منذ أن كتب غاليليو غاليلي الإيطالي كتابه حوار العوالم في النصف الأول من القرن الخامس عشر الميلادي، وفي أعقاب ما عاناه من عنت الكنيسة الكاثوليكية في روما وما تمخض عن أبحاثه وتجاربه من نتائج كانت ايذاناً بانطلاق العلوم الحديثة في أوروبا. وفي أعقاب نجاح المنهج العقلي الحر للتأمل في العالم من أجل اكتشاف نواميسه وسبر أسراره في ما كشفه نيوتن وكبلر وداروين وغيرهم من عباقرة الغرب خلال أربعة قرون خلت، وما نتج عنها من توظيف فاعل لخدمة الانسان وتطوير رفاهيته المادية مما انعكس لاحقاً كثورة صناعية تمدينية واسعة في الغرب، نزع الناس إلى هجر المعتقدات الدينية والتخلي عن الإيمان بالغيب. كان ذلك لمصلحة التفكير المادي المحض والإيمان بالسببية الطبيعية والاعتقاد بأن وجود الإنسان والعالم تحكمه جملة قوانين تشكل بمجموعها عقل العالم. هذه القوانين التي سميت قوانين الطبيعة هي ما يسعى الإنسان الغربي إلى اكتشافه وتوظيفه لمصلحته وليس شيء غير ذلك ذي بال في الوجود. هذا المسلك الغربي نجح في إشباع الحاجات المادية للإنسان. أما الجانب الحيوي المع نوي للإنسان فقد استنزفته هذه النزعة المادية وأثرت تأثيراً سلبياً في منظومته القيمية مما أفقده التوازن المطلوب بين ما هو مادي وما هو معنوي. فقدان التوازن هذا بدأ يظهر واضحاً مع بدايات القرن العشرين. وقد تمثل ذلك بظهور النزعات العبثية والخواء القيمي وعدم احترام الذات فكثرت أعمال العنف وازدادت نسبة حوادث الانتحار. هنا ظهر مجدداً التساؤل عن قيمة ومعنى وجدوى الوجود. يقرر العقل العلمي أن لكل من العلم والدين ميدانه فالدين ينطلق أصلاً من منطلقات غيبية تسليمية ثابتة. أما العلم فينطلق من منطلقات عقلية تخضع للمناقشة والتحقيق والتبدل والتجدد. ولا سبيل إلى إخضاع أي منهما إلى حكم الآخر. العلم يشكل القاعدة الأوسع للنشاط العقلي الانساني أما الدين فيشكل المكان الأرحب للتأمل الروحي الموصل، عبر جسر الوعي، إلى رحاب عوالم لا يتسع لها الوجود الفيزيائي. ومن الناس من لا يرى أي معنى حقيقي للتأمل الروحي بل يجده نوعاً من الهلوسة الذهنية. وبعضهم الآخر من أمثال الفيزيائي الشهير ستيفن هوكنغ يرفض التسليم بوجود عوالم لا فيزيائية ما لم تكن نتاجاً لمعادلاته الرياضية، وآخرين مثل ستيفن واينبرغ يرفضون مثل هذه العوالم ما لم تكن قابلة للفحص والتجريب. وهؤلاء يصرون ضمنياً على إخضاع الغيب للعلم، إخضاع الميتافيزياء للفيزياء، وهو أمر غير ممكن قطعاً. قامت في الغرب خلال العشرين سنة الماضية حركة واسعة للتوفيق بين العلم والدين الدين المسيحي على وجه الخصوص، وأنشأت لأجلها مؤسسات خيرية تعمل على التمويل السخي لعدد كبير من مشاريع الدراسات والأبحاث في هذا الاتجاه. وجاء هذا بعد أن لوحظ عزوف السواد الأعظم من الناس عن الدين واعتباره جزءاً من مخلفات الماضي. ما أدى إلى حصول فراغ روحي كبير وخواء نفسي نتج عنه ظهور أمراض اجتماعية كثيرة وإخلال بالأمن النفسي للفرد والاطمئنان الذاتي. من جانب آخر فقد لوحظ أن الديانات الأخرى الاسلام والبوذية على وجه الخصوص تحقق كسباً كبيراً في أوساط المجتمع الغربي إذ صار الكثير من الناس يتحول إلى هاتين الديانتين، في وقت عجزت فيه الكنيسة عن استقطاب الناس على رغم تنويع وسائلها وتحديث توجهاتها. وبعد دراسة أسباب عزوف الناس عن الدين في الغرب وجد أن تهافت