الدراسات منذ صدور قرار انشائه كان مستقلاً استقلالاً ذاتياً غير خاضع لأي جهاز في منظمة التحرير ومستقلاً عن فصائل المنظمة العسكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية والتربوية والنقابية والأهلية. وكان أنيس صايغ يعلن بيقين مبرم أن المركز لفلسطين وحدها وليس لجماعة أو منظمة أو جهاز، التزاماً بالميثاق الوطني الفلسطيني وانطلاقاً منه، واحتكاماً به!! أما عرفات فكان يريد أن يكون المركز ومنشوراته وباحثوه رجال افتاء يجيزون الأفكار والآراء والأحكام التي يفتي بها هو بحسب مزاجه، اذ كان يتعامل مع المركز كما مع هيئات منظمة التحرير ودوائرها بتقسيم الوظائف والمنح بحسب الفصائل وعلاقاتها معه شخصياً، وليس بحسب الكفاءات والحاجات والانتماء لفلسطين!! ومن أمثلة كثيرة يعطيها أنيس صايغ على حرصه أن يكون المركز حراً غير تابع لأي فصيل، حفلُ الاستقبال الذي أقامه في الذكرى الخامسة لتأسيس المركز، وتوجيه أولى الدعوات الى ياسر عرفات الذي لم يعده بالحضور ولم يعتذر. واذ شعر صايغ بعدم حماسة عرفات في الحضور طلب الى كمال ناصر أن"يتوسط"لئلا يسيء الناس فهم غياب عرفات وهو في البلد. وجاء عرفات بخطى مترددة بصحبة كمال ناصر ووقف لدقائق معدودة ثم غادر وهو يقول لكمال: لقد شعرت بأني في مكان غريب لا علاقة له بالثورة. ومن الأخطاء التي لا تغتفر لياسر عرفات أنه كان يريد تحويل مركز علمي مستقل الى مؤسسة خاصة تابعة له شخصياً، فتخوض"حروبه"مع الآخرين سواء كانوا من الفصائل الفلسطينية أو حتى من منافسيه في حركة فتح التي كان يتزعمها. وقد راقبه أنيس صايغ مراتٍ ومرات وهو يعدّ بأصابع يده كتّاب"مجلة شؤون فلسطينية"وكم"منهم من فتح ومن هم من خارجها، من دون أي اعتبار للموضوعات التي يعالجون أو لمستوى المعالجة. وكان أنيس صايغ يعتبر أن معيار العمل والكتابة لا يمكن أن يكون تنظيمياً!! وفي موضوع الانتماء السياسي التحق أنيس صايغ بالحزب السوري القومي الاجتماعي أيام الدراسة في الجامعة الأميركية 1949 - 1953 ثم راح يوزع وقته بين مركزين ثقافيين كبيرين"النادي الثقافي العربي"في رأس بيروت وپ"الندوة اللبنانية". وكانت المحاضرات - كما يقول - زاداً ثقافياً ذا وزن، ولم تكن برداءة محاضرات هذه الأيام التي يأبى المثقف المشاركة فيها محاضراً أو متلقياً!! ولكن وعلى رغم رداءة المحاضرين والمحاضرات يبقى لبيروت التي كانت أن يسأل كثير من العرب غير اللبنانيين عن سرّ حب الانسان لبيروت وتفضيلها على مدن أخرى كما يقول أنيس صايغ، ويجيب: إن بيروت هي مدينة المزعجات: الضجة كل الأصوات العالية في مكبرات الكنائس والجوامع وصيحات بائعي الخضار والفواكه تمتزج بأبواق السيارات ومواكب السفراء المتجحفلة بالأسلحة والمرافقين والفوضى في معاملات الدوائر الرسمية وعدم التقيّد بالبرامج والمواعيد في المحاضرات والندوات والمسارح والمعارض والبهورة والتعالي والإسراف المجنون وكأن بيروت مدينة اللامستحيل: كل شيء يمكن حصوله أو الحصول عليه بالحلال وغير الحلال!! ولما كان كتاب أنيس صايغ عن أنيس صايغ يقع في خمسمئة وثلاثين صفحة من القطع الكبير، ويؤرخ لمرحلة ثقافية وسياسية هي من الوطن العربي الأكثر تشوشاً واضطراباً، ونكسات وهزائم، فإن أنيس صايغ الذي تعاقد مع الحياة أن يموت واقفاً، كثيراً ما كان يبسم على رغم المآسي، ولكن ابتسامات خفرة قليلة مع أصدقاء له آمنوا به وكانوا من أشد مناصري المركز ككمال ناصر الوحيد الذي لم يتدخل في شؤون المركز أو التسلل اليه للسيطرة عليه!! كمال ناصر إذ ترأس مرةً وفداً من المنظمة الى الفاتيكان جاء يسأل أنيس صايغ كيف سيسلم على البابا، وهل عليه أن يلثم يده وهو إنجيلي لم يعتد على لثم أيدي الكهنة؟ فقال له صايغ: يكفي أن تنحني أمامه قليلاً. وبعد عودة الوفد اطلع كمال ناصر أنيس صايغ على صورة لقائه بالبابا. فإذا بالبابا ينحني أمام كمال الذي وقف منتصباً. فقال صايغ لكمال: اقترحت عليك ألا تنحني كثيراً واذا بك تجعل البابا ينحني أمامك!! ويبقى في بال أنيس صايغ من طبريا سؤال عن المسيح الذي رفع من شأن المدينة الناشئة بعد أن كانت مدينة دنسة ونجسة عند اليهود في السنين الأولى من عمرها لأنها بُنيت فوق مدافن قديمة. فالمسيح اختار طبريا لتصبح واحدةً من أشهر المواقع في تاريخ المسيحية الأولى، وألقى في محيطها وجوارها أشهر خطبه ومواعظه. واختار من بين أهلها أحد عشر تلميذاً من بين تلاميذه الاثني عشر، لأن الوحيد الذي كان من القدس هو يهوذا الاسخريوطي الذي غدر بالمسيح وسلمه الى اليهود ليقتلوه مقابل ثلاثين من الفضة. وكما يرى أنيس صايغ فالمسيحية مَدينة لطبريا منطقة وبحيرة، تاريخاً وتقاليد وفلسفة وتعاليم. فلا مدينة المولد"بيت لحم"ولا مدينة النشأة الناصرة ولا مدينة الصلب القدس أعطت للمسيحية بقدر ما أعطته طبريا. غير أن صنائع المسيح ومعجزاته في طبريا وعلى الشاطئ الشرقي من بحيرتها تركت وشماً في مخيلة أنيس الصايغ ربما صار جرحاً وربما سؤالاً عابثاً من غير جواب! فأنيس صايغ مذ سمع أن المسيح شفى مريضاً يهودياً مصاباً بداء الصرع بأن"أخرج الشياطين"من جسده وأدخلها في قطيع للخنازير كان يمر صدفة قرب البحيرة، فأصيب القطيع بالجنون وقذفت الخنازير بأنفسها في مياه البحيرة حتى كان أول انتحار جماعي!! فأنيس صايغ وحتى اليوم يعيد ويستعيد سؤالاً وجودياً: هل يجوز انقاذ خليقة بإعدام مخلوقات بغير قاعدة؟