سواء بدأنا من السور الجديد الذي تبنيه الولاياتالمتحدة على حدودها مع المكسيك زائد عسكرة تلك الحدود، أو من الأعتراض الغربي على تأميم صناعة البترول في بوليفيا، أو من سقوط قانون عقد الوظيفة الأولى في فرنسا، أو من اجتماع العلاقات العامة للرأسمالية الدولية في شرم الشيخ تحت لافتة منتدى دافوس الأقتصادي... فالمسألة فيها أزمة. انها أزمة حقيقية متصاعدة تواجهها الرأسمالية المتوحشة باتساع العالم. وهي أزمة تراوغ وتناور ضد أي محاولة شاملة لتشريح أسبابها أو استقراء نتائجها. لم تبدأ القصة بكتاب"نهاية التاريخ"الذي أصدره المفكر اليميني الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما. كتاب يمارس تهنئة الذات بعد سقوط النظم الشيوعية الحاكمة في أوروبا الشرقية وتفكك الأتحاد السوفياتي ذاته الى شظايا، مبشراً بالانتصار النهائي الحاسم للرأسمالية والليبرالية. الأزمة لم تبدأ من هناك لأنها في الواقع كانت موجودة منذ بدأ المشروع الرأسمالي ذاته. بدأ متوحشاً وعاصفاً كالمعتاد لأنه كان أيضاً انتصاراً على ما سبقه. لكن الرأسمالية المتوحشة سرعان ما أصبحت خطراً يهدد مجتمعاتها. وسواء عدنا الى قصص تشارلز ديكنز التي توضح درامياً كيف جرى سحق جيلين من عمال بريطانيا لتحقق الرأسمالية المتوحشة المزيد من الأرباح، أو عدنا الى سنوات الكساد العظيم في الولاياتالمتحدة في ثلاثينات القرن الماضي، فإن الدرس تكرر في كل مرة. درس الحاجة الى لجم هذا التوحش الرأسمالي، وإلزامه بقواعد محددة سلفاً ومسؤوليات اجتماعية مقررة مقدماً. وحين أصدر الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت سلسلة تشريعاته تحت عنوان"الصفقة الجديدة"فإنه لم يكن معادياً للرأسمالية. كان هو نفسه رأسمالياً يحاول انقاذ الرأسمالية من جشع الرأسماليين، مفوضاً بأصوات ملايين الأميركيين الذين انتخبوه رئيساً لهم. في ما بعد الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة أصبح النموذج الرأسمالي مقيداً أيضاً بالمنافسة في المسرح الدولي مع النموذج النقيض الذي يمثله الأتحاد السوفياتي وتوابعه في أوروبا الشرقية، زائد الصين في آسيا. وبينما فرضت الولاياتالمتحدة نموذجها السياسي على أوروبا الغربية إلا أنها فعلت غير ذلك بالنسبة الى نموذجها الرأسمالي. ففي رؤية مستقبلية تحسب للمخطط الأميركي وقتها أدركت السياسة الأميركية أنه لا أمل في نجاحها اذا فرضت على أوروبا الغربية نموذجها الرأسمالي في مواجهة النموذج السوفياتي الواصل حتى أسوار برلين ولديه دعاة محليون بقوة الأحزاب الشيوعية في فرنسا وايطاليا مثلاً. وهكذا لم يكن نهوض أوروبا الغربية من خراب الحرب العالمية الثانية ممكناً الا بدور قوي للدولة في الأقتصاد. تحالف وصل الى درجة عمليات التأميم التي باشرتها حكومة حزب العمال في بريطانيا عقب الحرب تحت ضغط الناخبين... والى درجة العمل الاقتصادي المباشر وتحالف البنوك مع الصناعة كما جرى في ألمانياوفرنسا وايطاليا. وفي كل الحالات فإن العقود الثلاثة التالية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت من ناحية هي فترة النهوض واعادة البناء الاقتصادي، وهي من ناحية أخرى فترة القيود الصارمة على خروج رأس المال المحلي بما جعل كل دولة تمنع تداول عملتها