مهرجان كان... دورة العام 2004. اليوم هو العشرون من أيار مايو... بعد يوم واحد تختتم الدورة عروضها. في السابعة مساء، أي بعد ساعات قليلة موعد عرض فيلم"2046"للمخرج الصيني وونغ كار واي. أهل"كان"على أعصابهم قلقون. نسخة الفيلم لم تصل بعد. بل انهم لا يعرفون، حتى، أشياء كثيرة عن الفيلم. كل ما في الأمر انهم شاهدوا قبل شهور نحو 50 دقيقة منه، أي ثلث مدته الزمنية. بعد ذلك أكد لهم المخرج ان الفيلم سينجز في موعده، وأن عليهم ألا يقلقوا. لو حدث هذا مع مخرج آخر، لكان من شأن أهل المهرجان أن يستغنوا عن الفيلم. فهم ما اعتادوا أبداً مثل هذا التشويق المربك. لكن وونغ كار واي هو وونغ كار واي. وبالتالي يستحق كل ذلك الرعب. ثم أفلم يعتادوا، قبلاً، مثل هذا، من هذا المخرج الغريب الأطوار... الغريبها كما يجدر بأي مبدع حقيقي أن يكون؟ المهم... بعد كل القلق... وفيما كنا في الصالة، يومها، نسأل أنفسنا عما اذا كنا سنشاهد تحفة وونغ كار واي الموعودة أو لا... وصل الفيلم في رفقة صاحبه. كان كار واي على موعده تماماً. حتى وان كان هذا الموعد قد ضرب أصلاً، منذ أربع سنوات، أي منذ أعلن المخرج عن"قرب"انجاز هذا الفيلم. في ذلك الحين كان وونغ كار واي يشتغل أيضاً، على تحفته السابقة"في مزاج الحب"، الفيلم الذي أوصل شهرته العالمية الى الذروة. فهل علينا أن نذكّر بأن هذا الفيلم أيضاً، عيّش دورة ذلك العام من"كان"على أعصابها، اذ ظل مصير عرضه غامضاً حتى اللحظات الأخيرة؟ حسناً... حدث هذا أيضاً في ذلك الحين. لكن الأمور لم تبد مقلقة تماماً. فيومها، في العام 2001، كانوا قلة أولئك الذين ينتظرون، حقاً وبشغف، عرض فيلم لوونغ كار واي. وحين عرض الفيلم الجديد، تضاعف عددهم، بالطبع مئات المرات. وكانت النتيجة أن فاز كار واي بجائزة أفضل مخرج... ولم تكن هي المرة الأولى التي يفوز فيها بالجائزة نفسها لا في"كان"ولا في غيره من المهرجانات. بل لعله المخرج الوحيد من أبناء جيله الذي لم يفز أي فيلم له بغير هذه الجائزة منذ العام 1991، عن أربعة أو خمسة أفلام، من بين ما حققه حتى اليوم ولا يزيد عدده على ثمانية أفلام و ... ثلث. اذ انه اضافة الى أفلامه الروائية الثمانية الطويلة التي حققها منذ بداياته في العام 1988، هناك مشاركته مع انطونيوني وستيفن سودربرغ في فيلم"ايروس". الفاتنات من حوله فهل معنى هذا أن ليس ثمة في سينما وونغ كار واي، سوى أدائه كمخرج؟ ليس الأمر على هذا النحو طبعاً. ولكن من المؤكد أن هناك ما هو جديد وساحر في اللغة السينمائية لهذا المبدع الذي ينطلق دائماً من مواضيع في غاية البساطة - نظرياً - ليحقق سينما مركبة يشتغل فيها البعد البصري بكل قوته كما يجدر بالأمور أن تكون في هذا الفن السابع الذي يعيد اليه مخرجون من أمثال وونغ كار واي، اعتباراً كان فقده منذ زمن على مذبح السرد الحكائي والسياق الروائي. من هنا لم يكن غريباً أن يرى كثر من النقاد والباحثين ان وونغ كار واي هو... غودار العقود الأخيرة، ناقصاً الرسالة السياسية والتمرد الايديولوجي. ولم يكن غريباً بالتالي أن يُعَوَّض على عدم فوز كار واي بأية جائزة في كان 2004 عن فيلمه الأخير"2046"باختياره رئيساً للجنة التحكيم في دورة هذا العام من"كان"، الدورة التي تبدأ فعالياتها يوم الأربعاء المقبل، ومن المؤكد أن اختيارات وونغ كار واي الفنية - والجمالية في شكل خاص - ستلعب دوراً أساسياً في النتائج التي ستعلن عند نهاية الدورة. ولمناسبة