لسنا نساكاً ولا جنوداً ولا كهنة ولا ثواراً. وما اجتمعنا اليوم لأجله يفرق ولا يجمع، فالشعر كما نعلم عزلة وليس نسباً ولا حزباً ولا طريقة. مع ذلك فإن ابتهاجنا بهذا اللقاء فوق ما نرجوه منه، ولا ينغصه أن ظرفاً عملياً حرمنا من لقاء آخرين تمنينا رؤيتهم معنا. بعد نصف قرن على قصيدة النثر لن يكون هذا الاجتماع تأسيسياً بالطبع، ولن يكون دفاعاً متأخراً ولا مديحاً فائتاً. مع ذلك فإن سعادتنا به ليست إلا لأنه لا تبعات. نجتمع بعد نصف قرن لنجد أن قصيدة النثر ليست واحدة وأنها بعد كل هذا الزمن لم تشكل نوعاً موصوفاً، وأننا الى الآن لا نعرف كيف نردها الى الشعر وكيف نردها الى النثر، وأن حدودها لا تزال مفتوحة فالتة، وفرزها من غيرها يزداد صعوبة. وأنها لا تزال في السلب والنفي اكثر مما هي في الايجاب، ولم تجعلها العقود أقدر على تكوين تاريخ ولم تتواصل إلا بما لا يحصى من الانقطاعات والفجوات، ثم انها تغذت من الخيانات والانقلابات ولم تؤد أمانة لأصحابها أو لغير أصحابها. نجتمع ونحن أكثر عدداً بدون أن نكون أقل انفراداً. اذا غلبت قصيدة النثر على شعرنا في الأوقات الأخيرة فقد كان هذا بثمن فادح. لم تتصدر إلا بعد ان جرّت الشعر كله الى عزلتها وثانويتها وأغرقته بشكوكها وشبهاتها ووصمته بخيانتها ولعنتها، كان نجاحها نفسه مسموماً. لم نجتمع اليوم لنصوب أو نصحح أو نؤسس عهداً أو ميثاقاً أو بياناً، أو لنعرّف ونحدد ونسمي. لقد استمرت قصيدة النثر وحققت قفزات واطواراً بدون ذلك كله. تقدمت باشكالها وازدواجها وتنازعها الداخلي. وتتابعت بسلبها ونفيها، وأنجزت وتحققت بدون أن يكون لها نوع ولا حدود. كانت بذلك دينامية وحاجة اكثر منها جواباً. دينامية تتخطى الأجوبة الصغيرة والاسئلة الصغيرة التي تلقى على طريقها. واذا كان هناك من شيء موجب للاحتفال فهو أن هذه القصيدة استمرت تقريباً بدون علم الثقافة العربية نسبياً وتقريباً خارج حبكتها. لقد ازهرت بدون الالتفاف على الذات والعودة للأصل والفصل. واليوم بعد ان سارت طويلاً فإنها تترك لهذه الثقافة حبل اسئلة لم تبدأ بمعالجتها. مع ذلك فنحن لا نتواضع اذا قلنا انها انجزت وانجزت في غير الشروط التي يفترض انها لازمة وضرورية، انجزت بدون تعريف وبدون أصول وبلا اسم أو هوية، بل وبالحيرة والتنازع والتناقص في كل من هذه، ولنقل ان الانجاز في حمى التنازع والاشكال هو المثل الذي يقدمه شعراء النثر لمن لا يتعبون من السؤال من أين نبدأ. لنبدأ بالبسيط بل الأبسط، بالسؤال الذي بدأ نكاية وغدت العودة اليه نكوصاً الى طفولة النقاش. سؤال هل قصيدة النثر شعر وهل للنثر أن يكون شعراً. انه كما ترون سؤال لعوب وضرورة منطقية، لم يكن خطراً لأن واضعيه كانوا يفترضون انهم يعرفون ما هو الشعر وما هو النثر. وعليه فإن الشعر ليس نثراً والنثر ليس شعراً. لم يدر في بالهم أن يبدأوا بسؤال أول ما هو الشعر. لو بدأوا به لعلموا ان ليس في مقدور أحد أن يتأكد من أن قصيدة النثر شعر أو أن قصيدة الوزن شعر. مقاطع من كلمة الشاعر عباس بيضون