الوطنية في الخارج طوال تلك الفترة، وبمباركة من صندوق النقد الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة. في المسرح الآسيوي، وبالذات بعد قيام الصين الشيوعية في 1949 وهزيمة أميركا في فيتنام في 1975، جرى أيضاً تقديم نموذج رأسمالي مختلف تماماً عن النموذج الأميركي. لقد تم التركيز على حفنة من الدول الصغيرة قليلة السكان سميت في ما بعد: النمور الآسيوية لكي تقدم نموذجاً عملياً لرأسمالية منضبطة تلتزم بتنمية اقتصادية حقيقية تحت اشراف الدولة، وقيود صارمة على الأستيراد من الخارج، وبالطبع قيود كاملة على العملة الوطنية ومنع صارم لخروج رأس المال المحلي. والذي ساعد في ذلك أيضا هو نجاح هذا النموذج في اليابان، التي كنا نشتري منتجاتها خارج اليابان بأرخص منها في اليابان ذاتها. وفي نفس الوقت أصبح النموذج الرأسمالي في اليابان نموذجا في تحمل المسؤولية الأجتماعية الى درجة غير مسبوقة، حيث الشركة اليابانية لا توفر للعامل الياباني الوظيفة فقط وانما ترعاه وأسرته من المهد الى اللحد. وكما في كرة القدم فإن الجمهور يستمتع أكثر كلما تقارب الفريقان في القوة والطموح للفوز. هذا بحد ذاته يدفع كل فريق الى الأستعداد مبكراً ودخول الملعب بأكبر قدر من اللياقة والألتزام بقواعد نظيفة والأستفادة من أخطاء الفريق المنافس سعياً الى تحقيق الأهداف في المرمى مبكراً. في حالتنا هذه هناك هدف أساسي ويعلو على أي هدف آخر. الهدف هو التنمية الأقتصادية التي تجعل الحياة أفضل اليوم عن الأمس، وتؤسس لغد أفضل من اليوم. والعقود الذهبية للتنمية الأقتصادية 1945/1975 لم تكن كذلك في أوروبا الغربية فقط وانما في أميركا ذاتها وأيضا في الأتحاد السوفياتي وتالياً في الدول النامية التي كسبت استقلالها وطمحت الى تعويض تخلفها المتراكم لمئتي سنة على الأقل عن العالم المعاصر. حدث هذا رغم أن التنمية الأقتصادية في الدول النامية تحديدا بدأت من نقطة أكثر انخفاضاً وبأعباء أكثر ارتفاعاً. في الهند مثلا كانت أنديرا غاندي خلال ولايتها كرئيسة للوزراء تكرر لزائريها الغربيين: أنتم بدأتم عصر الصناعة برأسمالية متوحشة لا نستطيعها الآن في بلادنا. بدأتم بسحق حقوق العمال وبتشغيلهم ساعات مطلقة وبأجور متدنية وبلا رعاية صحية أو تأمينات اجتماعية مثلاً. في بلدنا لا بد أن يلتزم المشروع الجديد بكل ذلك ضمن أعبائه، فيوفر لعماله أيضا المسكن والمواصلات والتعليم والتدريب والرعاية الصحية والاجتماعية، وأحياناً يساهم حتى في تكاليف الزواج والرحلات والترفيه... الخ. الشيء نفسه بالنسبة الى مصر مثلاً. كانت البدايات محدودة ومتفرقة تحت ضغط توقف الأستيراد خلال الحرب العالمية الثانية. لكن حتى سنة 1956 مثلا لم يكن لدى القطاع الخاص المصري ما يستثمره في الصناعة سوى مليوني جنيه سنوياً نحو ستة ملايين دولار بأسعار وقتها. ومع البرنامج الأول لتصنيع مصر بأموال عامة وتعبئة للمدخرات المحلية - تتابعت الصناعات العملاقة في كل اتجاه، من الغزل والنسيج الى الحديد والصلب الى الأسمدة الى الألومنيوم والسلع الهندسية والتصنيع الزراعي... الخ. وفي كل صناعة جديدة كان من بين أعبائها المحسوبة مسبقاً اقامة شبكة من المدارس ومراكز التدريب والمستشفيات المحلية والطرق المرصوفة ومحطات الكهرباء