ثمة سؤال أسمعه باستمرار هو لماذا لا أكتب مذكراتي؟ أستطيع أن أكتبها ولكن إذا فعلت فسأقع في خطأ كبير، هو ان الموضوع لا يستحق الكتابة عنه. لا أقول هذا تواضعاً، حقيقياً أو فارغاً، ولكن أرى ان المذكرات يجب أن يكتبها زعماء سياسيون كبار، أو قادة جيوش، أما صحافي أهون على امته من بعوضة، فالأفضل أن يلزم الصمت طلباً للسلامة. هذا لا يلغي انني قد أكتب يوماً ذكريات، غير ان الهدف منها لن يكون اظهار أهمية الموضوع، وانما سرد بعض القصص والأحداث، بهدف تسلية القارئ لا أكثر ولا أقل. وإذا وردت قصة مهمة ضمن السياق، فذلك من طريق الصدفة لا التدبير. لا أدري إذا كنت أبحث عن أعذار لنفسي، حتى أبرر عدم الكتابة، غير أنني مقتنع بما أقول، ثم انه ليس في وطننا العربي السعيد بجهله ما يشجع على الكتابة، فأفضل الكتب رواجاً لا يبيع أكثر من خمسة آلاف نسخة، وإذا نجح نجاحاً مذهلاً فعشرة آلاف. وأرفض أن أكسر ظهري على مدى سنة لأبيع مثل هذه الأرقام، والأرجح أقل منها. سئلت مرة أخرى أمس، لماذا لا أكتب مذكرات، وأمامي تحقيق، في جريدة "الاوبزرفر" من الشهر الماضي اختار القائمون عليه أهم مئة رواية في تاريخ الأدب العالمي، وهم اعترفوا بأن الخيار ذاتي، وغير علمي، ما يفسر أن نجد في الرقم 60 رواية "مالون يموت" لصموئيل بيكيت، وهي جزء من ثلاثية، بدلاً من مسرحية "بانتظار غودو"، وألا نجد بين مئة خيار "الحرب والسلام" على رغم ان القائمة ضمت "آنا كارنينا" لليو تولستوي، و"الأخوة كارامازوف" لثيودور دوستويفسكي. وكنت في خيارات سابقة رأيت "بوليسيس" لجيمس جويس تحتل المرتبة الأولى، غير انها هبطت الى المرتبة 44 في القائمة الجديدة التي تصدّرها "دون كيشوت" لميغيل دي سيرفانتس. واتفقت القائمة مع رأي سومرست موم في ثلاثة كتب، فقد قرأت له مرة كتاباً اختار فيه عشر روايات ومؤلفيها، ووجدت منها في القائمة "توم جونز" لهنري فيلدنغ، و"موبي ديك" لهيرمان ميلفيل، و"مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير. كان هناك عدد من الكتب إما قرأتها أو رأيتها أفلاماً، مثل "فرانكشتاين" لماري شيلي، و"الدكتور جيكل والمستر هايد" لروبرت لويس ستيفنسون، و"لورد أو سيد الحلقات". ل ج ر. ر. تولكين، و"لورد أو سيد الذباب" لوليام غولدنغ و"غاتسبي العظيم" ل ف. سكوت فتزجرالد، و"كاتش 22" لجوزف هيلر. وأعترف بأن قائمة المئة ضمت كتباً كثيرة لم أسمع بها من قبل، ناهيك عن أن أكون قرأتها، ما جعلني أقدر مدى جهلي على رغم كل ما أقرأ. طبعاً كل ما سبق لا يرد على السؤال لماذا لا أكتب مذكرات، أو يبرر عدم كتابتها. غير انني ربما وجدت رداً في خبر خلاصته ان الكتب الستة التي اختيرت للتنافس على جائزة بوكر في انكلترا الأدبية هذه السنة باعت مجتمعة 65 ألف عدد، أو أقل بعشرين ألفاً مما باع ديفيد بيكهام في سيرته الذاتية "جانبي". بكلام آخر، ديفيد بيكهام يكسب برجليه أكثر مما يكسب أفضل ستة أدباء بالانكليزية هذه السنة، وبالتالي أفضل من ستين أديباً عربياً أو أكثر. ما سبق يعني أنني أقرأ فأمتنع عن كتابة المذكرات، أو أي كتاب، إلا ان مشكلة القراءة غير موجودة عند كتاب وزملاء لم تصبهم ثورة المعلومات بشيء، ولو برذاذها، كما فاتتنا ثورة الجنس في الستينات، فلم نسمع عنها الا في السبعينات. وما سبق يعني انني أهذر، وللقارئ ان يقر إن كنت أهذر وأنا أقول انني قرأت كتباً بالعربية وجدت في قائمة مشتريات من السوبرماركت أدباً أكثر مما فيها. والغريب في الأمر ان بعضهم ناجح على رغم جهله الفاضح، ما يثبت ان الجمهور أكثر جهلاً. وأنا أقرأ بعض الكتب وأشعر بأنني بالمقارنة أستطيع أن أصبح طه حسين جديداً. غير انني أذكى من أن أحاول أو أجبن، فأكتفي بالسخرية ممن كتبوا، وبعضهم يقول في فصل ما لا يحتاج الى أكثر من فقرة، بل ما لا يحتاج الى قول أصلاً. وإذا كان هذا الكاتب لم يسمع القول العربي القديم ان "البلاغة الايجاز"، فهو حتماً لم يسمع بسرقة شكسبير هذا المعنى في قوله "الايجاز روح الظرف". وما سبق يظل أهون من أدب النفاق وبضاعته. وأسهل طريقة لمعرفة ممارسه أن تسمعه ينفي التهمة عن نفسه. وهو يقول انه لا يُشتَرى، ولكن أعرف بالتجربة انه يمكن أن يُستأجر. وهو على الأقل متواضع مع الناس الذين هم دونه مرتبة اجتماعية لو أنه يجد مثل هؤلاء الناس. وكان واحد منهم سألني يوماً عن رأيي في ما يكتب، فترددت ثم قلت ان كل مقال كتبه كان أفضل من المقال التالي. ورد قائلاً: شكراً. في الوضع العربي الأدبي السائد يواجه الشعر أزمة، فهو ضاع بين قديم وحديث، والشاعر هذه الأيام لن يجد من سمع به إلا إذا قتل ناثراً واعتقلته الشرطة. وأختتم ببعض الجد، فالاستثناء هو ما نرى من شعبية الشعر العامي، أو النبطي، وكنت قبل سنوات صاعداً الى بيت مري، ووجدت الطريق شبه مغلق بالسيارات، واعتقدت ان هناك اضراباً، ثم اكتشفت ان هناك حفلة زجل لشعراء زجالين معروفين. والشهر الماضي كنت في الرياض، وذهبت الى فندق الفيصلية، فلم أستطع الدخول، واعتقدت ان السبب الاجراءات الأمنية، ثم علمت انه كانت هناك أمسية شعرية للأمير عبدالرحمن بن مساعد. غير ان مثل هذا هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة، والقاعدة هي ان الشاعر بحاجة الى خيال كبير ليتخيل ان هناك من يقرأه.