يتناول جوزيف ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد في 2001 ومستشار الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون منذ 1993 ومدير الدراسات السابق في البنك الدولي، في كتاب ذاع صيته وترجم في اثناء 2002، عام صدوره، الى معظم اللغات الأوروبية و بعض الآسيوية، هو "الخيبة الكبرى" أو "كبرى الخيبات" - يتناول سياسة الهيئتين الماليتين الدوليتين، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وتبعات هذه السياسة عن الأزمات المالية والاقتصادي التي عصفت، في اطار العولمة، بمعظم الدول الشيوعية، وأولها روسيا، وبالأسواق المالية الآسيوية، في 1997 - 1998. ويعزو أستاذ الاقتصاد في المدارس الأميركية الكبيرة، ومستشار السياسات الاقتصادية في الولاياتالمتحدة نفسها، وفي بلدان "نامية" انتقالها الى الرأسمالية وإعمالها ما سمي "علاجات الصدمة" كناية عن تحرير اسواقها ومبادلاتها ومرافق انتاجها فجأة، وتلك التي انفجرت في المكسيك 1994 وشرق آسيا وتتهدد البرازيل وتركيا اليوم، الى "نصائح" البنك و"مشورته"، وهي بمنزل "الأوامر" و"الفرمانات"، على قول الخبير السابق. يتقدم حرصُ البنك الدولي وصندوق النقد على سداد الديون الضخمة التي راكمتها الدول والمنشآت الخاصة الى المصارف والدول الغربية، الحرصَ على تقويم الأداء الاقتصادي الداخلي، وتمكين اقتصادات الدول المدينة من النهوض والنمو وتلبية احتياجات سكانها وفقرائها الى دخل مستقر، وتأهيل صحي وتعليمي هو الركن الذي لا تستقيم اركان التنمية إلا به. ويدين ستيغليتز إدانة قوية تقديم المعايير النقدية والمالية على المعايير الاقتصادية والاجتماعية. وينسب هذا التقديم الى إلحاق الهيئتين الدوليتين العلاقات الاقتصادية بمصالح البورصات العالمية، وتتصدرها البورصة النيويوركية في وول ستريت. وقد لا يكون تعليل صاحب "الخيبة الكبرى" سياسات البنك الدولية، القاضية بزيادة الفوائد على القروض المصرفية، وتثبيت سعر صرف العملة الوطنية بإزاء العملات الصعبة، وعصر النفقات العامة، والمترتب عليها انكماش اقتصادي عميق - افضل ما في الكتاب العتيد. فتعليل هذه السياسات بحرص البنك الدولي على استرداد الدائنين، وهم البنك نفسه والدول المسهمة، ديونهم اولاً، يكذبه او يطعن فيه افضاء هذه السياسات في معظم الأحوال الى خسارة الدائنين فرصة استرداد ديونهم، وتخبط الدول المدينة في ازمات ركود طويلة لا تؤهلها للسداد المأمول، ولا تمكنها منه. وإلى هذا، وسع بعض الاقتصادات "المنكوبة"، مثل الاقتصاد الكوري والاقتصاد الماليزي، تجاهل "فرمانات" البنك الدولي المزعومة، والنجاة بمقومات نهوضها، من غير ان يؤدي خروجها على سياسة البنك الى عظائم الأمور. وعلى خلاف التعليل المرتبك، على ما يُرى من بعد، يصف الخبير الاقتصادي بعض الأزمات الاقتصادية التي دعي الى الإسهام في تشخيصها، وفي علاجها، وصفاً دقيقاً. وسند وصفه اقتفاؤه أثر الانقلاب الذي طرأ على دور البنك الدولي، وعلى تناول العلاقات الاقتصادية العالمية غداة الحرب الثانية، من حال الى حال. فالهيئتان الماليتان الكبيرتان ولدتا في اواخر الحرب العالمية الثانية تموز/ يوليو 1944، وأوكلتا بتمويل إعمار أوروبا، وهي مسرح الحرب المدمرة الأول، وعلاج ازمات الركود العميقة كتلك التي سبقت الحرب، في 1929، وكانت اعراضها البارزة مثل التضخم والبطالة من علل استيلاء احزاب إرادوية وتعبوية، و"صراعية" تالياً، على الحكم، وسبباً مباشراً في انفجار الحرب. وتولى البنك الدولي شق الإعمار والإنماء. وتولى صندوق النقد اجراءات الاستقرار الاقتصادي، وتصدرتها معالجة البطالة. وهذه اصابت ربع اليد العاملة في الولاياتالمتحدة الأميركية، القوة الاقتصادية "العظمى" في النصف الثاني من القرن العشرين، ومضيفة