نتحدث غالبا عن الديموقراطية كمثال سياسي مشتهى بعيد المنال يحصل أو يمنح دفعة واحدة، على الأرجح بقرارات فوقية انقلابية! لا نكف عن التنظير له، ونربأ، خوفاً من اتهام خطابنا المجرد التنظيري بالابتذال، اللهم إذا كنا نخاف من تسمية الأشياء بأسمائها الفعلية، من الاستشهاد بوقائع من حياتنا اليومية، وكأن الديموقراطية ليست سعي كل لحظة بالوسائل المتاحة لكل فرد من أجل دفع آثار التعسف والاستبداد عنه وعن غيره. أمامنا واقعة لبنانية نموذجية، إذ تداولت الحكومة اللبنانية في الفترة الأخيرة مجموعة من الاقتراحات - القرارات الكبرى تنال مصير مئات الألوف من الموظفين الحاليين والمستقبليين في القطاع العام، كما معيشة كل اللبنانيين إضافة الى مصير مؤسسات عامة، من دون استشارة المواطنين وكأنهم غير موجودين، بعد أن حصلت هذه الحكومة على تفويض، بفضل مجلس نيابي انتخب في حماسة وتجييش عجيبين. فللحصول على قروض ومنح مالية دولية، خلال مؤتمر يعقد قريباً في بيروت، أعدت الحكومة اللبنانية ورقة"إصلاحية"غايتها القصوى زيادة الإيرادات، لتخفيف عجز الخزينة وتقليص المديونية وترشيد الإدارة، مع بعض الأهداف الوسيطة كمحاربة الفساد الإداري. تتضمن هذه الورقة التي سميت"ورقة بيروت - 1"تجميد معاشات القطاع العام المجمدة منذ عام 1996، وخفض المعاش التقاعدي، وزيادة ساعات العمل، و"التخلص"، انتبهوا التخلص! من 8 آلاف موظف فائضين، وفوق ذلك فرض سلسلة من الضرائب على سلع حياتية منها المحروقات، ورفع قيمة ضريبة القيمة المضافة وزيادة الضرائب على الودائع المصرفية كبرت أم صغرت، إضافة الى اقتراح بخصخصة قطاعات عامة مربحة كالاتصالات والكازينو وحصة الدولة من شركة الطيران الوطنية طيران الشرق الاوسط. لا تملوا! هذه التفاصيل تصنع حياة الناس التي لا بد من أن تشكل الهدف الرئيس لكل مشروع وخطاب سياسي هادف وواقعي. جلّ غاية هذه التدابير هو خفض النفقات وزيادة الإيرادات لخفض المديونية وكلفتها الهائلة، تلك المديونية التي نجمت عن سوء إدارة عملية الإعمار، كما أقرت الحكومة، وللمرة الأولى، في ورقتها العتيدة، والتي نجمت أيضاً، وهذا ما لم تقره الحكومة ولكن يتفق عليه الاقتصاديون، عن سوء إدارة الدين، فقطاع المصارف وهو المؤسسات الدائنة هو الأكثر انتعاشاً، وأحد الاقتصاديين يصر على أن المصارف هي التي تحكم لبنان. وللعلم لا يُعاد النظر بنسبة الفوائد العالية التي تدفعها السلطة للمصارف، ولا يُسمع عن إجراءات سريعة لوقف الهدر. كان لا بد من ذكر هذه التفاصيل كمؤشر موضوعي ملموس على الكوارث التي تسببها فوضى إدارة الأوطان، والتي يُفرض أمر تصحيحها وحصد نتائجها على المواطن، الأعزل سياسياً، وتحميله الذنب، وكأنه المسؤول عن الفوضى والهدر والفساد وأنانيات قادة البلاد، الذين تتضخم ثرواتهم ولا أحد يسألهم أو يحاسبهم. الحاكمون يخطئون والمحكومون يدفعون الثمن، يستخدمون كمواد لإطفاء حرائق الحاكمين، وهؤلاء الذين ورطوا البلاد في المديونية والهدر، لم يغيبوا عن السلطة منذ 15 عاماً، وعادوا إليها ممتطين الانتخابات النيابية، في هرج ومرج. ولم ينبسوا ببنت شفة حول مشاريعهم واكتفوا ببعض الشعارات السياسية لأنها الأكثر إثارة والأكثر قدرة على التعبئة والتجييش، وبعد حين أطلوا بورقة إصلاحية اتخذوا فيها قرارات كبرى لا تجرؤ حكومة في الغرب على أخذها دفعة واحدة، بالجملة: تعديل واحد في قانون العمل في فرنسا هزّ البلاد وأجبر الحكومة على التراجع. لا تجرؤ حكومة في العالم تنظر الى مواطنيها كبشر ذوي حقوق وحاجات وعقول ومشاعر على أخذ قرارات بهذه الفداحة لولا انها تراهن