المعتقدات الغيبية بالصورة التي قدمها الكتاب المقدس هو السبب الرئيس خلف هذا العزوف. لذلك انتهجت الحركة الجديدة التي تسعى إلى التوفيق بين العلم والدين نهجاً جديداً تمثل بتوظيف مكتشفات العلم الحديثة والمعاصرة في سبيل إثبات وجود قوة مهيمنة تتحكم بقوانين العالم. لقد كشفت الفيزياء الحديثة التي وضعت أسسها وأنجزت معظم اكتشافاتها خلال النصف الأول من القرن العشرين، ممثلة بقاعدتيها نظرية الكم التي تعالج العوالم الذرية ونظرية النسبية التي عالجت قوانين الحركة وقوة الجاذبية، عن مضامين فلسفية جديدة تحكم هذا العالم، وأول هذه المضامين مبدأ اللاحتم في حركة الطبيعة. مما كان له أثره على مبدأ السببية causality الذي لم يعد بتلك الرصانة الكلاسيكية المتينة. كما كشفت عن أن العالم هو في حال تغير وتجدد مستمرين، فلا شيء يبقى على حاله زمانين. فضلاً عن نسبية الزمان والمكان وتداخلهما معاً في الحدث الفيزيائي. كما كان لاكتشاف نظرية الانفجار العظيم وظهور بداية للكون أثر بالغ في تغيير الرؤية العقلية إلى الكون. فإذا كان من بداية للمكان والزمان فلا بد أن يكون هذا الكون مخلوقاً أو محدثاً كما كان يقول الأولون. وهذا يتطلب وجود خالق. وهذا ما دفع بعضاً من علماء الكونيات من غير المؤمنين بوجود خالق للبحث في سبل تجعل للزمان وجوداً قبل خلق الكون. أو وجوداً ممتداً للكون امتداداً لا نهائياً. وهكذا طرحت فكرة الكون المتذبذب cyclic universe والتي يتحول فيها الكون من حال التوسع إلى حال الانكماش حتى يؤول إلى نقطة كما كان بدأ أولاً لينطلق بعدها في دورة جديدة. وهكذا في عدد لا نهائي من الدورات ليكون هذا الكون بالنتيجة أزلياً لا بداية له. لكن هذه الفكرة سرعان ما واجهت اعتراضات فيزيائية قوية تتلخص بأن افتراض عدد لا نهائي من دورات الاتساع والانكماش سيعني أن يكون الكون في حالة من الفوضى اللانهائية، وبالتالي لن يكون هنالك في أي مكان منه حال انتظام وبنى منتظمة كالمجرات والنظم الشمسية، بل لن تكون من حياة في مثل هذا الكون. ثم حاول عالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكنغ بالتعاون مع زميله وليم هارتل تقديم مبرهنة رياضية تبين أن الكون كان قائماً في زمن لا نهائي قبل تخلُّقِهِ مادياً. لكن هذا الزمن الذي كان فيه هو زمن رياضي خيالي imaginary وليس الزمن الحقيقي. وعلى رغم ذلك فقد تمسك المؤيدون لرؤية الوجود اللانهائي للكون والذي لا يحتاج إلى خالق بنظرية هوكنغ وهارتل هذه واعتبروها مخرجاً من المأزق الفلسفي الذي وضعتهم فيه نظرية الانفجار العظيم التي تقرر وجود بداية. فيما اتجه آخرون من أمثال البروفسور أدولف جرمبوم إلى محاولة دعم هذه الفكرة بالقول إن انبثاق الكون من العدم يعني انبثاقه من نقطة رياضية أو ما نسميه الفردنة أو التفردية singularity وهذه النقطة لا تمثل حدثاً فيزيائياً أصلاً لأن الحدث يستلزم حصوله في زمان ومكان. وعلى هذا الأساس ينفي أن يكون الكون محدثاً. على حين أن المؤيدين لنظرية الخلق من عدم، وبالتالي هم أيضاً القائلون بحاجة الكون إلى خالق، يرون أن الزمان والمكان لا بد من أن يكونا قد ولدا أصلاً مع ولادة الكون. وهذا ما تقرره نظرية النسبية العامة لآينشتاين. بل لا يوجد زمان ولا مكان خارج الكون لأن الكون ليس له خارج. وهذا بالفعل ما تقوم عليه نظرية الفيزياء الكونية المعاصرة وما نقوم