الحديث عن المسألة الجمالية لا بد من لفت النظر هنا الى ان وونغ كار واي، سيجد نفسه، إن هو وصل في موعده، ولو في آخر لحظة كعادته، محاطاً في مهمته الجديدة برهط من الفاتنات، عضوات لجنة التحكيم، وفي مقدمهن بالطبع مواطنته تزانغ زيوي، التي لعبت دوراً أساسياً في فيلمه"2046"، ثم مونيكا بيلوتشي، وهيلينا بوهان - كارتر، امرأة زميله المخرج الأميركي تيم بورتون. طبعاً هناك آخرون في اللجنة راجع كادراً خاصاً في هذه الصفحة، ولكن من المؤكد أن صاحب"2046"الذي أحاط بطله في هذا الفيلم بأربع من الفاتنات، جاعلاً اياه ينسى كل شيء آخر عداهن في هذا العالم، سيخوض التمرين نفسه. لكن هذا لا يعني، بالتأكيد، أن كار واي لن يقوم بمهمته التحكيمية بكل جدية. فهو لم يعتد إلا هذا، حيث لا يفوت متابع أفلامه أن يلاحظ الخلط المبدع لديه بين أقصى درجات الجمال، وأكثر المواقف جدية، مع استثناءات قليلة في فيلم أو فيلمين له، وصفا بأنهما كوميديّان. وهذه المزاوجة بين الجمال المطلق - في لغة سينمائية تزداد جرأة وابتكاراً فيلماً بعد فيلم - وبين المواقف الحادة والخارجة عادة عن المألوف، كانت هي ما أعطى سينما وونغ كار واي خصوصيتها، مميزة اياه عن أقرانه. خصوصاً ان هذا المخرج الصيني الذي ولد في شانغهاي وعاش منذ طفولته في هونغ كونغ، ويشكل مصير هذه المدينة هاجساً أساسياً في حياته وموضوعاً موارباً في"2046"، دخل عالم السينما باكراً من طريق تأثيرات السينما الصينية والأوروبية، ذات الجرأة المطلقة في لعبة التجريب. اذاً، منذ الاندفاعة العالمية لفيلمه الأول"فيما تسيل الدموع"، وحتى"2046"، مروراً ب"أن تكون ضارياً"1991 و"رماد الزمن"1994 و"اكسبرس تشانغكنغ"و"الملائكة الهاوية"1995 وخصوصاً"سعداء معاً"1997 ثم - طبعاً -"في مزاج الحب"2000، كوّن وونغ كار واي لنفسه عالماً سينمائياً متكاملاً، من الصعب ربطه بأية لغة أدبية أو بأية تأثيرات من خارج فن السينما نفسه. وهو يعلق على هذا بقوله ان خصوصية سينماه تنبع من واقع"انني انظر الى كل فيلم أحققه على أنه كائن مستقل في حياته، ينمو ويتطور على سجيته، ليس فقط خلال الاشتغال عليه، بل بعد ذلك أيضاً، حين يشاهد". ومن هنا نراه لا يهتم كثيراً بمسألة الفترة الزمنية التي يستغرقها انجاز فيلم من أفلامه. بالنسبة اليه ليعيش الفيلم كما يحلو له فهو - على أية حال - لن ينجز أبداً. ليس في المنتج الفني خاتمة، وإلا"لما اضطررنا الى الاحساس بأي شعور خاص حين نعود الآن الى مشاهدة أفلام سبق أن شاهدناها ألف مرة من قبل". عوالم خاصة ومع هذا نعرف أن تصوير فيلم"اكسبرس تشانغكنغ"انجر بسرعة مدهشة، بينما استغرق انجاز"2046"أربع سنوات... على سبيل المثال. وكما ان كار واي يعتبر نفسه كمن يعيش خارج الزمن، كذلك فإن أفلامه تدور خارج أزمان محددة. كم من الوقت، يا ترى، تستغرق العلاقة بين ماغي شنغ وطوني لينغ، الزوجين الجارين، اللذين يشعر كل منهما بأن زوجه خانه، فينتهي بهما الأمر الى ادراك أن زوجها وزوجته يقيمان علاقة مع بعضهما بعضاً، انها تستغرق زمن الفيلم لا أكثر... وهو لا يقاس بالساعات. ولولا تغيير ماغي لأثوابها - الرائعة - عشرات المرات لما أحسسنا أن ثمة زمناً يمر. في المقابل قد يكون محقاً من يعترض قائلاً ان الفيلم الأخير"2046"يحمل تاريخاً محدداً، وبالتالي يفترض أنه يدور في زمن محدد. لكن هذا الرقم المستقبلي هو أيضاً، في الفيلم، رقم غرفة في فندق، وهو - الى ذلك - تاريخ استقلال هونغ كونغ نهائياً بحسب الاتفاق بين بريطانيا والصين. وهو، أيضاً، تاريخ يحدد خمسين سنة من عمر علاقات الرجل طوني لينغ في الفيلم عبر ذكريات نساء يرتبط بكل واحدة منهن للحظة في حياته غير محددة. هذا"الوجود"خارج الزمن وحدوده، هو الذي يعطي سينما وونغ كار واي سحرها وصعوبتها أيضاً، ويمنعها من أن تكون سينما جماهيرية - وهذه كلمة يقول المخرج دائماً انه لا يعرف لها معنى - هي - في نهاية الأمر - سينما حميمية خاصة عابقة بالشاعرية، تعطي الأفضلية للمكان على الزمان. بل يصبح المكان هو الزمان فيها. ووونغ كار واي لكي يتمكن من تحقيق سينما كهذه، يعرف أنه لا يمكنه أن يشتغل إلا مثل الحرفي المنزلي. ومن هنا نراه يعمل دائماً مع الفريق نفسه، فنيين وممثلين، من ويليام تشانغ، مهندس الديكور والمولّف، الى المصور كريستوفر دويل. ومن ماغي شنغ وغونغ لي وزانغ زيوي الى طوني لينغ، نجومه الذين صاروا مع مرور الزمن نجوماً كباراً في سينما العالم. وعن هذا يقول كار واي ان ما يتوخاه دائماً لدى هؤلاء المحيطين به هو الصداقة"لقد عملنا معاً منذ زمن طويل وبتنا نفهم بعضنا بعضاً تماماً. لذا لسنا في حاجة الى اضاعة أي وقت للتفاهم في ما بيننا". والحقيقة ان هذا كله يعطي سينما وونغ كار واي وعالمه مذاقهما، لتأتي الموسيقى - المؤلفة أو المنتخبة من المختارات العالمية - لتضفي على كل ذلك رونقاً استثنائياً - بل تصبح، عنوان الفيلم، كما"في مزاج الحب"... المنطلق، موضوعاً وعنواناً، من الأغنية الأميركية الشهيرة. أما السؤال الأخير الذي يبقى هنا فهو: هل حقاً"يصلح"مخرج شديد الخصوصية والانتقائية في عالمه السينمائي للحكم على أفلام تشارك في مسابقة لمهرجان مثل"كان"شديد التنوع؟ سؤال لا يمكن العثور على اجابة له إلا بعد أسبوعين، حين يحل حفل الختام وإعلان النتائج، لنرى كيف سيحكم وونغ كار واي - ورفاقه في اللجنة اكسسوارياً - على أفلام بعضها أول لأصحابه، متنوع الاتجاهات، وبعضها يحمل تواقيع ناني موريتي وبيدرو المودوفار وكين لوتش ورون هوارد وصوفيا كوبولا، وكل منهم لا يقل أهمية عن وونغ كار واي بكل تأكيد. ايليا سليمان عضو لجنة التحكيم اذا كانت فلسطين وكل الدول العربية تقريباً - مع استثناءات ذات دلالة - غائبة عن الدورة التاسعة والخمسين لمهرجان"كان"، فإن وجود المخرج الفلسطيني ايليا سليمان عضواً في لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة يبدو تعويضاً ولو جزئياً عن هذا الغياب. وسليمان ليس السينمائي العربي الأول الذي يضم الى لجنة التحكيم في"كان"، اذ سبقه الى ذلك كل من يوسف شاهين وفريد بوغدير المخرج التونسي صاحب"حلفاوين". وكذلك تقول الحكاية الطريفة ان عميد المسرح العربي يوسف وهبة كان في عداد محكمي الدورة الأولى لمهرجان"كان"في العام 1946، ولكن من دون قصد. فهو كان اصطحب عامها فيلمه"سيف الجلاد"ليعرضه في المهرجان، ليجد نفسه عضواً في لجنة التحكيم، اذ اعتبر يومها كل المشاركين أعضاء في اللجنة! وكان ايليا سليمان فاز قبل أعوام بثاني أهم جائزة تمنح في"كان"وهي جائزة لجنة التحكيم الخاصة في المسابقة الرسمية عن فيلمه المميز"يد إلهية"، بعدما كان المشاركون توقعوا له، ان يفوز بالسعفة الذهبية. كذلك كان سليمان عرض قبل ذلك بعام، وضمن احدى التظاهرات الثانوية فيلمه القصير"سيبر فلسطين"الذي نال يومها اعجاباً شاملاً، أهّله لدخول المسابقة - والفوز بالتالي - في الدورة التالية، عن"يد إلهية".