مداولات بريتون وودز في ولاية هامبشاير التي ولدت الهيئتين الماليتين واتفاق التجارة الدولية على التعرفات والرسوم. واقترح الاقتصادي البريطاني الكبير جون ماينار كينز وإليه تنسب سياسة الإنفاق العام الكينزية علاج انهيار الاقتصادات العالمية، على ما حصل بين الحربين، بتغذية الطلب العام او الشامل وحثه إذا هو تقلص او انكمش، من طريق "مصطنع" وإرادي هو السلطة السياسة الوطنية وماليتها العامة. فإذا قصّرت الإجراءات النقدية، مثل سعر الفائدة وسعر الحسم وسعر الصرف، عن حفز الطلب العام، جاز للسلطة السياسية ان تتوسل بإجراءات مالية عامة من الموازنة مثل زيادة المصروفات او تقليص الضرائب وخفضها. وفي ضوء المثال الكينزي هذا اوكل الى صندوق النقد الدولي مراقبة السياسات الاقتصادية في العالم، وردّ البلدان التي يجنح اقتصادها الى الركود او الانكماش الى "جادة" النماء المستقيمة، وذلك بواسطة حفز الطلب العام. فالانهيار الاقتصادي العام بين الحربين العالميتين دل دلالة قوية وجلية على تماسك الحلقات الاقتصادية الوطنية بعضها ببعض، واغتذاء احوالها، انهياراً او ازدهاراً، بعضها من بعض. فضعف انتاج الاقتصاد الواحد، عمالةً أو أجوراً، يؤدي من طرق شتى الى تردي قدرته على الاستيراد من الاقتصاد الثاني، وهذا يلحق الكساد في الاقتصاد الثاني الذي يستورد، بدوره، من اقتصاد ثالث. وعليه، ينهض صندوق النقد الدولي، بحسب الاتفاقات التي تعهدت انشاءه، بدور حكومة اقتصادية عالمية في اطار اقتصاد عالمي متشابك المصالح والوظائف. ولا يقتصر دوره هذا على المشورة والمراقبة. فجاز له اقراض البلدان العاجزة عن حث طلبها الداخلي العام من مواردها الداخلية. فصندوق النقد الدولي هيئة عامة تشترك في تدبيرها وإداتها، أو ينبغي ان تشترك في التدبير والإدارة كل الدول الضالعة في تمويل الصندوق، وصاحبة سهم أو حصة في تمويله. وعلى هذا، يجب ان يؤدي الصندوق حساباً عن اعماله، وتقصيره، الى اصحاب الأسهم والممولين. وينبه ستيغليتز الى ان اداء الحساب يترتب على قيام الصندوق على التعاقد اولاً، وعلى الاشتراك ثانياً. ولكن اقتراع الشركاء، من مصارف مركزية ووزارات مالية يرسل الصندوق تقاريره الدورية إليها، يتفاوت ثقله بتفاوت قوة الدول الاقتصادية. ولما كان ثقل الدول الكبيرة راجحاً في كفة الميزان، وتتقدم الولاياتالمتحدة الأميركية الأثقال الأخرى، عاد إليها حق نقض فعلي تتمتع به وحدها، على خلاف مشاطرتها اربع دول اخرى حق النقض السياسي في مجلس الأمن الدولي. ولا يتفق حق النقض مع إدارة عامة، وتدبير عام. وعوض تولي الصندوق سياسة حفز الطلب العام في حلقات السلسلة العالمية المتشابكة، ومساعدة الحلقات الوطنية على توفير ادوات الحفز النقدية، يتولى الصندوق اليوم، في معظم الأحوال، سياسات تقشف قاسية. فلا يقرض إلا البلدان التي تجدّ في تقليص عجز موازناتها وزيادة رسومها وضرائبها غير المباشرة قبل المباشرة، وترفع نسبة الفوائد على القروض والودائع. وتؤول الإجراءات هذه كلها الى تقليص الاقتصاد ونشاطه و"حركته". ويخالف هذا مخالفة واضحة القصد الكينزي من انشاء الصندوق، وينقض سياسة زيادة الطلب العام بوسائل خارجية، دولية إذا اقتضت الضرورة. وتوكل سياسة الضمور والانكماش هذه، بذريعة إرساء النماء الآتي على اسس صحيحة وسليمة، الى إدارة مالية دولية لا رقيب عليها ولا حسيب من المسهمين في هيئتها، ولو على وجه "رجعي"، اي في ضوء النتائج المترتبة على سياسات الهيئة وإنفاذها. ويؤرخ ستيغليتز للانقلاب من سياسة زيادة الطلب العام، بواسطة الدولة، الى سياسة الانكماش، بواسطة السوق، فيربطه بحقبة رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر الليبرالية. ويتصل الانقلاب بكبار الموظفين الذين تولوه واضطلعوا به. فدعا مستشار