والمزارع والنوادي الأجتماعية و... و... الهدف المتكرر في كل مرة أن تكون الصناعة الجديدة مركز اشعاع لنقل المجتمع المحلي الى القرن العشرين فوق اضافته الى الأقتصاد الوطني وتسديده للضرائب التي تزيد من قدرة الحكومة على التوسع في الخدمات بما كفل مثلاً، وللمرة الاولى، مجانية التعليم من الأبتدائي حتى الجامعة. وبعكس حالات أخرى في العالم الثالث فإن الدافع الأساسي لقيام القطاع العام في مصر لم يكن ايديولوجياً. الدافع هو: حكم الضرورة. العمالة يتم اختيارها وتدريبها باعتبارات اقتصادية، والمدير المسؤول لم يكن مطلوباً منه في أي حالة أن يفهم في الأشتراكية مثلاً. المطلوب منه فقط هو أن يفهم في الصناعة التي سيصبح مديراً لها. واذا لم يحقق النتائج المقررة انتاجاً وأرباحاً وتوسعاًً، يتم استبداله فوراً بمن هو أكفأ منه. ويكفي أن أتذكر هنا أن نشوء القطاع العام الاقتصادي في مصر اقترن في نفس اللحظة بإقامة معهد قومي للإدارة العليا لأعطاء دورات لكبار المديرين في ادارة الأعمال، لا تختلف بالمرة عن مثيلتها في أي دولة رأسمالية. من هنا نجح القطاع العام في مصر. وحتى سنة 1974 كانت كل ديون مصر الخارجية بليوني دولار، رغم أن الأقتصاد المصري تحمل بالكامل أعباء ثلاث حروب خلال ست سنوات هي حرب 1967 الخاسرة وحرب الأستنزاف التي أعادت بناء الجيش المصري بالكامل زائد حائط الصواريخ الشهير... ثم حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 من بليوني دولار ديوناً خارجية على مصر في 1974 الى 29 بليون دولار الآن في 2006 تطول القصة والأسباب. تختلف أيضاً وجهات النظر. لكن ما لا خلاف عليه هو قيام مراكز اشعاع صناعي واقتصادي في أرض الواقع. مراكز بحجم صناعة السماد في أسوان وطلخا، أو الألومنيوم في نجع حمادي، أو الحديد والصلب في حلوان، أو الأدوية في الجيزة، الغزل والنسيج في المحلة الكبرى وكفر الدوار. الصناعات الشامخة تحولت بفعل فاعل خلال سنوات قليلة الى صناعات شائخة. المصانع الناجحة الرابحة تحولت بقدرة قادر الى مصانع خربة ومدينة. العمال الفخورون بمصانعهم تحولوا الى شهود على الأنهيار بالخطوة السريعة. العمال هم العمال. وبالتعبير الشعبي الشائع فإن العامل لا يمكن أن يخون الآلة التي يعمل عليها لأنها مصدر رزقه. لكن من الذي يخون هنا؟ يخون العمال وآلاتهم معاً؟ في مدينة كفر الدوار مثلاً توجد قلعة لصناعة الغزل والنسيج بها 18 ألف عامل يلخصون جماعياً ما جرى، ويلخصهم جميعا عامل مصري أصله من مدينة قنا في صعيد مصر وعمره 56 سنة ويعمل منذ أربعين سنة في تلك القلعة للمنسوجات بمدينة كفر الدوار ضمن 18 ألف عامل آخر تحولوا جميعاً الى غاضبين مؤخراً من المصير الذي يهدد بخصخصة مصانعهم بعد سنوات من الموت الاقتصادي البطيء المفروض عليهم. أوفدت الحكومة اليهم ثلاثة وزراء امتصاصاً للغضب. تلك كانت أول مرة يجيء اليهم وزير، فما بالنا بثلاثة. الثلاثة هم: وزيرة للقوى العاملة تتوسم الحكومة فيها قدراً من الشعبية بين العمال، لكن ما باليد حيلة. ووزير للصناعة جرى مسبقاً سحب كل الصناعات القائمة من اختصاصه فأصبح زائراً لا يملك أكثر من النيات الطيبة. ثم وزير للاستثمار لم يفتح الله عليه بأي استثمار فأصبح وزيراً للبيع، وبتلك الصفة أوكلت اليه كل شركات القطاع