روبرت ردفورد لديه مهرجان"سندانس"للسينما المستقلّة وروبرت دي نيرو لديه، ومنذ خمس سنوات، مهرجان"ترايبيكا"للسينما...؟ ربما لكل السينما لكن الغالب عادة وفي هذه الدورة خصوصاً، الأفلام ذات الطابع السياسي. حين أسسه دي نيرو عبر شركته"ترايبيكا"سنة 2002 قال:"أريد أن أبرهن على أن نيويورك كعاصمة ثقافية وفنية لا تموت بفعل الإرهاب. أريد أن أؤكد دور السينما في التصدي للإرهاب وفي معالجة قضايانا كافّة". كل عام سابق برهن على أن هذه النيّة موجودة. لكن في هذه الدورة الخامسة هناك ما يؤكد أن المهرجان يلعب دوره الحاسم في هذا الشأن. إن لم يكن بسبب حفنة كبيرة من الأفلام التي تتعاطى وحروب ومشاكل ما بعد 11/9 فبسبب فيلم الافتتاح الذي يتعاطى مباشرة مع ذلك اليوم المفجع في تاريخ الولاياتالمتحدة، وكما برهن سريعاً من بعد، في تاريخ العالم أجمع. الفيلم هو"يونايتد 93"، أول فيلم هوليوودي مباشر عن 11/9 . يونايتد إسم شركة طيران أميركية معروفة. 93 هو إسم الرحلة التي أنطلقت الساعة الثامنة والثانية والأربعين صباح ذلك اليوم من مطار نيويورك في طريقها الى سان فرانسيسكو. قبل عشرين دقيقة من إقلاعها استلم مكتب إدارة الطيران أول إشارة لوجود شيء ما خطأ: طائرة"أميركان آيرلاين"أقلعت من مطار نيويورك قاصدة لوس أنجيليس. بعد نحو ربع ساعة من إقلاعها سمع أحد المراقبين ما جعله يعتقد أن الطائرة مخطوفة. أحد لم يكن يتصوّر أن ذلك سيكون بداية حتى من بعد أن استقرّت الطائرة في البرج الأول من"مبنى التجارة العالمي"في نيويورك. بعد قليل ضربت طائرة أخرى البرج الثاني- وبعدهما بنحو ربع ساعة أخرى توجهّت طائرة ثالثة الى البنتاغون."يونايتد 93"كانت الرابعة والأخيرة ولم يرتب أحد فيها الا عندما أصدر المكتب تعليمات لكل الطائرات في الأجواء الأميركية بالعودة الى قواعدها او الهبوط في أقرب مطار ممكن. هبطت جميعاً باستثناء تلك الطائرة. المخرج البريطاني بول غرينغراس لا يصوّر دراما مأخوذة عن الأحداث التي وقعت على متن تلك الطائرة. هذه المهمة فعلها قبل أسابيع قليلة فيلم تلفزيوني بعنوان"الرحلة 93". ما يقوم به غرينغراس هنا هو إعادة تركيب الأحداث تاركاً الفيلم يتحدّث بنفسه عن نفسه، والدراما تولد على الشاشة لحظة بلحظة. أمعاناً في أن تكون إعادة التركيب واقعية فإن الكاميرا محمولة باليد ويديرها باري أكرويد الذي صوّر بعض أفضل أفلام البريطاني كن لوتش الواقعية طوال الوقت خالقة جواً مشحوناً. التوليف قام به ثلاثة ينجز لقطات سريعة ومتوترة. السيناريو يختصر الطرح التقليدي. لا خلفيات للشخصيات. لا مشاهد حوارية طويلة. لا تشاهد راكبة تشرح قصة حياتها او رجلاً يخطب عن الوطنية. في الحقيقة ليس هناك شخصيات محورية على كثرة تلك الشخصيات وليس هناك من ممثلين معروفين وجوه كثيرة من نوع: شاهدت هذا الممثل من قبل لكني لا أذكر أين ولا أحد منهم صاحب دور يطغى على الأدوار كلها. أين الاتجاه غرينغراس يدخل الفيلم من دون موسيقى ومن دون عناوين. العرب الأربعة الذين قاموا بالعملية الممثلون خالد عبدالله، عمر بردوني، لويس السماري والبريطاني جامي هاردينغ الذي يشبه الكوميدي هارولد لويد يؤدّون صلاة الفجر. أحدهم يقرأ القرآن الكريم الفيلم لا يترجم الآيات. في المطار، ينضم هؤلاء الأربعة الى باقي الركّاب. مظهر الركّاب عادي المظهر. تجدهم في كل مطار وفي كل طائرة. ولا ينسى الفيلم الراكب المتأخر الذي يغلق الباب وراءه. ومع إقلاع الطائرة تقلع أيضاً توقّعات المشاهدين فنحن، بسبب تجاهل غرينغراس للطريقة التقليدية