روبرت ماكنمارا الاقتصادي، يوم كان ماكنمارا مديراً عاماً للبنك الدولي في 1968، الى محاربة الفقر في العالم. وكان المستشار هذا، وهو هوليس تشينري، باحثاً كبيراً في اقتصاد النماء، ومدرساً بهارفرد. فحلّت محله، في 1981، آن كروغير. وعرفت هذه، على الضد من تشينري، بأبحاثها في التجارة العالمية وعوائد الريوع. ويمثّل هذا على اثر المصادر الدراسية والبحثية في توجيه سياسة البنك الدولي وقرينه صندوق النقد ولا يغفل الكاتب، وهو شغل المنصب الذي يؤرخ لشاغليه قبله، التنويه في مقدمة كتابه بصرفه ابحاثه قبل نيله جائزة نوبل، الى الآثار السياسية المترتبة على الاستثمار وفرصه جراء التفاوت في حصول المستثمرين على المعلومات الاقتصادية والتقنية. فلا عجب إذا وجّهت السيدة كروغير سياسة البنك الدولي الى دور السوق الحرة، واضطلاعها وحدها بمهمات التنمية، على حين وجّه سلفها، هوليس تشينري، سياسة البنك نحو تلافي نقائص هذه السوق من طريق الدولة والسياسة العامة. ويعزو مدير الدراسات السابق في البنك الدولي، ونائب مديره العام، أي ستيغليتز، تواتر الأزمات الاقتصادية في العشرين سنة الأخيرة الى سياسة تحرير اسواق رأس المال التي انتهجتها الدول السبع الكبيرة، وأشار بها او حض عليها صندوق النقد الدولي قبل توفر شروطها في المئة دولة تقريباً التي اصيبت باضطراب اقتصادي ومالي. ويدلل صاحب "الخيبة الكبرى" على فداحة سياسة الصندوق من طريق مقارنتها بمنظمة التجارة الدولية. فصندوق النقد تولى من شؤون حركة رؤوس الأموال والأسواق المالية واستثمارات ما تولاه الاتفاق العام على الرسوم والتعرفات غات من امر السلع والمنتوجات وتبادلها. وبينما دامت المفاوضة على تخفيض الرسوم والتعرفات خمسين سنة تامة قبل ان يتوّجها التوقيع على ولادة منظمة التجارة العالمية في 1995- واقتصر دور المنظمة على استضافة المفاوضات والإعداد لها، ثم على مراقبة العمل بما انتهى المتفاوضون الى الاتفاق عليه - ينسب صندوق النقد الدولي الى نفسه سلطة البت في السياسة المالية والرأسمالية والاستثمارية الصالحة من غير مداولة ولا إرجاء ولا مراجعة. وأخطأ الصندوق في ثلاثة امور، على زعم ستيغليتز. أولها حضه على تحرير الأسواق المالية، و"سلعها" هي الرساميل والاستثمارات،و من غير دليل على دور هذا التحرير في حفز النماء الاقتصادي. وثانيها إكراهه الدول النامية على فتح اسواقها امام السلع الصناعية المستوردة من غير استباق آثاره المدمرة، الاجتماعية والاقتصادية، في احوال الاقتصاد المحلي. وإغفال الصندوق والبنك الدوليين المترتبات الاجتماعية عَرَض من اعراض سياسيتهما البنيوية. فهما يحتسبان في وصف الحال الاقتصادية للبلد احتياطه من العملة الصعبة، ونسبة الادخار، ونسبة التضخم، ولكنهما لا يسألان عن عدد فقرائه، ونسبتهم من جملة السكان، على ما قال في مقابلة صحافية اخيرة. وثالث الأمور التي تتصدر اخطاء الهيئتين الدوليتين فرضهما على البلدان النامية سياسات نقدية متزمتة، وآيلة الى التضييق على الطلب وزمّه، والعَلَم عليها فائدة عالية على التسليف ينجم عنها، على وجه التأكيد، نضوب فرص العمل الجديدة، في احسن الأحوال، وكساد مستفحل في أسواقها. ولما ربط المستشار الاقتصادي الهيئات التي يدرسها، ويصف اداءها وصفاً قاسياً، بإنشاء "حكومة" اقتصادية عالمية دعا إليها تشابك الحلقات الوطنية وتفاعلها الوثيقان، استدرك على نقده وملاحظاته. وأوضح انه لم يُرِد العولمة بالنقد والملاحظات. فهو لا يناهض العولمة، بل يمدح، على ما مر، منظمة التجارة العالمية. وهي من دعائم العولمة وغرض سهام مناهضيها الناشطين والمناضلين. ومرد مديح ستيغليتز منظمة التجارة العالمية يقينه بحاجة العلاقات الاقتصادية، المتعولمة اضطراراً، الى النص المعلن على معايير عمل