لخص بيان قصير أصدرته وزارة الداخلية المصرية طبيعة أزمة القضاة من وجهة النظر الرسمية، فالأمر بالنسبة الى لحكومة مجرد مشكلة بين القضاة أنفسهم لا دخل لأي جهة رسمية فيها. ونبه البيان إلى أن التظاهرات في الشوارع"تعوّق حركة المرور"، وأن التجمع في الطريق العام من دون تصريح مسبق"مخالف للقانون"، وأن التغطية الإعلامية لوقائع جلسة"مجلس التأديب"الذي يحاكم القاضيين هشام البسطويسي ومحمود مكي التي ستُعقد اليوم"أمر يتعلق بالمجلس نفسه"، وبالتالي فإن الحصول على ترخيص مسبق قبل قيام أي وسيلة إعلامية بإرسال مندوبيها أو مصوريها أمر ضروري، وعلى ذلك فإن مشهد الخميس الماضي يتوقع أن يتكرر اليوم:"حشود أمنية كثيفة تغلق شوارع وسط العاصمة واحتجاجات من القضاة على حصار ناديهم ومحاولات لقوى سياسية عدة التعبير عن نصرة القضاة وتأييدهم في مطالبهم وكر وفر وصدامات بين الشرطة وكل المحتجين". مجلس الصلاحية يترأسه رئيس محكمة النقض المستشار فتحي خليفة، وسينظر في مدى صلاحية المستشارين البسطويسي ومكي في ممارسة عملهما كقاضيين بعد التصريحات التي أدليا بها الى وسائل إعلام أثناء الانتخابات البرلمانية الأخيرة أو بعدها، وتحدثا فيها عن تجاوزات ارتكبت وتزوير أجري لمصلحة مرشحي الحزب الوطني الحاكم وهو أمر اعتبر"ممارسة لعمل سياسي"، ما يعني أن احتمال إبعاد القاضيين وفصلهما يظل قائماً ما يؤجج الأزمة ويزيدها استفحالاً. من هنا تشدد الدولة على أن الأزمة تتعلق بالقضاة، ولا دخل لأي جهة رسمية فيها، وهو المعنى نفسه الذي أكده الرئيس حسني مبارك أكثر من مرة حينما سُئل عن أسباب عدم تدخله شخصياً لمعالجة الأمر، وفي السياق تركز وسائل الإعلام القريبة من الحكومة من أن"نادي القضاة"الذي يساند البسطويسي ومكي لا يمثل كل القضاة، وإنما مجموعة منهم وأن المعبر الحقيقي عن القضاة هو"المجلس الأعلى للقضاء"، وأن جماعة"الإخوان المسلمين"اخترقت نادي القضاة وتسعى إلى افتعال أزمات واستغلالها ضد نظام الحكم وأن بقية القوى السياسية الأخرى مثل"الحركة المصرية من أجل التغيير"المعروفة باسم"كفاية"لا علاقة لها بالأزمة وتحاول ركوب الموجة. في المقابل فإن"نادي القضاة"الذي عقد أكثر من جمعية عامة يصر على أن الأزمة لا تتوقف عند محاكمة القاضيين وإنما تمتد لتشمل مطالب للقضاة بإعداد قانون جديد للسلطة القضائية يضمن فصلها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأهم بنود المشروع الذي يرغب القضاة في إقراره يتعلق بتحقيق الرقابة على أي انتخابات تجرى في البلاد وليس فقط ندبهم للإشراف على عملية الاقتراع داخل اللجان. وكان بعض القضاة تحدثوا عن تزوير في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وتدخلات أُجريت لمصلحة مرشحي الحزب الوطني الحاكم وإغلاق للجان ترشح فيها رموز من المعارضة. وسد الطرق وإغلاقها في وجه الناخبين في المناطق التي يتمتع فيها المرشحون المنافسون لمرشحي"الوطني"بثقل جماهيري لمنع الناخبين من الوصول إلى لجان الاقتراع. ويطالب القضاة أيضاً بأن يتولوا مراجعة لوائح الناخبين وهي عملية تقوم بها وزارة الداخلية، وترى قوى المعارضة أنها تستغل للتلاعب في تلك اللوائح والاقتراع بأسماء الموتى أو الغائبين. وحظيت مطالب القضاة بترحيب من جانب قوى المعارضة: الأحزاب وپ"الإخوان"والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والحركات السياسية الأخرى، ووجدت الحكومة نفسها تواجه كل هؤلاء دفعة واحدة فبدا الأمر وكأنه مواجهة صريحة بين الحكم من جهة وقوى المعارضة، ومعها القضاة من جهة أخرى. يبدو كل طرف مصر على المضي في الطريق الذي اختاره حتى النهاية: الدولة تتحدث عن هيبتها تارة، وعن أن الأزمة داخلية بين القضاة تارة أخرى، والقضاة