منذ أن تلخصت أطروحة سوزان بيرنار الشهيرة "قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا" المكتوبة عام 1959 والمنشورة عام 1968، تلخيصاً فجاً وتبشيرياً بواسطة جيل الرواد في قصيدة النثر، وفي مجلة "شعر" تحديداً، لم تصل إلينا كتابات مترجمة مكرّسة لهذا النوع الشعري المقلق والمثير للجدال، حتى في حاضنته الفرنسية، بدءاً من المصطلح حتى المزايا النوعية والخصائص النصية، فضلاً عن جذور قصيدة النثر، وصلاتها بالأنواع الأخرى، وتناصاتها الإجناسية، وما يثار حول إيقاعها المتصوَّر... ترجمت أطروحة بيرنار للمرة الأولى ترجمة د. زهير مغامس - بغداد - 1993 ط 1 والقاهرة 1996 ط 2 وكان لظهور الترجمة العربية أثر واضح سواء في الكتابة الشعرية ذاتها، أو في الخطاب النقدي حولها. وفيما كانت قصيدة النثر تشب عن طوق بداياتها، وتأخذ تدريجاً القبول والشرعية، وتنتشر كتابتها في شكل واسع، فإن التنظير لها ظل - عربياً - ينطلق من ردود الأفعال غالباً، ولا يتغذى بمبررات فنية أو جمالية، وخضع - أي الخطاب النظري في جانبه النقدي - لإكراهات كثيرة، شغلته عن الإيغال في وضع قواعد ونظم، أو التعرف على شعريات وكيفيات كتابة وتلقٍ ممكنة، فيما اقتصر الجانب التطبيقي على حدود النصوص كأفراد في ذلك النوع المقلق والمحير... والغريب. فغابت دراسات الايقاع المعمقة، ولم تفحص الأبنية النصية ومستوياتها الدلالية، والقرابة الممكنة بين قصيدة النثر والأنواع الإشراقية العربية في مجال النثر الفني الموروث، ولم تتعمق دراسة الجانب السردي الذي تأكد في قصيدة النثر، واحتل - أي السرد - موقع البؤرة النصية، أو المهيمنة سواء في فنيتها ككتابة، أو في جمالياتها، كتلق واستقبال... إذاً، لم تترجم بعد اطروحة بيرنار دراسات غربية مكرسة لهذا النوع، عدا بعض الفصول في كتب لجان كوهين ورومان جاكوبسون وريفاتير، حتى صدرت أخيراً ضمن اصدارات وزارة الثقافة في صنعاء ترجمة عربية لكتاب ميشيل ساندرا "قراءة في قصيدة النثر" لمترجم بيرنار نفسه الدكتور زهير مغامس الذي أشار في مقدمة مقتضبة الى أن الكتاب من منشورات دينو باريس عام 1995، وأن الطابع التطبيقي والتحليلي للكتاب كان أحد مبررات حماسته لترجمته. أما المؤلف فقد أشار في التمهيد إشارة ذات دلالة الى ان عمله لا يسعى الى وضع "قواعد لتمييز قصيدة النثر قد تؤول الى تصنيفات محكمة وعديمة الجدوى، بل يحاول الكشف عن بعض الخواص الشكلية والموضوعية لمجموعة من النصوص"... وهذا احتراز منهجي يضاف الى نقده لسوزان بيرنار التي انهمكت في البحث عن تاريخية مفترضة لهذا النوع الملتبس، ولم تدقق في شعرية قصيدة النثر. وذلك لا يعني أن المؤلف يتجاهل سيرورة قصيدة النثر، ولكن بما يترك ظلالاً على خصائصها وقوانينها، مشيراً في البدء الى ما سماه "أسئلتها المخيفة" وما تثيره من قلق وحرج لشعراء وقراء لم يروا فيها إلا "نجاحها في الاستعاضة عن غياب النظم والقافية بوسائل خاصة"، وعلى رغم أن بودلير أطلق عنوان "قصيدة نثر" على مجموعة قطع نثرية صدرت في الأول من تشرين الثاني نوفمبر عام 1861، فإن المؤلف يلاحظ ان المشتغلين في نظرية الأدب أهملوا قصيدة النثر سنوات طويلة كما فعلت ذلك الجامعات والمدارس وأحجمت عن نشرها الصحافة ودور النشر ولم تضمها المختارات الشعرية أو المقررات الدراسية... وهي شكوى يكررها كتّاب قصيدة النثر العرب ونقادها أيضاً... ولعل أبرز ما يشخصه المؤلف في صعوبات قراءتها وتقبلها ما سماه "قابليتها على الدوام لأن تغتني بأشكال أدبية أخرى"، وهو ما أوضحه في الفصل الأول المعنون "ما قصيدة النثر؟" حيث تحدث عن صلاتها بالنصوص المجاورة من أنواع أخرى كالشعر الحر والنثر الفني والحكايات الأخلاقية والآيات والنصوص