اعتقلت الشرطة الإيطالية أمس، بيرناردو بروفينتسانو الذي يُعدّ واحداً من أعتى وأخطر عرّابي المافيا الصقليّة المعروفة ب"مافيا كوزا نوسترا"، إن لم يكن الأعتى والأخطر على الإطلاق، وذلك بعد اختفائه أكثر من 43 عاماً. ومنذ تواريه عن الأنظار في عام 1963 ، حيكت حول بروفينتسانو الأساطير خصوصاً انه لم تتوافر لدى الشرطة والقضاء أي معلومات عنه طيلة تلك السنوات ولم تتوافر لدى أجهزة الأمن الإيطالية إلاّ صورة فوتوغرافية قديمة بالأسود والأبيض التقطت له خلال رحلة قام بها مع زوجته إلى مدينة فلورنسا في مطلع الستينات. وأشيع أنه"ربما يكون مات"كما صرّح قبل أيام محاميه. وكما هي الحال للعراب الآخر توتو ريينا وآخرين، اعتقل بروفينتسانو في مسقط رأسه، ما دلل مجدداً إلى أن عرابي المافيا لا يبتعدون كثيراً من مسقط رأسهم إذ يشعرون بالأمان بين ناسهم وتابعيهم. لكن يبدو أن بروفينتسانو وقع ضحية وشاية لأحد من هؤلاء التابعين، والذي إما وشى به طوعاً أو اعترف بعد اعتقاله أو وقع في دائرة مراقبة أجهزة مكافحة المافيا. وعلى رغم اعتقاله في منزل ريفي على بعد بضعة كيلومترات من مسقط رأسه في بلدة"كورليوني"القريبة من باليرمو فإن"بروفينتسانو، على حد قول رئيس إدارة مكافحة المافيا القاضي غرّاسّو، كان يحتل قمة الهرم المافيوي وكان يدير شؤونها بنشاط". ويُستدل على ذلك أن بروفينتسانو كان يحتفظ لدى اعتقاله بعدد من الرسائل الملغّزة المعروفة باسم"بيتسيسني"الورقة الصغيرة التي اعتاد بروفينتسانو وعرّابو كوزا نوسترا على إرسال أوامرهم بها ليقوم أتباعهم وأعوانهم بتنفيذها، كما يكون في إمكان"ساعي البريد"المافيوي التخلّص منها بسهولة في حال القبض عليه. من المعقول جداً التفكير بأن بروفينتسانو الطاعن في السن لم يعد يحتل الموقع الذي كان يحتلّه وأنه صار عُرضة للقبض عليه، منذ فقد الحماية الضرورية التي يوفّرها"جدار الصمت المافيوي المطبق"الذي يُفرض عادة حول العرابين المهمّين من معيار بروفينتسانو. والدلالة الأولى على فقدانه"حصانة الصمت"ظهرت منذ شهور عندما اكتشف القضاء الإيطالي أن بروفينتسانو أُدخل مصحاً خاصاً في مونتي كارلو الفرنسية وأجريت له جراحة في البروستات. شيوع ذلك الخبر أعاد الاهتمام بشخصية العرّاب إذ تأكد للقضاة أنه ما زال على قيد الحياة ويحتفظ بصولجان الزعامة كونه تمكّن من التواري عن الأنظار لأكثر من أربعين سنة. غير أنه يبدو أن ذلك التأكيد أصبح الخطوة الأولى لنهاية عصر بروفينتسانو وبداية وقوعه في شباك العدالة. وليس مستبعداً أن تكون طبقة جديدة من العرابين، الشباب، هم الذين وفّروا الوسائل للوشاية بزعيمهم لتحقيق هدفين مزدوجين أولهما التخلّص من ثقل كبير يمثّله عرّاب شائخ قد لا تتناسب وسائله مع العولمة. وثانيهما، خفض مستويات الضغط القضائي والأمني الذي تتسب به عمليات البحث والتقصّي الجارية عن العراب الأكبر. إلاّ أنه ليس مستبعداً على الإطلاق أن تكون هذه التكّهنات جميعها مخالفة للحقيقة وأن بروفينتسانو كان وما زال"الزعيم الأوحد"ل"كوزا نوسترا"وأن اعتقاله تم نتيجة براعة الشرطة الإيطالية. ما هو مؤكد هو أن بروفينتسانو سيفعل كما فعل سابقوه ممّن وقعوا في شرك العدالة وأنه سيقول للقضاة:"أنتم مخطئون فيما تفكرون به حولي. أنا لست إلاّ مزارعاً بسيطاً أضطررتموه إلى الهرب المتواصل خشية اتهامه بما لم يقترف...".