مع مطلع هذا القرن تواصلت موجة جديدة من الأفلام في السينما الغربية تناولت التحولات الدرامية في الحياة العراقية من زوايا مختلفة، وتصاعدت وتيرة هذه الأفلام فتجاوزت الستين فيلماً وثائقياً، في موازاة عدد آخر من الأفلام الروائية ذات الصلة. وما يميز هذه الأفلام حرصها على كشف الحقائق المغيّبة، أو المزيفة، في الخطاب السياسي الغربي أو المحلي المتواطئ والمستفيد من الخراب الكبير الذي نراه اليوم على شكل كوارث متواصلة، وهذه نماذج مقتطفة من تلك الأفلام. طريق بغداد الإرلندي أطلق الأميركيون على الطريق التي تربط مطار بغداد بالمنطقة الخضراء اسم «الطريق الإرلندي»، وقالوا أنه أخطر طريق في العالم، مع أنه محصن بجدران إسمنتية وحواجز تفتيش مدعمة بالسلاح والكلاب البوليسية، ومن هنا استوحى الكاتب والصحافي البريطاني بول ليفرتي سيناريو الفيلم الذي أخرجه صديقه القديم كين لوش، وهو يرصد الجرائم الملتبسة التي ارتكبتها الشركات الأمنية التي عملت في العراق، وعلى رأسها شركة «بلاك ووتر» التي انسحبت، بعد أن قتل مسلحوها عائلة عراقية ومواطنين غير مسلحين. ولكن، ماذا حدث حين وصلت جثة «فرانكي»، أحد المتعاقدين مع هذه الشركات، إلى مدينة ليفربول البريطانية؟ قام فيرغس، الصديق القديم لفرانكي، بالبحث عن لغز مقتله في «الطريق الإرلندي»، وكان فيرغس (مارك ووماك) ضابطاً سابقاً، ثم تعاقد مع إحدى هذه الشركات، وهو الذي أغرى صديقه فرانكي بالتعاقد مع الشركة الأمنية، وكان يشعر بالذنب لهذا السبب، كما يشعر بأن الشركة ليست بريئة من دم صديق طفولته، وهو لا يصدق روايتها عن حادث قتله، ويمكن أن يكون طرف الخيط في كشف الحقيقة المغيبة يكمن في آخر الأرقام التي يضمها جهاز الهاتف الجوال الذي كان يحمله فرانكي. يلتقي فيرغس مع شاب موسيقي عراقي مغترب، وافق على التعاون معه بصعوبة، واستمر معه وصولاً إلى ما لم يكن مؤكداً أو متوقعاً. جاء إيقاع هذا الفيلم سريعاً بما يتناسب مع إيقاع الأحداث الضارية التي واكبت نشاطات الشركات الأمنية، وتم تصويره في ليفربول والأردن وبغداد، وبرزت فيه النزعة الإنسانية التي تميزت بها أعمال كين لوش منذ البداية. الأخطاء العشوائية والرعاية الإيرانية ومن الأفلام الوثائقية يمكن التوقف عند «لا نهاية للمشهد» الذي أخرجه البريطاني شارلز فيرغسون، في مئة ودقيقتين، ورصد فيه الأخطاء العشوائية التي ارتكبتها الإدارة الأميركية على مدى السنوات التي أعقبت الاحتلال، وانعكست تأثيراتها المدمرة على حياة الشعب العراقي، فكانت سبباً في تفاقم أعمال العنف، وانعدام الأمن، وتخريب البنى التحتية وشح الموارد، وإيقاظ نعرات التعصب المذهبي في رعاية إيرانية سافرة، وانتشار عصابات القتل والميليشيات الفئوية وانهيار منظومات التعليم والصحة والاتصالات. حشد المخرج في فيلمه خمساً وثلاثين شخصية مفصلية كانت لها أدوار مختلفة في تعميم الفوضى الإدارية والفساد، وكانت البداية في أعمال النهب التي طاولت المتحف العراقي وكل المؤسسات الرسمية المهجورة، وكان للجيش الأميركي دور المتفرج المرتبك. ويرى المخرج أن