بدراسته يومياً كجزء أساسي من عملنا التخصصي. لكن المعارضين لنظرية الخلق يلجأون هذه المرة إلى القول إن التطويرات التي أجريت على نظرية الانفجار العظيم والتي كانت ضرورة أملتها نتائج الأرصاد الفلكية التي أجريت خلال الأعوام الأخيرة تبين إمكان وجود عدد لا نهائي من أكوان أخرى إلى جانب كوننا الذي نعيش فيه وحتى لو كانت هذه الأكوان خالية من الحياة كما هو مرجح إلا أنها إمكانات فيزيائية لها وجودها الواقعي. إلا أن المؤيدين لنظرية الخلق يرون أن هذه الإمكانات إن هي إلا افتراضات نظرية بحت لا سبيل إلى التحقق منها بالفعل أبداً. وبالتالي ليس لها وجود واقعي. وهذا ما يسحب المسألة إلى مطارحة فلسفية كلاسيكية تقع في نطاق الحوار الكانطي - الهيغلي القديم من حيث معنى الوجود وهل إن للأشياء وجوداً خارج الوعي أم لا. كما يرى المؤيدون لنظرية الخلق أن نظرية الأكوان المتعددة multi-verse هي نظرية طارئة فرضتها حلول رياضية صرفة ليس لها معنى أنطولوجي وربما تختزل هذه الحلول اللانهائية حتى على المستوى الابستمولوجي إلى الكون الواحد universe لاحقاً بتطوير نظريات أكثر شمولاً. والحق أن نظرية الأكوان المتعددة هذه جاءت نتيجة لتطوير نظريات التضخم inflation theories الكوني والتي هي حلول نظرية طارئة وموقتة ad hoc لمشكلات نظرية أساساً أبرزتها الأرصاد الفلكية الدقيقة في ما يسمى بالخلفية الكونية المايكروية cosmic Microwave background radiation التي تم اكتشافها عملياً في أواسط الستينات. وبالتالي فلا تعد مثل هذه التصورات تعبيراً عن واقع محقق. من جانب آخر وجد المؤيدون لنظرية الخلق في اكتشافات الفيزيائيين المعاصرين أن العالم كله مصمم بتقدير دقيق إنا كل شيء خلقناه بقدر وإنه قائم على سلسلة طويلة من التوافقات العددية للثوابت الكونية الفيزيائية الدقيقة، وإن تغيير مقادير هذه الثوابت إنما يؤدي إلى تغير جوهري كبير في بنية العالم، حتى أنه ربما يؤدي إلى انعدام إمكان وجود حياة مثل التي نحن عليها الآن، وجدوا فيه دليلاً على العناية بصنع الكون. وإن وراء هذا الصنع الدقيق والنظام المتكامل، والذي لم يكن ممكناً لولا حصول اختيار دقيق للثوابت الكونية المؤسسة لبنيته، مصمماً وصانعاً عالماً خبيراً وقديراً. مما يعني في جانب منه أن الكون في ما يبدو مسخّر للإنسان وإن تصميمه بهذه الدقة يستهدف تحقق وجود الانسان فيه. وهذا المبدأ المسمى"المبدأ الإنساني"anthropic principle، وأعرّبه إلى"مبدأ التسخير"، قد أخذ حيزاً واسعاً من اهتمام الباحثين في مجال التوفيق بين العلم والدين في الغرب، وقد تبنته بعض المؤسسات الداعمة للأبحاث في هذا المجال وخصوصاً الأميركية منها. وقد كان الفيزيائي براندن كارتر من أوائل المنظرين لهذا الاتجاه تبعه آخرون مثل الفيزيائي البريطاني جون بارو الذي سيحصل هذا العام على جائزة تمبلتون للتوفيق بين العلم والدين وقيمتها النقدية مليون دولار. ومن الجدير بالذكر أن بارو ألف كتاباً في المشاركة مع زميله تبلر حول مبدأ التسخير هذا يقع في أكثر من 700 صفحة، بسط فيه بحيادية عالية جوانب الموضوع وناقشها من منظور علمي تفصيلي ودقيق إلى قدر كبير. إلا أن المعارضين لنظرية الخلق يرون أن هذه التوافقات العددية في بنية الثوابت الكونية إنما جاءت بالصدفة، بينما يقول آخرون ان هذه التوافقات ليست إلا تعبيراً عن حالة وجودنا في هذا