البصرية والمذكرات والقصص القصيرة. ويناقش في هذا الفصل مزايا قصيدة النثر الثلاث: الإيجاز - الكثافة - المجانية، وهي التي رصدتها بيرنار وروّج لها أنسي الحاج في مقدمة "لن" وكتابات أخرى في مجلة "شعر" البيروتية... وإذا كان لايجاز والكثافة ميزتين مقبولتين على رغم افتقادهما الدقة، فإن المؤلف يعترض على المجانية التي تفترض خلو قصيدة النثر من الإحالات الى معان وعناصر ومرجعيات خارجية، ومما يقوي ذلك الزعم تشخيص المؤلف - كما فعلت بيرنار من قبل - وجود اتجاهين في كتابة قصيدة النثر: شكلي وإشراقي، بناء على - أو نتيجة - قيامها أساساً على اتحاد متناقضين هما: النثر والشعر. لكن المؤلف يستدرك ليدعونا الى الالتفات صوب الخصائص النصية عبر التطبيقات والشواهد، مؤكداً ضرورة تمييز النثر الشعري الذي يستخدم وسائل اللغة الايقاعية والموضوعات الغنائية، عن قصيدة النثر التي تتطلب "صوغاً مستقلاً خاصاً". ومن أجل ذلك يحلل قصيدة لبودلير "الكلب والقنينة" وقصيدة أخرى له "نصف كرة في شَعَر" التي كتبها مرتين: كقصيدة نظم ثم كقصيدة نثر، منوهاً بإيقاع القصيدة التعزيمي المتولد من موجات متعاقبة، مضيفاً العاميات والتكرار، وذلك التحليل النصي المتأني سيوصل المؤلف الى مقترح في ختام هذا الفصل الأول لتعريف قصيدة النثر، مؤكداً استقلاليتها النصية في القراءة وأبعادها التجريبية ليخلص الى القول على سبيل التعريف: إن قصيدة النثر "نص يتبنّى تبرير النثر ويبني كالقصيدة تماثلات على مستوى الجملة بإيجاز". وقد أعاد تمييزه بين النثر الشعري وقصيدة النثر الى الذاكرة، محاولات جبران في النثر الفني العربي حيث نجد الإيقاعية والغنائية معاً كما شخصهما المؤلف في النثر الشعري الفرنسي. في الفصل الثاني "تاريخ ونظريات" لا يكتفي المولف أيضاً بالتنظير، ويسرد عبر النصوص ملامح تاريخية ونظرية لقصيدة النثر، فهو يعيد المصطلح الى بوالو في القرن الثامن عشر، لكنه يشخص اضطرابه واطلاقه على روايات وقصص قصيرة... إلا أن نمو المؤثرات سيفرز مزايا خاصة بها، فكما هو الحال في الشعر العربي، فقد كان للترجمات أثرها في تهيئة القارئ لقبول أنواع شعرية خارج الأشكال الرسمية. ويعد من هذه الترجمات، نصوصاً دينية كالمزامير، ومطولات كالملاحم والأشعار الغنائية عن الألمانية والانكليزية... لكن النصوص ستظهر بين 1820 و1855، لا سيما "كاسبار الليل" لبيرتران بعنوانه الطويل وإحالته للفانتازيا، مما أهّله ليكون "مبتكر قصيدة النثر بلا منازع" وكذلك تأملات "ألفونس راب في "ألبوم المتشائم" ثم دوكيران صاحب "القنطور"، ولكنه سيقف من دون شك مطولاً عند صاحب "أزهار الشر" و"ضجر باريس"، أعني بودلير الذي يقول المؤلف ان المؤسسات الرسمية "الجامعة والصحافة" تجاهلته، ويذهب بنا المؤلف الى نصوص مؤسسة ورائدة لشعراء مثل مالارميه ورامبو - مع ملاحظة أن تأثير اشراقاته تأخر حتى القرن العشرين - هذا القرن الذي يخصص له المؤلف فصلاً خاصاً يبدأ بأشعار بيير ريفردي "قصائد نثر" وماكس جاكوب "قدح النرد" ويعرض طرفاً من نقاشات كثيرة حول قصيدة النثر أسهم فيها سورياليون مثل بريتون وإيلوار وديسنوس وكذلك آراء هنري ميشو وفرانسيس بونج، كما يحلل نصوصاً لسان جون بيرس ورينيه شار اللذين بواسطة أشعارهما الى جانب ميشو وبونج وشار تم الاعتراف بالنثر كصيغة ممكنة للقصيدة وشكل أكبر للتعبير الشعري، وربما كان لجهد هؤلاء وزملائهم فضل اعتراف دور النشر بأن ما يكتبونه هو شعر يستحق النشر من خلال كتبهم. في الفصل الأخير "شعرية قصيدة النثر" يبدأ الكاتب بالإشارة الى التساؤلات المحيرة التي تطرحها قصيدة النثر على القراء كما على النظرية الأدبية، ومن أهمها السؤال عما يتيح لنا أن نسمي قطعة نثر ما قصيدة؟ وقبل ذلك: ما القصيدة؟ هذا الفصل سيكون مهماً في دراسات الشعرية بخاصة، لأنه سيعرفنا بالوسائل التي تتبعها قصيدة النثر على مستوى الصوغ والنظم، أي التأليف النصي، ومن تلك الوسائل: التكرار الإيقاعي واللوازم والتقسيم المقطعي وتقنية البياض والاهتمام بالخواتم. ولاستكمال مبحث الشعرية يتفحص المؤلف دور القارئ أو مسؤوليته، كما يقول في تقرير شعرية النص. وما دامت قصيدة النثر تحاول التوفيق بين القصيدة والسرد، فإن المؤلف يفرد مبحثاً خاصاً لصلتها بالسرد ويتقصى التقنيات المشابهة فيها والمأخوذة من القصة، لا سيما الوصف، ومن دون شك فهو إذ يغفل هنا بعض أدوات السرد كالحوار والتسميات والاستهلال وغيرها، فإنه سيذكرها عند تحليل بعض النصوص في ملحق الكتاب... ولقصيدة النثر وشيجة بصرية بالرسم والتخطيطات واللوحات، سواء أكانت عبر احتواء الأعمال الفنية والتناص معها بالكتابة عن لوحات مشهورة، أو بالاقتراب من تقنيتها اللونية والخطية. ومن جهة الموضوعات والمضامين، تقوم شعرية قصيدة النثر على تقديم موضوعات صريحة أو مقنعة أو مضمنة إشارياً، وهي - كما يلاحظ الكاتب ويكرر - ضد الموضوعات الغنائية التي لا يوافق على تحديدها بالحب والزمن والموت وغيرها من الموضوعات والأغراض الكبرى التي نلاحظها في شعرنا العربي الكلاسيكي بخاصة، بل هي تتمدد لتشمل الطبيعة والتغني بعناصرها، وبمفردات علم البلاغة والمحسنات التي يعرضها ويشدد على وجود الغنائية في رسم مشهد مَدَني عبر المنظر أو المكان والشاعرية... لذا فقصائد النثر لا تخلو أحياناً من نبرة غنائية منظرية أو مشهدية، لكن فضيلتها الموضوعية تكمن في معالجتها للتناقض بين النثري والشعري باختيار موضوعات عادية. ومن جهة أخرى لا تترفع قصيدة النثر عن المغزى الساخر الذي يشوب أو يَسِم موقف شعرائها ورؤيتهم - كما هو الحال في قصيدة النثر العربية وتيار الماغوط بخاصة وتلامذته - ويضيف لها المؤلف ما يسميه "معاداة الآخر" والمعارضات والمحاكاة الساخرة والاقتباسات والتلميحات. نقدياً، لا نجد أنفسنا متفقين مع المؤلف حين يستبعد التحليل الشكلي من مقتربات فهم أو قراءة قصيدة النثر بدعوى أن التحليلات الشكلانية تُبعد المحاكاة عن الشعر وتمنح امتيازاً لسمات لغوية تحصر المعنى، وهذا ما يجعل قصيدة النثر - بعبارات المؤلف - "عصيّة على فهم موضوعي وشكلي". ولكن ذلك ينفي عن قصيدة النثر انتظامها الداخلي وراء فوضاها الظاهرية، بل هو ينسجم مع نفي المؤلف نفسه صفة المجانية عنها في مقدمة كتابه وفصله الأول. ويُبعد الكاتب تلك القراءات التي تجعل قصيدة النثر منافسة لقصيدة الشعر من جهة أو انها تجلب النثر الى القصيدة لتنافسه لا لكي تهدمه. ويختتم المؤلف بمختارات مطولة من النصوص منها: قصائد نثر لبيرتران يعقب عليها - أو يقدم لها - بإيجاز ولكن بذكاء ودقة ويعطي مفاتيح لقراءتها... ومن المختارات ثمة نصوص لبودلير وسان جون بيرس وراب ورامبو وكلوديل وماكس جاكوب وريفردي وميشو وبونج وجاك دريدا وسواهم مع نصوص نقدية قصيرة كمقاطع من رسائل لبودلير وكتابات لجاكوب وبيرس وأراغون وغيرهم. وحسناً فعل المترجم - د. زهير مغامس - حين ترجم ملحقات وضعها مؤلف الكتاب للتعريف الموجز بأعلام قصيدة النثر وأبرز نصوصهم اللافتة، اضافة الى مكتبة موجزة لهاوي قصيدة النثر وكذلك مراجع الدراسة التي لا تصف الكتب والدوريات فحسب، بل تعلق عليها وتعطي آراء موجزة بها. وأحسب أن قراءة ميشيل ساندرا - وهو أستاذ أدب في جامعة باريس - تقدم دعماً نقدياً لقراءة قصيدة النثر عربياً عبر المزاوجة بين فحص شعرية القصيدة وصلاتها النصية بالأنواع الأخرى. * ميشيل ساندرا: "قراءة في قصيدة النثر"، ترجمة: زهير مجيد مغامس، وزارة الثقافة، صنعاء 2004 .