منذ أقدم العصور التي وعت تاريخ العلم والعلماء، لم نعثر لكلمة"العلم"إلا على معنى واحد معروف ومتداول في سائر الأوساط، هو"إدراك الشيء على ما هو عليه بدليل". ومن ثم فقد دخل في موضوعات العلم كل ما يمكن للعقل أن يدركه، مما يتعلق بالماضي أو الحاضر أو المستقبل، مادياً كان أو غيره. فلما بدأ عصر النهضة الأوروبية، وأخذت العلوم الطبيعية في الازدهار، فوجئ المجتمع الحضاري كله بتعريف جديد لكلمة"العلم"... تعريف يقلّص صلاحية العلم بحيث يصبح حِكْراً على المكونات الطبيعية، الخاضعة للحواس الإنسانية. إذ أصبح عبارة عن التجربة الحسية لأشياء الطبيعة، ثم عن رصد للنتائج وافتراض قاعدة على أساسها. وتتجلى في هذا المعنى الجديد للعلم ظاهرتان اثنتان: الأولى، أن العلم بهذا المصطلح الجديد أصبح تجربة مادية أكثر من أن يكون نشاطاً عقلياً، ومن ثم فهو لا يملك قرار الديمومة والثبات. الثانية، أن العلم أصبح مقطوع الصلة عن كل من الماضي والمستقبل والحاضر الغائب عن الحواس، ومن ثم فقد أصبح مقطوع الصلة بالدين من حيث هو. ما السبب الكامن وراء هذا التطور؟ السبب أن نفوس عامة الناس في أوروبا كانت قد فاضت ألماً من رجال الكنيسة الذين أسرفوا في الانتصار لأصولهم الدينية، مما دعا الناس بعد كبت طويل إلى أن يجاهروا بنظرياتهم وأفكارهم العلمية... وفي ظل هذا الاندفاع ظهرت حركة علمية كان لها تأثير كبير على العلوم التجريبية، تمت على أيدي ثلاثة من العلماء هم: غاليله، وديكارت، ونيوتن. وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يوجدوا في عصر واحد لتتلاقى جهودهم العلمية على التجربة المادية المشاهدة. فهؤلاء هم أول عامل في تحول معنى العلم وإعادة النظر في المجال الذي له أن يتحرك فيه، وهم أول عامل في قطع الصلة بين العلم وكل ما هو غيبي، بعيداً عن دنيا المادة. ومن خلال تأثر المجتمع الأوروبي بهذه الظاهرة، سادت الأفكار المادية، فطوي الإيمان بالخالق خصوصاً عند المشتغلين بالمصطلح الجديد للعلم، وتحولت حكاية الروح إلى أسطورة، وعاد الوعي مجرد وظيفة فيزيولوجية للدماغ، وطويت الحقائق الغيبية كلها في داخل البنية المادية للكون. فالمادة في نظر نيوتن ذات خواص مستقلة ثابتة إلى الأبد. والمكان والزمان عنده حقيقتان مطلقتان، والتغيير الذي يتم مهما امتد أو تنوع، فإنما يتم تحت سلطان المادة ذاتها. وهذا ما يفسر بنظره ونظر أتباعه أبدية المادة وانبساط سلطانها على كل شيء. النتائج العلمية المناقضة ولكن هل سارت الأمور طبق ما اقتضته تلك النشوة التي أعقبت ذلك الكبت؟ وهل خضع البحث العلمي في ما بعد لسلطان ذلك التصور الذي تبناه نيوتن وأتباعه؟ لقد انطوى القرن التاسع عشر، وأقبل القرن العشرون بفتوحاته العلمية الباهرة، ولكنها لم تكن من النوع المتوقع!... فالاكتشافات الجديدة لم تكمل فيزياء نيوتن بل أطاحت بها. واكتشافات أينشتاين عام 1905 هدمت ركنين أساسيين من أركان النظام المادي القديم مما استوجب حمل علم الفيزياء على التخلّي للأبد عن فكرة المكان المطلق والزمان المطلق. وعلم الحياة الحيوانية لم يسر هو الآخر مع نبوءات الفكر المادي الذي فار فورته الهائلة في القرن التاسع عشر، بل وصل، على غير توقع، إلى نقيض ما كان مؤملاً. فسارت، بل توالدت نظريات التطور المتعارضة بل المتناسخة، عن أصل الإنسان، بدءاً من اللاماركية إلى الداروينية إلى الداروينية الحديثة، من دون الوصول إلى أي قرار علمي يؤيد فرضية