ساد العلاقات الدولية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ما يسمى بازدواج المعايير في السياسة الدولية. الا ان السياسة الازدواجية هذه اخذت طابعاً عدوانياً بعد انتهاء الحرب الباردة في بداية التسعينات. والامثلة في هذا الصدد كثيرة. فعمليات التنكيل بالشعب الفلسطيني ومصادرة أراضيه ومنع الخدمات الإنسانية عنه، تعتبر دفاعاً عن النفس، أما مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والذي تجيزه اتفاقات جنيف والأعراف الدولية، فانه يصنف ضمن قائمة الإرهاب ويساوى في ذلك مع الإرهاب الحقيقي. الجديد والأخطر في هذه الازدواجية، انها بدأت مع مطلع القرن الجديد تمتد لتنسحب على الجوانب الاقتصادية، مع كل ما يُتداول من حديث عن حرية الأسواق وحرية التجارة في السلع والخدمات التي تدعو اليها منظمة التجارة العالمية. وكمثال صارخ على ازدواجية المعايير في العلاقات الاقتصادية الدولية القضية الآتية. في بداية السبعينات انتشرت ظاهرة شراء أصول شركات النفط العاملة في دول المنطقة. وحقيقة الأمر ان شركات النفط الأجنبية، ومعظمها اميركية في حينه، قبلت على مضض عملية البيع والشراء. ففي ذلك الزمن، والذي شهد قطع امدادات النفط للمرة الأولى اثناء حرب تشرين الأول اكتوبر من عام 1973، كانت هذه الموافقة بمثابة الحد الأدنى الذي يمكن ان تقبل به دول المنطقة. الآن، وبعد ثلاثين عاماً، تبذل شركات النفط الأجنبية قصارى جهدها للحصول على موطئ قدم مرة أخرى في الدول النفطية الكبرى، سواء باستخدام القوة العسكرية كما حدث في العراق، او باستخدام أشكال الضغوط السياسية والديبلوماسية كافة كما يحدث في الكويت. وتزامناً مع ذلك لا توافق البلدان الغربية، خصوصاً الولاياتالمتحدة، على شراء بلداننا بعض مؤسساتها المطروحة للبيع في مناقصات عالمية تشارك فيها شركات ومؤسسات من كل بلدان العالم. وفي هذا الجانب تمثل صفقة"شراء موانئ دبي"الشركة البريطانية P&O مثالاً واضحاً على ازدواج المعايير الجديدة في العلاقات الاقتصادية الدولية. ولنقارن بين الصناعة النفطية التي تسعى شركان البلدان الغربية للعودة اليها، وبين ادارة مرافق للبنية الأساسية، كالموانئ على سبيل المثال، بالصورة التي يرغب فيها ممارسو ازدواجية المعايير في العلاقات الدولية. فالنفط يشكل ثروة استراتيجية وامنية رئيسة تعتمد عليها اقتصاداتنا. وهو المحرك الاساس للنشاطات الاقتصادية كافة في بلداننا، بينما المطارات او الموانئ مرافق خدماتية عامة، الا انها على رغم اهميتها تشكل جزءاً من مرافق البنية الاساسية والتي يمكن مراقبتها وادارتها على أسس تجارية، وبعيداً من ازدواجية المعايير وبالتعاون بين المالك والبلدان المعنية، بما يخدم بقية القطاعات الاقتصادية في هذه البلدان. كما انها لا تمثل تلك الاهمية التي يمثلها النفط للاقتصادات الخليجية والعربية عموماً. والواضح ان العالم مقبل على اشكال جديدة من المنافسة الاقتصادية، التي كانت البلدان الغربية تدعو اليها لسنوات طويلة مستخدمة في ذلك اداة مهمة متمثلة في منظمة التجارة العالمية. الا ان قبول كثر من البلدان النامية، وخصوصاً في آسيا، تحدي المنافسة، ادى الى قلب مفاهيم كثيرة واعادة النظر فيها على المستوى العالمي. لقد وضعت تشريعات ولوائح جيدة في شكل عام في منظمة التجارة العالمية، حيث كان للبلدان الاوروبية دور ايجابي كبير، الى درجة جعلت الكونغرس الاميركي منقسماً تجاه موافقة الولاياتالمتحدة على اتفاق منظمة التجارة العالمية في منتصف التسعينات. ان ازدواجية المعايير الاقتصادية مسألة في غاية الاهمية، وهي تختلف عن ازدواجية المعايير السياسية، حيث لا مكان لاستخدام القوة هنا في معظم الحالات. واذا ارادت الولاياتالمتحدة المساهمة فعلاً في اقامة نظام اقتصادي حر ويتمتع بمنافسة عادلة، فعليها اعادة النظر في عدد من الادوات التي تستخدمها في علاقاتها الاقتصادية في العالم. فالحجج الخاصة بالأمن والسلامة وتهديد السلام الاجتماعي، كلها مبررات غير مقنعة لمروجيها أنفسهم. السنوات القليلة المقبلة ستكون حاسمة في العلاقات الاقتصادية الدولية. فأما ان تكون هناك حرية اقتصادية قائمة على حرية المنافسة للجميع وتستخدم فيها تشريعات منظمة التجارة العالمية كحكم محايد، واما العودة الى اساليب الحماية ووضع القيود من جديد على حرية حركة السلع والخدمات، التي بدأت بعض ملامحها في البروز مع عرقلة تنفيذ بعض الصفقات العالمية أخيراً. * خبير اقتصادي.