كنت سعيد الحظ حين اتيحت لي الفرصة بأن التقي في ايار مايو من العام 1987 بالكاتب الايرلندي صموئيل بيكيت. حامل نوبل الأدب 1969 وسّعت تمثيلياته آفاق المسرح الأوروبي والأميركي الذي ملأته مسرحيات جان بول سارتر وكريستوفر فراي وأرثر ميلر وتنيسي وليمز وت.س. اليوت ومهدت السبيل لما تبعها من مسرحيات أونيسكو وهارولد بينتر وكل اولئك الذين عرفوا باقطاب ما سميّ بمسرح اللامعقول. دعاني بيكيت الى مقهى سان جاك بميدان سان جاك في باريس، فبيكيت رغم انه ولد وشبّ في ايرلندا، فقد قضى معظم حياته في باريس حيث درّس الفرنسية ثم تفرغ الى الكتابة باللغتين الفرنسية والانكليزية، وكان من شأنه ان يترجم ما يكتبه بالفرنسية الى الانكليزية والعكس بالعكس. ولعلني كنت آخر شخص أجرى مقابلة مع بيكيت قبل وفاته. ولم يكن بيكيت من الطامعين في الشهرة وكان قلما يستقبل السائلين عن أدبه وفنه، وفي النادر ما كان يجري مقابلة مع احد. شفع لي عنده كتابي عن جيمس جويس الذي أصدرته من بيروت في الذكرى المئوية لمولد جيمس جويس والذي نشرته أشهر دور النشر الايرلندية في العام 1982. ورغم قلة كلامه فقد كان بالفعل من يصدق عليه القول بأنه لا يتفوه الا بما قل ودل. رغم قلة كلامه ابدى إعجابه بأننا في لبنان في العام 1982 تمكّنا من ان نقيم منبراً للفكر والجمال بالبرنامج الحافل الذي نظمناه في الجامعة الاميركية في بيروت حين كنت رئيساً لدائرة اللغة الانكليزية وآدابها وذلك في خضم العنف والحرب من قتال داخلي وغزو أجنبي خارجي. أضف الى ذلك ان بيكيت في ذكرى جويس خصنا نحن في لبنان دون غيرنا بكلمة قصيرة اكراماً لتلك الذكرى. جلست انتظره وقد بكّرت في المجيء وأنا متلهف الى لقائه ومقدر ما أسبغه عليّ من فضل اذ قبل ان يجتمع بي. وكان بيكيت يسكن في بناية متواضعة من بنايات باريس وكنت اعرف بأنه متقشف يكاد ان يكون متزّهداً تزهد المتصوفين. دخل بيكيت المقهى متئد الخطى وعلى رأسه"بيريه"وكان بسيط الهندام حتى اني تخيلته أحد الرهبان الجيزويت الذين يعرفون باسم"الأخ". وكان مشرق المحيا متواضعاً الى ابعد حدود التواضع فتقشفه في ما يختار من الكلام، وما يأتيه من الاشارات والحركات تمثّل ايضاً في اختياره لملابسه ولم يكن يلبس رباط عنق. لا يمكن ان أنسى ما تركته كلماته في نفسي في ذلك اللقاء، فكل كلمة تفوه بها الرجل العظيم حملت في طياتها ما تحمله خاتمة حياة أي انسان من جلال ورهبة، شعرت وكأن الرجل يختصر حياته الحافلة الغنية المثمرة في كلماته الاخيرة تلك، فقد تطرّق بنا الحديث عن أدبه وفنه وما نشره من أدب مسرحي، وكان ينظر الي بذلك الصفاء الذي كان من ابرز خصاله حين قال: "لقد اكملت عملي. وأنا سعيد وحزين في آن معاً. انه لشعور غريب. الآخرون يكتشفون في ما اكتبه اسراراً خافية لا ادري بها. كثيرون هم الذين يودون زيارتي وانا الوحيد الذي لا أعلم - لذلك سبباً - ان الكلمة خالدة لا تزول، مستمرة دائمة، ان إيماني بالكلمة هو الذي ساعدني على الاستمرار في الكتابة والتأليف، فاذا ماتت الكلمة انتهى كل شيء". وبينما كان يتحدث بهذه الكلمات لمس باصابعه كلمات صفحة من صفحات كتاب أحضره معه واهداني إيّاه حين ودعته وقد خطّ في الكتاب"تحية، تقديراً الى سهيل بشروئي وزملائه في لبنان". مرّت أصابعه على صفحة الكتاب وكأنه يخط بكلمات لا تراها العين وشعرت بأنه يتعبد في محراب الكلمة مهما كانت وشعرت وانا أراه يلمس كلمات كل سطر من سطور الصفحة المفتوحة أمامه شعرت وبصورة لم يسبق لي ان خبرتها معنى الكلمة الخلاقة وقدسية الحرف". قلت لبيكيت:"انا عربي أبحث في الادب، وكعربي أرى في أعمالك غير ما يراه نقادك الاوروبيون من آيات التشاؤم والسوداوية، بل أجد في ما تكتب، وبخاصة في تمثيليتك في"انتظار غودو"كأنك تقول"علينا ان نسعى الى الوصول الى الإيمان، أليست أعمالك كلها روايات كانت ام تمثيليات تقول لنا:"أنسوا اللفظة والصورة التي تأخذها الكلمة وركزوا اهتمامكم على جوهر الكلمة وروحها"؟ يقولون انك لا تؤمن مع أنك لم تعلن عن ذلك ابداً، ولعلك في ذلك مثل وليم بليك...". ابتسم بيكيت وصمت من دون ان يوافق على ما أقول أو يعارضني في ما ذهبت اليه، وابتسم مرة اخرى وبادرني قائلاً:"ان رأيك جدير بالاهتمام، وان نظرتك هذه نظرة جديدة لتقويم أعمالي...". وأضاف بعد ذلك وكأنه يؤكد ما أقول:"ان الكلمة هي الطاقة المحركة، هي التي تضمن استمراري وبقائي. فاذا توقفت الكلمة يتوقف كل شيء آخر، وعالم اليوم عالم كئيب لانه أفرغ من الكلمات ولم يبق لنا فيه الا صور ورموز". وقادنا الحديث الى جيمس جويس وأردت ان أسمع من بيكيت نفسه رأيه في جويس. فقد ادعى بعض النقاد من مؤرخي الأدب بأن بيكيت عمل سكرتيراً لجويس مدة من الزمن. والمعروف ان بيكيت قد تأثر بالغ الأثر بجويس واعتبره استاذه العظيم. بدأ بيكيت حديثه عن جويس بعد ان اعتدل في جلسته، وكأنه على وشك ان يقرأ دعاء. وتحدث بهدوء ناطقاً كل كلمة بوضوح ليعبر عن بالغ احترامه واجلاله لتلك الشخصية الفذّة الفريدة من نوعها والمثيرة للجدل والنقاش، فقال:"لم أعمل سكرتيراً خاصاً بأجر، ولكنني كنت اساعد جويس، كما كان يفعل كل اصدقائه. وكما تعلم، كاد جويس ان يكون ضريراً. فقد كان يشكو من ضعف نظره الى حد انه احتاج المساعدة والعون في كثير من الأمور العادية. كنت أقوم باداء بعض الخدمات مثل اختيار مقتطفات من الكتب التي كان يحتاج الى الاطلاع عليها او كنت أقرأ عليه احياناً ما يختاره من الشعر والنثر، ولكنني لم اكتب أياً من رسائل. فقد كان يتولى هذا الأمر بنفسه..."واسترسل في حديثه"ان جويس كان شاعراً في المرتبة الأولى وجاء في زمن استنفد فيه الشعر الانكليزي كل امكاناته، فوقف وقفة بطولية ورفض ان يكتب شعراً من الدرجة الثانية فاخترع اسلوباً جديداً واستحدث نمطاً شعرياً جديداً فكانت روايته"يوليسيس"، وثم رواية"مأتم فينيغان"التي ترجمها البعض خطأً يقظة فينيغان". وكم كان صادقاً في حكمه فعلى رغم الضباب الفكري والنقدي الذي يحيط برائعتي جويس كان بيكيت واضح الرؤية صادق الحدس فقد بدأ النقاد اليوم يتحدثون عن اسلوب جويس في روايتيه بأنه اسلوب الشعر وليس اسلوب النثر. والذي أدهشني لم يكن هذا الرأي النقدي بل كان اسلوب بيكيت في حديثه عن جويس وعن زملائه السابقين والمعاصرين له من امثال وليم بتلر ييتس وغيره. كان يتحدث عن كل هؤلاء بالاجلال والتعظيم، كان يتحدث عنهم وقد تجرّد من كل"أنانية"كان متواضعاً كل التواضع. وادهشني تواضعه الجم ودماثة خلقه وادهشتني في حديثه عفة اللسان وطهارة القلب. ورأته جيداً: لقد نظر الى الحياة فرأى الناس وقد غيرتهم الدنيا بتفاهاتها وبريقها الزائل ووعودها الخادعة فركّز على ذلك في كتاباته ليقودها من طريق القلب والإيمان الى رحاب الحقيقة الروحية للإنسان... ففي كل ما كتبه يحدثنا عن قلقنا النفسي ويعرّي لنا وعينا ويصور ما نشعر به من العزلة والانفراد. انها القضية النفسية التي عبر عنها بيكيت في كل ما كتب وبخاصة في ما أجمع النقاد على أنها أهم انجازاته الأدبية مثل"في انتظار غودو"و"مرفي"، و"مُولُوي"، و"مالون يحتضر". ان ما ذكرته شذرات من مذكرات دونتها في باريس اثناء زيارتي التي لا تنسى والتقائي بأهم كاتب مسرحي عرفه القرن العشرون. * استاذ في جامعة ميريلاند - الولاياتالمتحدة.