تطور الإنسان من حيوان آخر، بل إن اكتشاف الصبغيات وما تحمله من الجينات"المورثات"أكد أن الصفات الخِلْقية والخُلقية التي ستظهر في حياة الإنسان إنما تنبثق من هذا العقل الداخلي المبَرمَج لا من العوامل الخارجية والطبيعية الباعثة على التطور. ولعل آخر من أكد هذه الحقيقة العالم الفرنسي الدكتور موريس بوكاي في كتابه"What is The Origin of Man"ما أصل الإنسان؟. وفي ظل هذه الاكتشافات التي وسّعت معنى العلم واخترقت حدوده المادية إلى ما وراءها، تأكد ما يقرره ديفيد هيوم من أن العلم هو ما ينبثق من معاناة الفكر والعقل، لا ما يصدر عن تجربة الحواس، ذلك لأن تجربة الحواس إذ تلاحظ صلة ما بين السبب والنتيجة لا تفيد حتمية العلاقة بينهما مهما تكررت أمام أبصارنا ظاهرة الاقتران بين الأسباب ومسبباتها، إذ إننا لا نرى العلة التي هي منشأ الحتمية والضرورة، وإنما نرى الحوادث مقترنة بالنتائج، فنتخيل الصلة الحتمية بينهما. ومن ثم فإن ما يسمونه القوانين الطبيعية ليست حقائق أزلية ضرورية تتبعها النتائج، بل هي خلاصة لتجاربنا الحسية القابلة للتبدل دائماً. هذه التطورات المهمة في مجال العلم كان لا بدّ أن تقود العلماء اليوم إلى اليقين بوجود حقيقة مستقلة اسمها الوعي. إذ لما كانت المادة في أدنى مستوياتها لا تفهم إلا باستخدام العقل، فقد كان لا بدّ أن يكون العقل إحدى حقائق الوجود المطلقة، والحجة ذاتها قائمة على وجود الروح والعواطف والقيم الجمالية، بوصفها حقائق ذات وجود مستقل عن دنيا المادة وأي من معطياتها. وقد استتبع اليقين بهذه الحقائق المطلقة تراجعاً لا مندوحة عنه، عن القول بسرمدية المادة وأزليتها واستلزم تساؤل العقل عن حقيقة الماضي السحيق وما كان في أغواره، وعن النهاية التي تتربص بالمادة، وعن الحقائق الكامنة وراءها. ولكن ماذا عسى أن يقول العلم في ذلك كله، وقد قضي عليه بالسجن داخل ذلك البنيان الصغير الذي يسمى"المادة"أو"الطبيعة"؟ لا ريب أنه لن يقول شيئاً إذ ليس بوسعه أن يخوض في ما لم يعد داخلاً في اختصاصه! إن هذه الحقائق عندما كانت غائبة أو محجوبة عن العقل وراء ستار الفكر المادي، لم يكن في الأمر ما يحرج، إذ كان من المستساغ أن يقال باسم العلم: لا وجود لشيء من هذه الأمور المزعومة. أما وقد أعلنت هذه الحقائق اليوم عن نفسها، ودانت لها العقول، واعترفت بها الألسن، فإن من المحرج جداً أن يقول العلم، والعلم ذاته: لا أدري، لأن الخوض في هذه الحقائق ليس من اختصاصي! إذن إلى من يلجأ الإنسان الهارب من جهله بهذه المعضلات التي تلاحقه أينما ذهب، بعد أن التجأ إلى العلم يسأله، فأجابه: إنه قد تقاعد عن الخوض في كل ما هو خارج عن دائرة المادة والطبيعة؟! تلك هي صورة الأزمة الفكرية التي تتنامى في الغرب اليوم، فالحقائق التي كانت إلى الأمس القريب محل رفض وإنكار، تشكل جلّ الموضوعات التي يتناولها الباحثون والمفكرون الغربيون اليوم بالإذعان والتقدير. ومن المعلوم أن الأداة الوحيدة التي تملك معالجة الحقائق والكشف عن أغوارها إنما هي العلم، والعلم ممنوع من الخوض في شيء من ذلك، لأن محكمة حكمت في القرن السابع عشر على العلم بالحرمان من حق البحث والنظر في كل ما كان خارجاً عن حدود الطبيعة الخاضعة للمشاهدة والتجربة. فمن أجل ذلك تتجه كثير من الأفكار العلمية اليوم في الغرب إلى إعادة النظر في هذا المصطلح الزائف لمعنى العلم، وإلى رفع ذلك الحجر الذي انتهى إلى تقسيم الإدراك الذهني إلى