في سرد الحكايات، لا نعرف، بعد ثلث ساعة من العرض، كيف سيتّجه الفيلم بنا والى أين تماماً. قوّة"يونايتد 93"تتوزع ما بين إحكام هذا الأسلوب المستمد من خبرة غرينغراس التلفزيونية التي على أساسها أخرج فيلمه الجيد"الأحد الدامي"عن تظاهرة ايرلندية سلمية تصدّى لها البوليس وحوّلها الى نكبة وفيلمه الأكشن الرائع"سيادة بورن"مع مات دامون وبين توزيع الأحداث ما بين ما يقع داخل الطائرة وما يقع خارجها في أربع محطات رئيسية مكتب إدارة الطيران، قاعدة عسكرية للمراقبة الجوية وغرفتي مراقبة في مطاري نيويورك وبوسطن. ليس هناك قصة جانبية، ولا الرئيس بوش يظهر ليقول شيئاً وليس هناك ممثل يؤديه أو يؤدي دور نائبه تشيني. كل ما هناك وضع يجعل التنفّس صعباً في نصف الساعة الأخيرة عندما يدرك فيها الركّاب بأنهم مخطوفون ويزداد صعوبة عندما يقرر بعضهم أن الخاطفين يريدون تحطيمها لذا وجب عليهم محاولة السيطرة عليها. الفيلم ينتهي والصراع محتد بين الركاب والخاطفين بينما الطائرة هاوية. غرينغراس يستغني حتى عن لقطة خارجية للطائرة وهي تسقط وتنفجر. هذا ليس فيلماً روائياً ولا - بالطبع - تسجيلياً. بل هو فيلم من تلك التي تستمد من الأسلوبين خطاً ثالثاً خاصاً. مشاغل أخرى فيلم غرينغراس يقف في مواجهة لفيلم مايكل وينتربوتوم"الطريق الى غوانتنامو"المعروض كذلك في هذا المهرجان والذي هو أيضاً نوع من إعادة التركيب. لكنه نوع مرتاح لدى وينتربوتوم لا ينشد مشاهداً متوتّراً، بل مشاهداً قادراً على إستخلاص الرأي بهدوء. المواجهة بين الفيلمين سياسية."يونايتد 93"يتحدّث عن الألم في أنفس الأميركيين في الطائرة كما لدى المشاهدين و"الطريق الى غوانتانامو"يتحدث عن الألم في أنفس وأجساد السجناء الذين تم التقاطهم في بقاع شتى وإرسالهم الى سجن غوانتانامو بينهم مسلمون بريطانيون باكستانيو الأصل ثلاثة بقوا عرضة للتحقيق بلا نتيجة حتى الإفراج عنهم بعد أكثر من عام على احتجازهم. هؤلاء محظوظون حين يتذكّر المرء أن نحو 400 لا يزالون في ذلك المعتقل بين الحياة والموت. بينما ينسج"الطريق الى غوانتانامو"وپ"يونايتد 39"وجهتي النظر في مأساة 11/9 وما بعد، هناك أفلام أخرى تملأ الفراغات بينهما. أحد هذه الأفلام"أشرطة الحرب"حول الحرب في العراق كما صوّرها جنود أميركيون. المخرجة ديبرا سكارنتون تقول أنها جمعت مواد وصلت الى 900 ساعة من المواد المسجّلة قبل أن تجلس وراء جهاز التوليف لإختيار ساعة ونصف منها. وفي العراق أيضاً الفيلم التسجيلي"دم أخي"لأندرو بارندس. أكثر تأثيراً ويدور حول مصوّر فوتوغرافي عراقي يتطوّع لحراسة مسجد وبعد ساعات يطلق عليه جندي أميركي النار فيرديه. أخوه يعيش على أمل الإنتقام له. لكن العالم ليس فقط 11/9 وما تبعه من حروب بل سلسلة من المآسي الصغيرة - الكبيرة التي تتناقلها مجموعة متزايدة من الأفلام الحديثة."لاعبان من مقاعد المشاهدين"فيلم كرواتي كوميدي أسود عن السياسة المحلية وما يشوبها من فساد وجشع بعد الحرب الأهلية في يوغوسلافيا سابقاً."أرض العميان"حول حارس سجن جوزف فاينس يتضامن مع سجين سياسي دونالد سذرلاند في السعي الى إثارة التمرد ضد الوضع الدكتاتوري في بلد لاتيني غير مُسمّى. والفيلم الفرنسي"كوميديا السُلطة"لكلود شابرول يكاد يلخّص ما الذي يحدث خطأ في عالمنا حين يحاول البعض منا التصدي لفساد إداري، إذ يجد نفسه تحت ضغوط السلطة للكف عن محاولته و - كما الحال بالنسبة الى بطلة الفيلم ايزابيل هوبيرت التي تؤدي دور محققة قضائية - منطلقة في رحلة قد تحطّمها هي وبيتها العائلي.