يرون أن سلوك الحكومة معهم يعكس إصراراً على المضي في التدخل في الانتخابات وضمان السيطرة على الحياة السياسية، واستغلال القضاة في الانتخابات للإيحاء بأنها تجرى في حرية على رغم القيود التي تحول دون تمكنهم من إشراف حقيقي على الانتخابات. ووجدت قوى المعارضة الأزمة مناسبة كي تصعد مرة أخرى إلى واجهة الأحداث بعدما تراجعت بشدة بفعل نتائج الانتخابات البرلمانية التي عكست هزيمة ساحقة لقوى المعارضة باستثناء جماعة"الإخوان المسلمين"التي حصل نوابها على 88 مقعداً. هناك طرفان في هذه الأزمة: الأول منتخب من جموع القضاة لا علاقة له بأي حزب سياسي ويمثله مجلس إدارة نادي القضاة، والثاني تمثله مجموعة من الأعضاء وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى جميعهم معينون في مناصبهم بقرار حكومي، والمعركة دائرة من وجهة نظر الطرف الأول من أجل تحرير القضاء من سيطرة السلطة التنفيذية عليه، وهنا تكمن أسباب تهمة تسييس القضاء التي يسعى الطرف المعين الملتحم بالحزب الحاكم إلى لصقها بالطرف المنتخب الملتحم بقوى المعارضة. الاتهام الآخر الموجه إلى أعضاء نادي القضاة هو النيل من هيبة القضاء، وهي تهمة يوجهها المعينون الذين يرى الطرف الآخر أنه لم يصدر عنهم ما يدل على الحرص على هيبة القضاء، خصوصاً عندما تعرض عدد من القضاة للضرب أثناء الانتخابات الأخيرة أو أمام نادي القضاة قبل أيام، ورصد نادي القضاة تصريحات للطرف الآخر اعتبرها تحريضية على مجلس إدارة النادي من خلال أوصاف من نوع"قلة مارقة"أو"ذوو قلوب مريضة". ويصر مجلس إدارة النادي على أن يُقر مشروع قانون السلطة القضائية الذي عمل النادي على إعداده منذ عام 1992، والذي حاز ثقة غالبية من القضاة في جمعيتهم العامة، ويكفل المشروع وفقاً للنادي استقلال السلطة القضائية كما ينص الدستور. وأهم أوجه الخلاف بين مشروع قانون السلطة القضائية الذي أعده النادي وذلك الذي اعدته الحكومة، هي: أن يتبع التفتيش القضائي للمجلس الأعلى للقضاء بحسب مشروع النادي أو يتبع وزارة العدل بحسب مشروع الحكومة. أن يكون مجلس القضاء الأعلى هو المتصرف في موازنة القضاء بحسب مشروع النادي أو أن يتصرف بها بإشراف وزارة العدل بحسب مشروع الحكومة. أن يستمر سن الإحالة على التقاعد كما هو حالياً 68 عاماً لإتاحة الفرصة أمام القضاة متوسطي العمر لرئاسة الدوائر بحسب مشروع نادي القضاة، أو تتم زيادته إلى 72 عاماً بحسب مشروع الحكومة. هذا ويطالب النادي بإعادة تشكيل المجلس الأعلى للقضاة بطريقة أكثر ديموقراطية. ما يفاقم مشكلة الحكومة مع نادي القضاة هو أن مطالبه تتعدى قانون استقلال القضاء إلى المطالبة بتحقيق الإشراف الكلي على العملية الانتخابية من دون أي تدخل من وزارة الداخلية، بالإضافة إلى الإصرار على إجراء تحقيقات في ما جرى من مخالفات جسيمة وعمليات تزوير في الانتخابات التشريعية الأخيرة، ومعاقبة كل من يثبت قيامه بتزوير النتائج في عدد من الدوائر وذلك حتى لا يصبح القضاة أداة للتستر على عمليات تزوير إرادة الناخبين. وشكل نادي القضاة لجنة أعدت تقريراً عن استفتاء لتعديل الدستور في أيار مايو 2005، وخلصت تلك اللجنة إلى أن النتيجة المعلنة للاستفتاء لا تتفق مع الشواهد التي تجمعت لديها، أيضاً شكل النادي لجنة لمتابعة الانتخابات البرلمانية كشفت عن العديد من التجاوزات التي نسبت الى بعض القضاة، والتي يرى النادي أنها كانت نتيجة للإشراف المنقوص للقضاة على الانتخابات. كان رد فعل الحكومة على هذين التقريرين عنيفاً وقامت بإجراءات الغرض منها ترهيب القضاة كان آخرها إحالة القاضيين مكي والبسطويسي على"لجنة تأديب"أو"مجلس صلاحية"، وأدى الإجراء إلى إثارة القضاة وقوى المعارضة وتخوفها من وقوع مذبحة قضاء أخرى.