الكون نفسه من دون أن تكون لها بالضرورة أي مضامين ميتافيزيقية. كما يناقش كثير من الباحثين المؤمنين بوجود الخالق مسألة الفعل الإلهي في العالم وهذا يجرهم إلى معالجات شبيهة بتلك التي وقعت تحت عنوان مباحث"جليل الكلام"التي عالجت الصفات الإلهية والقدرة والبعث والمعاد وكيفية تدخل الله في العالم. ومن أبرز الباحثين الذين يعالجون هذا الموضوع هو البروفيسور جون بولكنهورن وهو فيزيائي عمل في موضوع الجسيمات الأولية حتى بداية الثمانينات ثم تحول إلى الدراسة المنهجية لعلم اللاهوت وأصبح قساً رسمياً ثم بدأ عمله الريادي في مجال التوفيق بين العلم والدين المسيحي موظفاً معرفته العلمية التخصصية لخدمة جانب من الأفكار اللاهوتية إلى جانب محاولة استنباط مفاهيم ومنطلقات جديدة لفهم الخالق من منظور علمي - ديني. وقد صار الباحثون الغربيون المهتمون لمباحث العلم والدين يولون اهتماماً كبيراً لفكرة الخالق القيُّوم sustainer على العالم إذ يتدخل باستمرار لإدامة الوجود. وهذه فكرة جديدة على الفلسفة الغربية الإلهية القائمة أساساً على فكرة أن الخالق هو الموجد والمحرك الأول للعالم. وبعد أن وجد العالم وأودع الخالق قوانينه فيه تركه يعمل وفق هذه القوانين وبالتالي يتحول دور الخالق إلى متفرج بل هو ما نسميه الإله المستقيل. هكذا هي صورة الخالق فعلياً في الفلسفة الأرسطية وهكذا هي في العقل الغربي الفلسفي. لذلك أحدثت الأفكار الجديدة تحولاً في العقل الفلسفي الغربي باتجاه إعادة النظر في فلسفة الفعل الحتمي للقوانين الطبيعية. وهذا موضوع فيه سجال كلامي واسع يتصل بالتالي بمناقشة موضوع السببية ومدى التزام حوادث العالم الطبيعي بالسببية والحصول الحتمي للنتيجة بعد وقوع السبب. وهنا تلعب المفاهيم الجديدة التي جاء بها ميكانيك الكم وبالأخص مبدأ عدم التحديد لهيزنبرغ دوراً محورياً في تقديم التصور التجويزي الاحتمالي لنتائج الظواهر الطبيعية. فيصفق لها كثيراً ويوظفها المؤيدون لنظرية الخلق والمؤمنون بوجود الخالق، فيما يرى آخرون أن هذه السمات الغريبة التي جاءت بها نظرية الكم لربما هي حال موقتة تعبر عن نظرية غير كاملة ويتوقعون أن يكون المستقبل كفيلاً بإزالة هذه التناقضات والمعاضل من خلال اكتشاف نظريات علمية أكثر اكتمالاً وانسجاماً مع بعضها ستعيد برأيهم مبدأ الحتمية إلى موقعه المشرف. وينخرط مع هؤلاء المتفائلين بمثل هذه النظرية عالم الفيزياء النظرية العتيد ورافع لواء الإلحاد ستيفن واينبرغ الحاصل على جائزة نوبل عام 1979 بالمشاركة مع عالم الفيزياء المسلم محمد عبدالسلام رحمه الله وزميل آخر لهم هو شيلدون غلاشو. هؤلاء الثلاثة اليهودي والمسيحي والمسلم، عملوا من أجل اكتشاف نظرية توحيد القوى النووية الضعيفة مع القوى الكهرمغناطيسية وبالفعل اكتشفوا القوة الكهرضعيفة electroweak force وحصلوا لأجل ذلك على جائزة نوبل. تذكرني حوارات العلم والدين القائمة في الغرب حالياً بحوارات المتكلمين المسلمين وهم الذين عُرفوا أولاً تحت تسمية المعتزلة مع الفقهاء ومع الفلاسفة خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين/ العاشر والحادي عشر الميلاديين. إذ طرحت المسائل نفسها التي تطرح اليوم على بساط البحث، سواء كانت مسائل طبيعية أم مسائل إلهية. وكان نتاج تلك الفترة أن توصل المتكلمون إلى جملة استنباطات في الأمور الطبيعية مثلت جملة