حل الجيش العراقي تسبب في كارثة، حيث انتمى العسكريون المسرحون إلى الميليشيات المختلفة. من أهم الشخصيات التي حاورها المخرج: الجنرال المتقاعد غاي غارنر الذي سبق بول بريمر في إدارة شؤون العراق، والسفيرة باربارا بوين، وريتشارد أرميتاج، وهما من كبار موظفي وزارة الخارجية، إلى جانب شهود عيان، ووثائق حية عن مفاصل سير الأحداث. حصل فيلم «لا نهاية المشهد» على جوائز عدة، أولاها الجائزة الخاصة للجنة التحكيم في مهرجان ساندانس، وجوائز أخرى من جمعيات نقاد السينمائيين، ووضع ريتشارد كورليس في مجلة تايم هذا الفيلم في خانة «العشرة الأفضل» بين الأفلام الوثائقية، وقال: «شرح لنا كيف دخلنا إلى هناك (العراق) ولماذا لم نستطع أن نخرج». بحثاً عن الخديعة الكبرى إذا أردنا أن نقارن بين الأفلام الأميركية والغربية التي تناولت حربي فيتناموالعراق يمكننا أن نكتشف مفارقات واضحة، فأكثر الأفلام التي تناولت حرب فيتنام جاءت بعد الانسحاب الأميركي من هانوي، بينما تواصلت الأفلام عن حرب العراق منذ البداية حتى اليوم، بكثافة لافتة للنظر، وبرزت بينها مجموعة في أكثر من ستين فيلماً وثائقياً مهمة، بينما اعتمدت الأفلام الروائية الطويلة على روايات، أو تحقيقات، أنجزها صحافيون مغامرون تعرض بعضهم للخطف أو القتل، وكان بينهم بعض النساء المسلحات بالكاميرا الخفية، ومنهن مخرجات سينمائيات أنجزن أفلاماً مهمة. عاد المخرج البريطاني باول غرينغراس إلى بداية الحرب، في العراق، في فيلمه «المنطقة الخضراء» الذي صوره في بريطانيا وإسبانيا والمغرب، كما صور مشاهد قصور المنطقة الخضراء في بغداد في قصر كبير بضواحي لندن. يقود الضابط الأميركي الكبير روي ميلر (مات دايمون) فريقاً من الخبراء للبحث عن أسلحة الدمار الشامل في بغداد، وفق معلومات وصلت إليه من جهات شبه مجهولة، عن أسلحة في مستودعات معينة، أو مدفونة في أرض ملعب رياضي، لكن البحث المتواصل لم يصل إلى أي نتيجة تذكر، فأيقن ميلر أن في هذا الموضوع خديعة كبرى، فتغير موقفه، واتجه إلى البحث عن مصدر الخديعة الذي روّج لتلك المعلومات الزائفة، وتوصل ميلر إلى بعض الخيوط التي قادته إلى مواجهات مع شخصيات ملتبسة، ومنها عملاء لوكالة الاستخبارات الأميركية، وصحافية حسناء مخادعة، تعمل في «نيويورك تايمز»، ولم يخل بحثه الدائب من مواجهات ساخنة واقتحامات خطرة، قادته إلى بداية الطريق إلى مراكز القرار في تصنيع الخديعة الكبرى، والترويج لها والتعتيم عليها. جنود في غبار الحرب لم تكن المفاجأة كبيرة في حفل توزيع جوائز «بافتا» البريطانية، الموازية لجوائز الأوسكار أن يفوز فيلم كاترين بيغلو «خزانة الألم» بجائزة أفضل فيلم فيها إلى فوزه بالأوسكار نفسها، بعد أن حصد عدداً من جوائز النقاد، في الولاياتالمتحدة، ومن الطريف أن يكون هذا الفيلم منافساً لفيلم «آفاتار» في جوائز «بافتا»، مع أن موازنة «أفاتار» تعادل واحداً وعشرين ضعفاً من موازنة «خزانة الألم» وأن المخرجة هي الزوجة المطلقة من جيمس كاميرون، مخرج «أفاتار». يسرد الفيلم حكاية فريق من العاملين في إبطال العبوات