في عصر العولمة والاعتماد المتبادل، تدرك منطقة الشرق الأوسط وقارة آسيا، أن التداخل بينهما لا يمكن أن يظل مقتصراً على مجالات هامشية ومحدودة. وفي سعيهما الى زيادة فرص التعاون في المجالات الرئيسة، يتطلع الطرفان إلى ما وراء النفط، ويبذلان الجهد للبحث عن الفرص الواعدة في قطاعات مختلفة. وعلى هذه الخلفية، تأتي زيارة ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير سلطان بن عبدالعزيز إلى سنغافورة اليوم، في سياق الزخم الجديد الذي يساعد على صياغة علاقات سياسية، عبر الاستفادة من المسار الاقتصادي. إن النقاش الحالي بين الدولتين هو امتداد للتفاعل الذي بدأ منذ العام الماضي، خلال منتدى الحوار الآسيوي - الشرق أوسطي، الذي كانت فيه الدولتان عضوين في لجنة التسيير. إن هذا الحوار الذي جمع بين شخصيات بارزة من الطرفين - والذي تم تنظيمه للمرة الأولى في سنغافورة، ويُنتَظَر أن يتم عقد جولته الثانية في القاهرة خلال عام 2007 - يهدف إلى تعزيز التفاهم وفتح المجال أمام التعاون في جميع المجالات. وترى سنغافورة أن هذا الحوار يتجاوز إطار"الحوار بين الحضارات... وأنه يحتوي أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية". وبالاستفادة من مزايا التعرف إلى الأوضاع والمواقف وبناء الثقة بين الطرفين، فقد أصبحت لدى الدولتين الآن فرصة للقيام بدور تحقيق التقارب بين المنطقتين. أصبح المجال مُهيَّأً لإقامة علاقات ثنائية أفضل، ترتكز على قاعدة التبادل التجاري الكبير، الذي بلغ نحو سبعة بلايين دولار. وفي إطار التقاء المصالح وتبادل المنافع، قامت سنغافورة بتفعيل علاقاتها مع منطقة الشرق الأوسط، بينما تنظر المملكة العربية السعودية إلى منطقة شرق آسيا بوصفها موقعاً رئيسياً لاستثماراتها. وبوصفها لاعباً مرموقاً في المجال الاقتصادي، فسنغافورة تهيئ نفسها لتصبح شريكاً موثوقاً به للمملكة العربية السعودية، وهي تعمل للاستفادة من فرص الدخول في مشاريع مشتركة في المنطقة، كما أن سنغافورة تسعى للاستفادة من الفرص العديدة المتاحة، من الجهود التي تبذلها السعودية لتنويع اقتصادها. ويبدو أن سنغافورة حددت ثلاثة مجالات رئيسية للتعاون، هي قطاع المصارف وأسواق المال وإدارة الأموال. وينبغي لسنغافورة أن تدرك أن السعودية دشنت خطة طموحة لتوسيع قاعدتها الصناعية. وطبقاً لتقرير الاستثمار العالمي الصادر في عام 2005، فإن السعودية استقبلت استثمارات أجنبية مباشرة في حدود 1.9 بليون دولار خلال عام 2004. ولكي تتمكن المملكة من جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإنها تطرح العديد من الحوافز المتنوعة، التي تشمل صيغة للإعفاءات الضريبية بالنسبة للاستثمار في المناطق الأقل نمواً، ومنطقة لإعادة التصدير، وتسهيل الإجراءات المتعلقة بالأنشطة الاستثمارية وتوحيدها. وعلاوة على ذلك، فإن مؤسسات الأعمال السنغافورية لديها الآن فرصة لجني مئات البلايين من الدولارات، بالاستثمار في مشاريع البنية التحتية الضخمة في المملكة. وتعكف الهيئة العامة للاستثمار في المملكة العربية السعودية على إجراء مسح شامل، لنحو 400 فرصة جديدة للاستثمار في أنحاء البلاد، وهي تبحث عن جذب استثمارات تبلغ نحو 800 بليون دولار في القطاعات الرئيسية، مثل الصناعات البتروكيماوية