فيما كانت مدينة الناصرية 400 كلم جنوببغداد تستقبل بألم خبر وفاة أحد أبنائها، الشاعر كمال سبتي، الذي وافته المنية في مغتربه في هولندا اختار"الجنوب"منها، أيضاً، مكاناً لإقامته، استقبلت المدينة ذاتها ابناً آخر من أبنائها المبدعين، القاص والروائي محسن الخفاجي، عائداً إليها بعد غياب ثلاث سنوات أمضاها معتقلاً في سجون الاحتلال الأميركي بين سجن"بوكا"وپ"أبي غريب"... والتهمة التي اعتقل بسببها هي قيامه بعمل الترجمة، والترجمة فقط، بين مسؤولين في القوات المسلحة العراقية التي كانت تتصدى للقوات الغازية يوم هاجمت مدينته، والأسرى منها الذين وقعوا، يومها، في قبضة العراقيين عام 2003. والمفارقة هي أن الشاعر الراحل كمال سبتي كان من منفاه، في جنوبهولندا، من اشد المدافعين عن ابن مدينته وصديقه الخفاجي الذي يعد واحداً من كتاب جيل الستينات البارزين في القصة العراقية. وكان في ما كتب عنه من مقالات في الصحافة العربية وفي"الحياة"بوجه خاص وما أصدر من نداءات توجه بها الى منظمات حقوق الانسان، مدافعاً عن حق صديقه، الكاتب العراقي، في الحرية، كاشفاً عن ان التهمة الموجهة إليه، والتي لم يتم أي تحقيق جدي معه فيها لدى سجانيه، إنما هي، قضية"ملفقة"اتخذت منها قوات الاحتلال ذريعة لمصادرة حرية كاتب معروف. وإذا كان الخفاجي يتقن اللغة الإنكليزية وقام بالعمل الذي قام به فهو إنما كان يقوم بعمل وطني، ويعبِّر عن موقف وطني. كان الشاعر كمال سبتي الذي خرج من العراق عام 1989، وعاد إليه عام 2004، في زيارة قصيرة الى الأهل والوطن يكتب عن هذا"الرماد"الذي يهيله المحتلون يومياً على كل شيء جميل في وطنه، بما في ذلك الإنسان... وقد عاد الى"منفاه"محملاً بصدمة الاحتلال، جاعلاً لديوانه الأخير- الذي صدر قبل أسابيع - عنواناً مثيراً، وحزيناً هو:"صبراً قالت الجهات الأربع". أما محسن الخفاجي - الذي أقلق أهله وأصدقاءه ما آل اليه من وضع صحي مترد في معتقله، كان يقاوم"أزمته"مع سلطات سجون الاحتلال بالكتابة، ونقلت عنه عائلته التي كانت تتاح لها زيارته بين مدة وأخرى، ان كل ما كان يطلبه منهم هو"ورق الكتابة"و"كمية من الأقلام"، اذ أخبرهم انه يكتب رواية،"بطلها"هو ورفاقه في سجن"بوكا"، في ما يعيشون من معاناة قاسية. عائلة الشاعر كمال سبتي رجت الحكومة العراقية المساعدة في نقل جثمان ابنها ليدفن في مدينته، في وقت ينتظر الجميع رواية محسن الخفاجي- الذي غمره الحزن والألم وهو يسمع، من الأصدقاء الذين استقبلوه، خبر وفاة صديقه الشاعر الذي كثيراً ما دافع عنه، ووقف الى جانبه في محنته، وسلك اكثر من سبيل من اجل الوصول به الى حريته. ويوم وجد الخفاجي نفسه"حراً"في وطن مأسور، كان الشاعر كمال سبتي قد رحل، قبل ان يبلغه الخبر، خبر إطلاق سراح صديقه الخفاجي الذي كان سيسعد له كثيراً!