ان المشكلة الرئيسة التي تعانيها صناعة النفط العالمية، هي التخلف الشديد في الاستثمارات اللازمة لبناء طاقات انتاجية اضافية في اقطار منظمة"أوبك"، خصوصاً في الخليج حيث وفرة الاحتياط النفطي. ولا تتوافر اليوم طاقات انتاجية من النفط الخام الخفيف كصمام أمان إزاء أي انقطاع في الإمدادات في أي بلد منتج لأسباب جيوسياسية او غيرها. على العكس، فقد خسرت"أوبك"امدادات نفطية قد تصل الى مليوني برميل يومياً بسبب انخفاض الانتاج والتصدير من العراق وفنزويلا ونيجيريا لأسباب سياسية او جيوسياسية، ما يخلق شعوراً بالخوف في اسواق النفط وينتج جواً ملائماً للمضاربات في اسواق النفط الاصلية، ما يفسر التطورات غير المنطقية في اسعار النفط العالية. تنتج"أوبك"حالياً بكامل طاقتها النفط الخفيف، ولا تملك من طاقة احتياطية غير النفط الثقيل ذات نسبة الكبريت العالية في المملكة العربية السعودية، لا يتمتع بطلب عالمي بأسعاره الحالية بسبب عدم كفاية طاقات التحويل في مصافي الولاياتالمتحدة التي يمكن بموجبها زيادة كميات البنزين والديزل من برميل الخام. وما فاقم المشكلة تراخي الزيادة في انتاج النفط خارج"أوبك"، خصوصاً ما كان متوقعاً بالنسبة الى النفط الروسي، ووصول انتاج المناطق خارج"أوبك"الى مستويات يصعب تحقيق النمو فيها، كبحر الشمال والولاياتالمتحدة. في ظل هذه الاوضاع واستمرار النمو الاقتصادي بوتيرة عالية في الصين والهند، يمكن ان تصاب سوق النفط بكارثة في حال حدوث أي انقطاع مهم في الإمدادات ، ما يمكن ان يفسر الحالة العصبية للسوق ازاء المواجهة القائمة اليوم بين ايرانوالولاياتالمتحدة والغرب عموماً حول موضوع تخصيب اليورانيوم. ومفيد في هذا الصدد مقارنة وضع الصناعة اليوم بوضعها عام 1990، عندما اجتاح الرئيس صدام حسين الكويت وقررت الاممالمتحدة حظر تصدير نفط كل من العراقوالكويت، ما أدى الى انقطاع امدادات ما لا يقل عن 4.5 مليون برميل يومياً وفي شكل مفاجئ. وما أنقذ سوق النفط حينذاك وجود طاقات انتاجية اضافية في المملكة العربية السعودية، كانت كافية لسد النقص في السوق، لولاها لأصيبت سوق النفط بكارثة. فالطاقة الفائضة كانت صمام الأمان لما حدث ابان حرب الخليج في شكل لم يؤثر في سوق النفط طويلاً. ان الوضع اليوم يختلف عنه في بداية التسعينات من القرن الماضي. والسؤال هو لماذا لم تقم"أوبك"ازاء هذه التطورات بالاستثمارات اللازمة لزيادة القدرة الانتاجية التي لو نفذت، لما وصل السعر الى مستويات"غير مريحة"للمنتجين بحسب تصريحات بعض وزراء"أوبك"أنفسهم. خلال السنوات الخمس الاخيرة، أي منذ عام 2000، كانت الزيادة المتراكمة للاستهلاك العالمي للنفط نحو 7 ملايين برميل يومياً، تأمن منها 3.7 مليون برميل يومياً من خارج"أوبك"، أي ان انتاج المنظمة خلال تلك الفترة زاد بما لا يقل عن 3.3 مليون برميل يومياً، من دون ان تقوم"أوبك"بأي استثمارات ضخمة عدا عن حقل الشيبة بطاقة وصلت الى 700 الف برميل يوميا،ً وذلك في فترة التسعينات من القرن المنصرم. تتحدث"أوبك"اليوم عما يسمى تأمين الطلب من قبل المستهلكين لأجل استيعاب الطاقات الانتاجية الاضافية. فقد جاء في وثيقة المنظمة الرسمية حول الإستراتيجية الطويلة