يعتقد كثيرون بأن مغادرة الكفاءات العربية أوطانها اختيار ذاتي، تتخذه مع سبق الإصرار ومن دون أن يرف لها جفن. لكن الواقع أن أغلب هذه الكفاءات تُكابِدُ هجرتها واغترابها كضرورة حتمية بعدما وجدت كل الأبواب موصدة في وجهها. مريم شديد واحدة من هذه الكفاءات. فهذه الشابة المغربية التي تنتمي إلى"درب السلطان"أحد أفقر الأحياء الشعبية في الدار البيضاء غادرت المغرب في صمت مثلما فعل العديد من زملائها من خريجي جامعاتنا الوطنية المتفوقين. غادرت المغرب من دون أن يشعر أحد برحيلها أو يفتقدها. حتى أسرتها الصغيرة طردت طيور الشوق والحنين واستقبلت مشروع هجرتها بفرح وحماسة. فالأمر يتعلّق بعبء أزيح عن عاتق رب الأسرة. لم تكن مريم لحظة هجرتها إلى فرنسا سوى مجازة عاطلة تطرق كل يوم باباً بلا جدوى. نبوغ مريم ظهر مبكراً ومنذ حصولها على البكالوريا في الرياضيات بدرجة جيد في عام 1988 في الدار البيضاء. ومن جامعة ابن مسيك في الدار البيضاء، حصلت على دبلوم الدراسات العليا في الرياضيات والفيزياء عام 1992. لكن تفوق مريم لم يكن كافياً ليجعلها تعثر على وظيفة. لهذا غادرت المغرب نهائياً. كان القرار صعباً قاسياً. لكن لم يكن أمام الشابة المغربية من خيار آخر فغادرت إلى فرنسا. هناك تمكنت من الحصول على دبلوم الدراسات المعمقة حول علم الصورة في العلوم الكونية في جامعة نيس - صوفيا عام 1993، ومنذ ذلك الحين،"ستجترح"مريم مساراً علمياً لافتاً كعالمة فلك. فبعدما ناقشت أطروحتها"تحت قبب السماء"، منحها المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي منصب باحثة مهندسة في علم الفلك. كما اختارتها المنظمة الدولية"أوربيان سوتيرن أوبسيرفاتوري"ضمن علماء الفلك الأوائل العاملين في أكبر مرصد للفلك في العالم حيث ظلت أربع سنوات متتالية تعمل في مجال الرصد الفلكي انطلاقاً من صحراء أتاكاما في التشيلي. ومنذ عام 2002، حصلت مريم على وظيفة استثنائية بصفتها عالمة فلك في المرصد الفلكي للكوت دازور في فرنسا. لكن الحدث البارز الذي سيعود ببنت"درب السلطان"الى دائرة الضوء أخيراً ليفاجئ أبناء الحيّ بإبنتهم تتصدر الصفحات الأولى للصحف المغربية، هو رحلة مريم المثيرة إلى القطب الجنوبي قبل أسابيع فقط حيث قضت شهرين في قارة الثلج تحت درجة حرارة تصل إلى 54 درجة تحت الصفر في إطار رحلة علمية تهدف الى تثبيت تلسكوب لقياس الاضطرابات الفضائية ودرجة إشعاع النجوم. مريم عالمة الفلك المغربية التي كانت المرأة الوحيدة ضمن البعثة، لم تتردد في مفاجأة زملائها ذات يوم وهي تقدم لهم طبقاً من الكسكس المغربي. وفاجأتهم للمرة الثانية وهي تسحب من بين أغراضها علماً مغربياً غرسته هناك في قارة الثلج. هذا الارتباط الغريب بالوطن يبدو غير منطقي بالنسبة الى البعثة. مريم نسيت من دون شك أن بلدها لم يفتح لها أبوابه عندما كانت تبحث فيه عن فرصة للعمل والعيش الكريم. إنه بلدها وهذا يكفي. لكن السؤال الصعب الذي يلح على مريم اليوم هو: هل سيكون ممكناً أن يستفيد المغرب مباشرة من إنجازات مريم شديد ومؤهلاتها؟ أم أن علم الفلك الحديث يبقى شأناً غير مغربي؟