وقطاعات الغاز الطبيعي والسياحة وتحلية المياه وتوليد الطاقة الكهربائية والاتصالات وتقنية المعلومات وخطوط المواصلات والسكك الحديد. وعلى وجه الخصوص، تم تدشين مشروع مدينة الملك عبدالله الاقتصادية في كانون الأول ديسمبر من العام الماضي، وهو مشروع مصمم لاستيعاب مشاريع استثمارية قيمتها 27 بليون دولار. وإضافة إلى الاستثمار والخبرة المطلوبة في هذه المجالات، ترغب السعودية أيضاً في الاستفادة من خبرة سنغافورة في تطوير ميناء بحري في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية. ويمكن للسعودية أن تستفيد بقدر كبير من خبرة سنغافورة في القضايا المتعلقة بحماية البيئة والحفاظ على المخزون المائي. وترغب السعودية أيضاً في العمل بصورة موثوقة مع سنغافورة، لكي تدخل المملكة في استثمارات في منطقة جنوب شرق آسيا، وستقوم المملكة بفتح مكتب للترويج الاستثماري في سنغافورة. وفي المقابل، ترى هيئة الاستثمار السعودية أن في وسع الشركات السنغافورية أن تستفيد من موقع السعودية ووضعها الاقتصادي المميز، لكي تصل إلى بقية دول منطقة الشرق الأوسط وشعوبها. وتتضمن خطط تكثيف التعاون السعودي - السنغافوري، خلال الزيارة التي يقوم بها ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبدالعزيز إلى سنغافورة اليوم، إنشاء مجلس مشترك لرجال الأعمال، وتوقيع اتفاقات لتجنب الازدواج الضريبي، وضمان الاستثمارات. وظلت سنغافورة أيضاً تحث دول الشرق الأوسط على الاستفادة من موقعها، كنقطة انطلاق للدخول في مشاريع في منطقة دول آسيا المطلة على المحيط الهادئ. ويمكن لسنغافورة أن تساعد المملكة في عملية اختراق السوق الواعدة في الصين، حيث إن سنغافورة لديها خبرة في التعامل مع الصين وقيادتها، وهذا مجال يمكن لمجتمع الأعمال السعودي أن يستفيد منه بقدر كبير. وإضافة إلى كل ذلك، فإن سنغافورة هي النموذج في مجال النظافة ومشاريع التشجير والغطاء النباتي، والكفاءة المميزة في مختلِف القطاعات. ويبلغ عدد سكان سنغافورة نحو أربعة ملايين نسمة، ومساحتها 683 كيلومتراً مربعاً، ومعظم سكانها من أصول صينية، ولذلك لُقبت ب"البقعة الحمراء"، وتحيط بها دولتان تقطنهما غالبية مسلمة من السكان، هما ماليزيا واندونيسيا. وبينما يُعتبَر الإسلام العقيدة التي يدين بها نحو 16 في المئة من سكان سنغافورة، فقد عملت الدولة على ضمان أن يعيش السكان من المجموعات الصينية والمالاوية والهندية في جو من التسامح الديني والتعايش السلمي. وعلاوة على ذلك، فإن كيفية تحول سنغافورة من دولة نامية تنتمي إلى العالم الثالث، إلى دولة متطورة، تُعَد تجربة مفيدة لكثير من دول المنطقة، ومنها السعودية. إن القضايا والاحتياجات الملحة التي واجهتها سنغافورة قبل نحو أربعة عقود - وهي البطالة والإسكان والتعليم والكساد الاقتصادي، هي مشكلات تُعَد موضع قلق كبير بالنسبة إلى دول منطقة الشرق الأوسط الآن. وتُعتبَر سنغافورة حالياً أغنى دولة من بين الدول العشر الأعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا رابطة آسيان. ولديها اقتصاد متطور مبني على قاعدة اقتصاد السوق، وتحتل المرتبة الخامسة والعشرين من حيث مؤشر التنمية البشرية على النطاق العالمي. وخلال عام 2005، كان متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نحو 