ما يسمى Science"العلم"وما يسمى بKnowledge "المعرفة". العلم لا يتدخل في أي شيء وراء المحسوس المادي، والمعرفة يسمح لها بالخوض في كل ما تجاوز المنظور والمحسوس. إن الفكر الغربي يسير اليوم في منعطف يتجه إلى إعادة هاتين الكلمتين الى أصلهما الواحد أو التقريب بينهما ما أمكن، وذلك من خلال المنظور الجديد لكلمة العلم. إن العلاقة بين النار والإحراق في الفكر الغربي الحديث لم تعد حتمية كما كان متَصوراً من قبل، بل الحق ما أكده هيوم من قبل من أنه لن يجزم علمياً باحتراق الهشيم في النار ولو سبق أن رأى احتراقه فيه مليون مرة، حتى يعيد التجربة من جديد. إذن ثمة يد أخرى تدير نظام حركة المادة خارجة عن سلطان المادة الزائدة على العلاقة الشكلية ما بين السبب والمسبب. إن العلم في منظوره الجديد لم يعد يقيم وزناً لما درج عليه طائفة من المغترين بكلمات العلم وعناوينه والفقراء إلى الوقوف على أصوله وقواعده، من جعل المألوف وغير المألوف ميزاناً لما هو ممكن وما هو مستحيل. فالمألوف عندهم هو الممكن العقلي والعلمي، وغير المألوف هو المستحيل العقلي والعلمي! وعلى هذا فمصدر الإمكان وعدمه عندهم ليس كامناً في الأشياء التي هي موضع البحث، وإنما هو كامن في وضع الإنسان والحالة التي يتلقى عليها أنباء هذه الأشياء! وعندئذ يصبح الإمكان وعدمه في أحوال الكون وتقلباته تابعين لأمزجة الناس من جانب، وتابعين للظروف والأزمنة التي يعيشون فيها من جانب آخر! فهل بين المثقفين من يصدق أو يؤخذ بهذا اللغو العجيب الذي يصاغ اليوم باسم العلم؟! وصفوة القول ان الحقائق الغيبية التي أنكرها الغرب بالأمس، ويذعن لها اليوم، كالروح والعقل والوجدان والقيم الجمالية لا يمكن فهمها بطريقة علمية إلا على ضوء الإيمان بوجود الخالق عز وجل: ومن دون ذلك تبقى هذه الحقائق - وإن أذعن لها العلم - لغزاً يستعصي على الفهم. وإذا تم الإيمان الحقيقي بالخالق عز وجل، فلا ريب أن هذا الإيمان يسلم صاحبه إلى الدينونة بالعبودية له، ويحمله على الإصغاء إلى أنبيائه وتعاليمه، ثم يدعوه إلى التقيد بهذه التعاليم جهد الاستطاعة. وذلكم هو الدين. كل ما في الأمر أن على الإنسان، وهو يتلقى تعاليمه، ويصغي إلى خطابه، أن يهتدي بمنهج علمي سليم، وأن يحذر من الاستسلام للعواطف التي لا تتقيد بضوابط العلم. وإذن، فإن الدين الحق ليس ممارسة لحقيقة العلم، ولا هو خط مستقل موازٍ لخط العلم ومنهجه، بحيث لا ينطلق معه من بداية ولا ينتهي معه إلى نهاية، وإنما الدين الحق نهاية على طريق العلم. فمن أذعن للعلم وأخلص له، وواصل رحلته على طريقه لا بدّ أن يجد نفسه أخيراً وجهاً لوجه أمام الحقيقة العلمية الكبرى... أمام الدين الحق الذي ابتعث الله به الرسل والأنبياء جميعاً منذ فجر الوجود الإنساني. ومما لا شك فيه أن المجتمعات الغربية تواصل رحلتها اليوم على طريق العلم، لا أدلّ على ذلك من اجتيازها للتصورات التي جاء بها نيوتن وأشياعه من قبل، وشطبه عليها بعلامة البطلان، وذلك على ضوء الاكتشافات الحديثة التي دل عليها العلم بمنظوره الجديد. إن هذه المواصلة الدائبة من الغرب على طريق العلم، ستسلمه عما قريب إلى الإيمان الفعال بالحقيقة الكبرى المتمثلة في مبدع هذا الكون، ذاك الذي يدير مملكة الكون على أدق نظام، وهو الله عز وجل. وستسلمه هذه الحقيقة العلمية الكبرى إلى الدينونة لها والخضوع لسلطانها. وإنه ليوم قريب لا مفرّ منه ولا ريب فيه. * استاذ بجامعة دمشق