العام تحت عنوان"ادارة الأصول المملوكة للدولة" وهو العنوان اللطيف البديل عن: البيع والبيع والبيع... في أسرع وقت وبأرخص سعر. في مواجهة الحدث الجلل زيارة الوزراء الثلاثة وقف العامل المذكور يقول لهم باللهجة السائدة:"هذه الشركة كانت مربيانا ومعلمانا ومجوزانا ومحججانا"الترجمة: هذه الشركة، فوق كونها مصدر رزقنا، كانت تتكفل أيضاً بتكاليف تربيتنا وتعليمنا وزواجنا وسفرنا الى الحج". كان هذا في ما مضى. الآن يقول العامل الحزين الغاضب الذي رأى تلك الشركة سابقاً - وهي قطاع عام - منتجة ورابحة ومصدرة الى الخارج أصبحت منهارة الى درجة أنه حينما يدخل الى المصنع في الثامنة ليلاً أصبح يحتاج الى سلاح معه، أو بالقليل عصا ضخمة، دفاعاً عن نفسه ضد الذئاب والثعابين. الآن أصبحنا أمام حقيقتين. حقيقة أولى لا يستوعبها العامل المعني هي أن الشركة الناجحة المنتجة المتوسعة تحولت بفعل فاعل الى شركة مدينة وخاسرة ومنكمشة ومعروضة للبيع بسعر التراب، لأن هذا هو ما أراده صندوق النقد الدولي من البداية. الحقيقة الثانية هي أنه منذ مسايرة مصر لطلبات الصندوق جرى الزام شركات القطاع العام - وكفر الدوار من بين قلاعه - بتوريد أرباحها كاملة الى وزارة المالية لأنه أصبح ممنوعاً عليها اضافة أية استثمارات جديدة. فإذا كان لا بد من الأستثمار، وفي أضيق الحدود، فليكن ذلك بالاقتراض من البنوك وبفوائد متراكمة. النتيجة المؤكدة هنا لا تحتاج الى قراءة للطالع. تحتاج فقط الى رؤية الواقع الفعلي. والواقع كما كشف عنه عمال شركة عريقة في كفر الدوار للوزراء الزائرين هي: هذه الماكينات التي تم شراؤها من الخارج في سنة 1980 باعتبارها الأحدث عالمياً وقتها ظلت راقدة في صناديقها من وقتها حتى الآن... ربما لكي يقوم بتركيبها وتشغيلها المشتري الجديد المحظوظ الذي سيتاح له وضع اليد على الشركة ومصانعها وآلاتها وأراضيها... بسعر التراب. مشهد جعل أحد الوزراء الثلاثة، وهو نفسه رجل أعمال بارز من القطاع الخاص، يكتم غيظه وحزنه مكتفياً باستخدام كاميرته الخاصة لتصوير بعض ما شاهده، لأنه تحديداً زار تلك المصانع وهو طالب في كلية الهندسة، وكانت وقتها مصدراً لفخره كباقي المصريين. لا يتعلق السؤال هنا بقطاع عام أو خاص. السؤال هو: كيف يجب على الدولة النامية محدودة الموارد كثيفة السكان أن تفكر وتعمل وتخطط؟ كيف تحقق التنمية الأقتصادية الجادة لتعوض تخلفين: تخلف عن دول غنية في الشمال سبقتها الى الصناعة بمئتي سنة؟ وتخلف عن ما كانت عليه صناعة هذه الدولة نفسها قبل ثلاثين وأربعين سنة؟ في بلادنا - مصر مثلاً - شقي جيلان من المصريين على الأقل لبناء قاعدة صناعية متسعة استفاد منها الجميع بمن فيهم القطاع الخاص. الآن مطلوب شطب هذا كله وبيعه الى الأجانب برخص التراب بحجة أن رأس المال الدولي سيجيء بعدها للاستثمار عندنا. المشكلة هنا يلخصها سؤالان، أولاً: لماذا طوال 32 سنة من هذا التضليل لم يجيء الى مصر أي استثمار أجنبي ليضيف الى مصر صناعة جديدة... واحدة؟ ثانياً: لماذا التركيز كله من هذا الاستثمار الأجنبي هو على وضع اليد على ما أقامه المصريون ويمتلكونه فعلاً؟ الأجابة تطول... لكن عنوانها الموقت هو: الوجه الجديد للاحتلال. احتلال مدفوع الأجر... ومضمون الربح أيضاً. * كاتب مصري.