30228 دولاراً أميركياً، وبلغ معدل البطالة في مطلع عام 2006 حداً منخفضاً لم يتجاوز 2.5 في المئة. وعلاوة على ذلك، فإن سنغافورة، التي تُعتبَر واحدة من أربع دول أصلية في شرق آسيا شكلت كبار النمور الآسيوية، سينمو اقتصادها بنحو 4 في المئة إلى 6 في المئة خلال عام 2006. إن العامل المميز هنا، هو أن مقاربة سنغافورة لتحقيق التنمية تختلف تماماً عن المقاربات التي انتهجتها الدول الغربية. فهي تؤكد أهمية منظومة القيم التقليدية، التي تركز على المثابرة في العمل الجاد، والاهتمام بالأسرة. وفي غالب الأحيان، تشير الشركات الأجنبية إلى القوانين الصارمة بوصفها من الأسباب المشجعة على الاستثمار في سنغافورة. وساهم ذلك في تصنيف سنغافورة إحدى أقل الدول فساداً في آسيا، وهي من أنظف عشر دول في العالم، طبقاً للتصنيف الصادر عن منظمة"الشفافية العالمية". وعلى النهج نفسه، نجد أن سنغافورة دأبت على رفض تبني القيم الديموقراطية الغربية بمجملها، واقترحت ألاّ يكون الحل في مجال تطبيق الديموقراطية هو"تفصيل رؤية واحدة وفرضها على الجميع"، وهذا موقف عبرت عنه السعودية في طريقها لتحقيق الإصلاحات. إن المرتكز الرئيسي للنموذج السنغافوري، هو العقد الاجتماعي الذي توصلت إليه الدولة، والذي يدعو أفراد الشعب إلى أنهم إذا كانوا يرغبون في قبول المزيد من السيطرة الحكومية في مقابل التخلي عن بعض الحقوق الفردية والالتزام بالعمل الجاد، فإن الحكومة مُلزَمة بتهيئة البيئة التي ستحقق لهم الازدهار وتحسين مستوى معيشتهم. وفي سعيها لتحقيق نجاحها الاقتصادي، نجد أن سنغافورة أولت تنمية الموارد البشرية اهتماماً كبيراً. حيث تخصص الحكومة السنغافورية نحو 20 في المئة من موازنتها لتطوير التعليم. ويتسم قطاع التعليم بالحيوية والتطور والتخصص، وأدى ذلك إلى إنشاء مؤسسات تعليمية على مستوى عالٍ من التطور، وهو مجال يمكن للمملكة العربية السعودية أن تستفيد منه، خصوصاً في مجال تخريج جيل جديد من الكوادر المتخصصة في قطاعي تقنية المعلومات والخدمات. وفي الواقع، فإن الذي يبعث على التفاؤل في هذا الصدد، أن السعودية قررت إرسال 500 طالب سعودي كل عام إلى جامعات سنغافورة، لدراسة تخصصات مختلفة. ويمكن لسنغافورة أيضاً أن تستفيد من علاقات المملكة الجيدة مع كل من ماليزيا وإندونيسيا، وذلك لتسوية خلافاتها مع هاتين الدولتين المجاورتين لها. وعلى رغم وجود علاقات اقتصادية وثقافية مع هاتين الجارتين، فإن سنغافورة لديها تاريخ من المشاحنات الديبلوماسية مع جارتيها، منها تلك الضجة التي أُثيرت حول قيام ماليزيا بتوريد المياه إلى سنغافورة، وإنشاء جسر لكي يكون بديلاً عن الطريق الحالي الذي يربط بينهما. وفي حال إندونيسيا، فقد توترت علاقات البلدين منذ عام 2002، بعد أن ادعت سنغافورة أن هناك قادة لجماعات إرهابية، يختفون في أماكن غير معروفة داخل إندونيسيا. وهكذا، فإن من المتوقع أن تدخل العلاقات الثنائية بين السعودية وسنغافورة مرحلة جديدة من المكاسب المتبادلة، حيث سيكون في وسع الدولتين الاستفادة من موقعيهما، ليس في ما يتعلق بالفوائد الجمة التي ستجنيها كل منهما فحسب، وإنما بتحقيق المنافع التي ستعود فائدتها على منطقتيهما أيضاً. * رئيس مركز الخليج للأبحاث - دبي.