الناسفة في العراق، كما وردت في رواية الصحافي في نيويورك تايمز كريس هيدجز. يقود ويليام جيمس فريق العمل وينضم إليه الرقيب سانبورن بعد أن قتل الرقيب تومسون بعبوة بدائية، واستطاع جيمس أن يقيم علاقة صداقة مع صبي عراقي يبيع الأفلام على أقراص مدمجة، لحساب تاجر عراقي، وفي إحدى مهماته المتعددة ينتزع جيمس فتيل قنبلة مزروعة في مبنى الأممالمتحدةببغداد، لكن جيمس يمارس عمله بطريقة مزاجية ويتسبب في نزاعات وخلافات مؤلمة بين أعضاء الفريق، ويكتشف جيمس جثة صبي مشوهة ومفخخة، يعتقد أنها جثة الصبي الذي يعرفه، فيطلب من التاجر أن يدله على بيت الصبي، والتقى هناك بأستاذ عراقي في بيته، ودار بينهما حوار قاس لم يكتمل، لأن زوجة الأستاذ أصرت على طرد جيمس من المنزل، فمضى إلى المعسكر يائساً، واستمرت معاناة أفراد الفريق في المواجهات الصعبة المفاجئة، وفي تفكيك الذخائر التي لا تنتهي، وهي معاناة تنعكس على الحياة الشخصية والعائلية لكل منهم، وهم لا يعرفون متى تنتهي هذه المهمة الصعبة المزدحمة بالمفاجآت التي تطلع من غبار الحرب. مخرجات وراء كاميرات ذكية كان المخرجون يبحثون في عمق الحقيقة التي تكمن وراء التقارير الإخبارية الدموية المصورة في ذروة الأخبار اليومية ويعبرون الممرات المتعرجة بين خطوط النار وأتاحت الكاميرا الرقمية في السنوات الأخيرة للسينمائيين التسجيليين إمكانات واسعة لتصوير أحداث العراق منذ بداياتها، وهذا ما لم يكن متاحاً للسينمائيين الذين صوروا أحداث حرب فيتنام أو الحرب العالمية الثانية، ويتمثل الفرق في سرعة العمل ووزن معدات التصوير. وتحضرنا في هذا السياق ثلاث مخرجات جريئات قدمن ثلاثة أفلام مثيرة، هن: لاورا بويتراس، ديبورا سكرانتون، باتريشيا فولكرود. فعلى مدى ثمانية شهور صورت المخرجة لاورا بويتراس ما مجموعه مئتان وستون ساعة، وكانت تحمل معدات التصوير في حقيبة مموهة. تقول لاورا: «لم أرغب في الظهور مع الكاميرا لأن ذلك سيجعل مني هدفاً للقتل، ولهذا كنت في حاجة إلى معدات أستطيع إخفاءها بسرعة أو استخدامها بسرعة عند الحاجة». كانت لاورا تزور عيادة «الدكتور رياض» وتجلس في صالة الانتظار تشاهد وتسمع ما يقوله المرضى من الناس العاديين عن أحوالهم وهمومهم. ومن ناحية أخرى، أنجزت المخرجة ديبورا سكرانتون بتقنية عالية فيلماً مدهشاً عن المعارك التي خاضها عشرة من الجنود الأميركيين ينتمون إلى منطقة نيوهامشير من خلال المشاهد الحية التي صورتها الكاميرات الرقمية الملحقة ببنادقهم ومنها معارك طاحنة في منطقة الفلوجة وأخذ هذا الفيلم اسم: أشرطة الحرب. أما المخرجة باتريشيا فولكرود فإنها لم تزر العراق إلا أنها استطاعت أن تقدم فيلماً موثقاً عن الحقائق التي نقلها عشرات الجنود الأميركيين الجرحى العائدين من العراق والآثار العميقة التي تركتها الحرب على حياتهم، بينما كانوا يعالجون في المستشفيات وحرصت المخرجة على طرح أسئلة خاصة على هؤلاء الجنود، حول أعمال القتل المجاني التي أجريت هناك، كما حرصت على توثيق حالة اليأس والحزن التي غمرتهم وهم يجيبون عن الأسئلة الصعبة.