من رؤيتهم للعالم تتلخص بالقول بحدوث العالم أي خلقه بعد أن لم يكن والقول بنهائية تجزئة الأشياء أي ما نسميه اليوم مبدأ الذرية، والقول إن لا شيء في العالم يبقى على حاله زمانين، فالأشياء في حالة تجدد مستمر. وقولهم إن حوادث العالم جوازية احتمالية غير حتمية وقولهم بتداخل الزمان والمكان ونسبيتهما. هذه الطروحات التي يتم إجمالها في ما يسمى دقيق الكلام. لكن المتكلمين دخلوا أيضاً في بحث المسائل الإلهية في محاولة منهم لتفسير فعل الله في العالم وفهم صفاته وتحديد مسؤولية العبد تجاه عمله ومناقشة صفات الخالق وكيفية البعث في الآخرة وإمكان رؤية الباري وغير ذلك من هذه المسائل هذه التي سميت"جليل الكلام". وقد تيسر لي خلال السنوات العشر الماضية دراسة علم الكلام دراسة تفصيلية متفحصة فوجدت أن طروحات المتكلمين في مسائل دقيق الكلام لم تكن خاطئة بل ربما كانت متقدمة على عصرها. أما مسائل جليل الكلام فقد كانت في معظمها خاطئة وقاصرة عن إدراك واستيعاب المحتوى المعرفي للمسائل الإلهية بسبب اعتمادها قياساً خاطئاً. ذلك هو السبب الذي أدى إلى حصول الشقاق الكبير بين الفقهاء والمتكلمين وحصلت أعمال العنف والفوضى في المجتمع مما حدا بالخليفة العباسي المقتدر بالله أن يحرم الاشتغال بعلم الكلام ويحرم تداوله أو حتى الاحتفاظ بكتبه. مثل هذا القياس الخاطئ هو ما يقع فيه اليوم بعض المفكرين الغربيون في تداولهم للحوار بين العلم والدين. وهذا الخطأ يكمن في محاولتهم استنباط الدين من العلم أحياناً، ومحاولتهم ترتيب صفات الخالق بموجب معطيات العلم الاستنباطي القاصرة عن معالجة مفاهيم وأصول وصفات مثل هذا الحقل الغيبي. تماماً مثلما كان قد فعل أسلافنا المتكلمون من قبلهم. فتجد أحدهم يستنبط أن الله لا يعرف المستقبل وآخر يعتقد بأن الله لا يعرف الجزئيات بل علمه محصور في الكليات بحسب وهكذا. إن المراجعة السريعة لجهود العاملين في مجال التوفيق بين العلم والدين في الغرب تُظهر أن لدى المسلمين الكثير الكثير مما يمكن أن يقدموه في سبيل تطوير وإنضاج هذا الحوار، لديهم منهجية متميزة في النظر إلى العالم أسس لها القرآن بمنظور دقيق على الصعيد الإجمالي من دون أن يدخل في كثير من التفاصيل. ولديهم أعمال المتكلمين التي يُراد تنقيتها وتصفيتها وإعادة بنائها وتقديمها للعالم بأسلوب جديد معاصر يتجاوز تلك السكونية العقيمة التي كانت عليها ويتجاوز القياس المغالط الذي اعتمده جليل الكلام. كما أن لديهم حوارات ابن رشد وأبو حامد الغزالي التي نجدها اليوم ثروة فكرية هائلة يمكن إعادة تركيبها وفق المنظور المعاصر. وقد قمت أخيراً بدراسات أكاديمية تفصيلية لبعض هذه الأعمال نشرت في دوريات علمية. كما أن لديهم أعمال الفلاسفة الاسلاميين الكندي وابن سينا والفارابي وابن الطفيل وابن رشد وغيرهم كثير ممن حاولوا التوفيق بين الحكمة والشريعة. كما أن لديهم أعمال المتصوفة الكبار كالنفري وابن عربي وجلال الدين الرومي وابن عطاء الله السكندري وغيرهم. إذاً فمعين الحضارة العربية الاسلامية معين عظيم ومورد لا ينضب أساسه القرآن وهو زمزم الفكر الإسلامي بشتى وجوهه وتنوعاته. المهم أن تناول الفكر بحرية واسعة وألا يكفر بعضنا بعضاً وأن نخرج من قيد الحرف إلى سعة العقل ومن ضيق التكفير وكراهته إلى سعة التفكير وسماحته فقد آن الأوان أن ينضج الانسان. جامعة اليرموك الأردن