المدى التي ظهرت في آذار مارس الأخير ضرورة استمرار تأمين امدادات النفط، وتأمين الطلب عليها. وجاء في كلمة ألقاها ممثل"أوبك"في اجتماع الثماني في موسكو في شباط فبراير القائم بأعمال أمين عام"أوبك"آنذاك عدنان شهاب الدين نشرة أوبك نيسان / أبريل المنصرم"ان تأمين الطلب على النفط بالنسبة الى المنتجين هو بأهمية تأمين امدادات النفط للمستهلكين". وتكلم عن"خريطة طريق"لتأمين الطلب على النفط من قبل المستهلكين كمطلب مشروع للمنتجين، وذلك بسبب المخاطرة الاستثمارية العالية وعدم التأكد مما سيحدث للطلب العالمي بحيث يمكن للطاقات الجديدة ذات الكلفة العالية ان تكون معطلة من دون وجود طلب عليها من المستهلكين. وان أهمية تأمين امدادات النفط للمستهلكين وتأمين الطلب عليها من المستهلكين"وجهان لعملة واحدة"! وهنا يطرح السؤال: كيف يمكن عملياً تحقيق هذا المطلب؟ وماذا بامكان المستهلكين عمله لتلبيته؟ ان الطلب على النفط قضية معقدة لا يمكن حكومات الاقطار المستهلكة السيطرة عليها. فباستثناء السياسات الضريبية في تلك الاقطار، ما يؤثر في استهلاك الوقود المحلي، فإن الطلب يخضع لعوامل النمو الاقتصادي في الاقطار المستهلكة والطبيعة القطاعية لذلك النمو، من حيث اعتماده على القطاعات ذات الكثافة في استعمال البترول، او غيرها كقطاعات الخدمات والتكنولوجيا، خصوصاً تلك المتعلقة بالارسال الالكتروني. وكذلك التقدم التكنولوجي في استخدام الطاقة البديلة وجهود المستهلكين في الحفاظ على استهلاك الطاقة وزيادة كفاءة استعمالها وغيرها. غير ان العامل الاكبر في تحديد الطلب، هو سعر النفط نفسه، فكلما زادت اسعاره قلّ الطلب مع فارق زمني يقصر او يطول. أي ان المرونة السعرية للطلب على النفط التي كان الاعتقاد السابق يراها منخفضة، اصبحت بفعل الصدمات السعرية في السبعينات عالية مع مرور الزمن. وخير مثال على ذلك هو ما حدث لاستهلاك البترول في اوروبا الغربية عدا اوروبا الشرقية التي كانت خاضعة للنظام الشيوعي. لقد بلغ مجموع استهلاك البترول لهذه المنطقة عام 1979 نحو 14.7 مليون برميل يومياً، في الوقت الذي بلغ الاستهلاك العام في 2004، 14 مليون برميل يومياً، أي اقل مما كان عليه قبل 25 سنة. واللافت للنظر ان الدخل القومي لأوروبا الغربية خلال تلك الفترة تضاعف ثلاث مرات ونصف المرة بالقيمة الحقيقية، من 3.4 تريليون دولار ألى نحو 12 تريليوناً. كذلك بالنسبة الى اليابان. ما يعني ان ردود فعل المستهلكين ازاء الصدمات السعرية السابقة ادت الى درجات عالية من كفاءة استهلاك النفط والتحول الى مصادر بديلة، خصوصاً الغاز الطبيعي والطاقة النووية. بعبارة اخرى، ان الطفرات السعرية الاخيرة يمكن ان تدفع المستهلكين في المناطق الاخرى، خصوصاً في آسيا والولاياتالمتحدة نحو الاتجاه نفسه. ما يعني أن ضمان اسواق للطاقات الانتاجية الجديدة يكمن في سياسات"أوبك"السعرية لتشجيع الاستهلاك في المناطق الجديدة، واذا كانت"أوبك"غير مستعدة للمخاطرة في الاستثمار الرأسمالي في النفط، فإن البديل هو السماح للشركات الاجنبية ان تتحمل المخاطرة. وخلافه فإن الدوامة السعرية الحالية ستستمر سنوات عدة، لغير مصلحة"أوبك"في الأمد البعيد. * خبير نفطي