على غياب المقاومات والأصوات المعارضة. إلا ان مقاومة هذه التدابير جاءت يوم 10 أيار مايو مفاجئة، فخلسة عن جدالات طاولة الحوار الوطني التي تكاد تراوح مكانها لاختلاف عميق في الخيارات السياسية الخارجية وفي الاستراتيجيات الدفاعية المنبثقة عنها، فتحركت النقابات وفي طليعتها روابط الأساتذة والمعلمين والموظفين والمتقاعدين التي كانت السباقة في الاحتجاج، على ورقة الإصلاحات المزعومة، وبعد فشل المفاوضات مع السلطة اتخذت قرار التظاهر فانضمت اليها في ما بعد أحزاب معارضة للسلطة، سلطة 14 آذار، لم ينزل بعضها ولا مرة الى الشارع طوال الخمس عشرة سنة الماضية للدفاع عن قضايا الناس الاجتماعية على رغم أن حكومات تلك المرحلة، حكومات الرئيس الراحل رفيق الحريري وحلفائه كانت اتخذت قرارات كثيرة غير شعبية وقاسية، ولكن أحداً لم يكن يحرك ساكناً إلا في اللحظات النادرة التي كانت سلطة الوصاية تريد فيها ابتزاز السلطة اللبنانية، حينها كانت توعز الى نقابات وأحزاب موالية لها بالنزول الى الشارع 27 أيار 2004 مثلاً، وكان التحرك آنذاك مبرراً ومقنعاً: ارتفاع جنوني في سعر المحروقات. أعطت مشاركة أحزاب المعارضة الكثيفة في التظاهرة فرصة لأهل الحكم الحاليين لتفريغ التحرك من مضمونه ومغزاه وحقيقته واعتباره خطة تآمرية تمت بإيعاز سوري، مستبعدين بالمطلق أن تكون للنقابيين وللمتظاهرين أي نية مطلبية وأي قناعة حقوقية وكأن هذه الأخيرة مستحيلة، مستصغرين في الآن نفسه حاجات الناس المعيشية ومشكلات الحياة اليومية وكأن هذه الأخيرة ليست كافية بأي حال لحث الناس على التظاهر، علماً أن هذه الفئة الممتعضة من التظاهر مستعدة لاستدعاء الشارع كلما أرادت تبليغ رسائل تخصها لا توازي بشيء فداحة الاختلالات الاجتماعية والقهر المعيشي. ولنسلّم أن قيادات الأحزاب التي انضمت الى التظاهرة تريد إحراج السلطة الحالية وهذا غير مستبعد، طالما لم تولِ هذه الأحزاب، ما عدا الحزب الشيوعي اللبناني، على المستوى الوطني العام، القضايا الاجتماعية أهمية، لا في ايديولوجيتها، ولا في استراتيجياتها، ولا في خطابها المسموع ولا في سلوكياتها، ولكنها وجدت في موضوع التظاهرة مادة صالحة للاستثمار، أكثر ربما من أي موضوع آخر، فهو غير مستهلك، بحد ذاته، كما كان يحصل بالنسبة الى المسائل الباقية، السيادية والأمنية، وهذا ما يزيد إحراج أهل الحكم الحالي الذين أرادوا تصويب طاقات الناس العقلية والوجدانية نحو الأمن، والذين بدوا بعد التحرك الأخير غير معنيين تماماً بمصائر الناس المعيشية والاجتماعية، مما زاد في إحراجهم أمام خصومهم كما أمام جماهيرهم فلم يجدوا أمامهم سوى نظرية المؤامرة يستثمرون فيها حتى إشعار آخر. بأي حال لن يسهل عليهم إرسال عينات الى المختبر للتفريق بين مشاعر الاحتجاج الخالصة على أهل الحكم، وبين مشاعر القلق على البقاء والمصير المعيشي. يوم 10 أيار كان تمريناً جماهيرياً مطلبياً خاصاً جديداً وإن كانت بعض شعاراته ورهاناته خارجة عن الموضوع الأصيل. فهذا التمرين لم يكن ممكناً، على رغم شوائبه، أيام الوصاية السورية، بسبب الخوف من اتساع رقعة أهدافه لتشمل سلطة الوصاية نفسها، ولم تكن تسمح به بأي حال خريطة توزيع الأدوار المعتمدة آنذاك ولا التناغم بين أهل الحكم وأهل الوصاية، كما يشكل فرصة للنقابات لإعادة هيكلة ذاتها وتقديم مصالحها الاجتماعية والمهنية على مصالح أحزابها. على الأقل أضيف عنصر جديد على الخطاب السياسي اللبناني، كان حتى الآن طي الكتمان والتستر والمساومة، ومعه احد مكونات الديموقراطية الأساسية وهو الديموقراطية الاجتماعية. * كاتبة لبنانية