مشتركة تجري مناقشتها بين انداد قبل التواضع عليها، وإجرائها والإلزام بها من غير إكراه. ولعل خير مثال على منافع العولمة، حين ينزل الأخذُ بها على شروط البلد وأحواله وإيقاعه، هو مرة جديدة بلدان آسيا، على رغم عثرة 1997 التي نهض منها معظم هذه البلدان وكان أسرعها الى النهوض اعصاهم على "فرمانات" صندوق النقد والبنك الدوليين، على زعم صاحب "الخيبة الكبرى". ويمثل الكاتب على متطلبات العولمة الجارية، وعلى شرائط نجاحها، بسابقة الانتقال من الأسواق المحلية الى السوق الوطنية في سوق كبيرة هي سوق الولاياتالمتحدة الأميركية في القرن التاسع عشر. ففي حقل النقل نشأت شر كات كبيرة حملتها المنافسة الوطنية على تخفيض تكلفة الانتقال بين الولايات. فعمدت الإدارة الاتحادية، الفيديرالية، الى تأخير وقع هذا التخفيض على الشركات المحلية وتخفيفه بواسطة إجراءات تناولت الحد الأدنى المقبول قانوناً للأجر، وساعات العمل، فلا تقهر قوة الشركات الكبيرة الناشئة العاملين على القبول بأجر قليل وساعات عمل مديدة - يتيحان بدورهما للشركات فرصة منافسة غير متكافئة مع الشركات المحلية. وعمدت الحكومة الاتحادية الى التشدد في شروط الإقراض والتسليف. فلا تحصل الشركات الكبيرة على تسليف رخيص، يقلل من تكلفة الاستثمار قياساً على تكلفته على الشركات المحلية. وانتهت الحكومة الاتحادية الى سن قانون يرعى تعويضات البطالة والضمانات الاجتماعية الناجمة عن الانقلاب من سوق وحدات شركات صغيرة ومستقلة، تشغل يداً عاملة كثيرة وضعيفة التأهيل، الى سوق وحدات كبيرة تسعى في انتاجية أعلى، وتقلل من تكلفة العمل. ولم يقتصر تشريع الدولة الاتحادية على الحماية الاجتماعية، ورعاية المساواة في شروط المنافسة، فتعداهما الى إنشاء أول خط برقي بين واشنطن وبالتيمور في 1842. وأنشأت الإدارة الفيديرالية جامعات ابحاث زراعية، ورعت نشر معلوماتها في اوساط المزارعين، وحثت هؤلاء على تثمير معلوماتهم في بلورة طرائق عمل مناسبة، وتعهدت نشر الطرائق المستحدثة هذه حيث يفيد نشرها واختبارها. فاجتمعت من الإجراءات "المتكوكبة" هذه المتضافر بعضها مع بعض والمتكاملة سياسة توزيع الأعباء والتكلفة على نحو غير مباشر. واضطلعت الإدارة الاتحادية بحصة من الأعباء والتكلفة، الى اضطلاعها بدور تنظيمي وتشريعي تناول شرائط المنافسة، ورعى اختلافها وتفاوت اعبائها. فتعمد الدور التنظيمي والتشريعي تقييد انتفاع القوي من قوته بإزاء من هم اقل قوة، ولكن شريطة ألا يؤدي القيد هذا الى الضرر بمصلحة المستهلكين، وهم عموم المواطنين المنتقلين، وألا يلجم النازع الى تخفيض تكلفة السلعة الانتقال من طريق عقلنة عوامل انتاجها. وليس التمثيل بصناعة النقل مصادفة. فالعولمة اليوم، في وجه بارز من وجوهها، إنما هي صنو تدنٍ متصل في تكلفة الانتقال والاتصال، أو المواصلات والاتصالات. وحرية "انتقال"، أو نقل السلع والخدمات ورؤوس الأموال، في انتظار حرية انتقال اليد العاملة العسيرة الإقرار اليوم، بين البلدان "البعيدة"، هذه الحرية هي من شعارات العولمة ووقائعها البارزة. ولا شك في ان ملابسات العولمة أعقد بكثير من ملابسات نشأة الاقتصادات الوطنية عن الأطر المحلية والبلدية. ولعل افدح نقائص نشوء العولمة عن الاقتصادات الوطنية، وذلك في الأحوال التي انعقدت فيها اقتصادات وطنية متماسكة، "نقص" الحكومة الاقتصادية العالمية، وولايتها من شؤون التشريع والتنظيم والشرائط، الدولية العامة، ما تولته الحكومات الوطنية والدول الوطنية أمثالها ونظائرها. ونائب حاكم البنك الدولي السابق على يقين من ان الإدارة والتدبير الدوليين المناسبين يفترضان ما افترضه التدبير والإدارة الوطنيان في القرن التاسع عشر الأميركي من حق المواطنين والمكلفين سداد الضرائب والرسوم في الإدلاء برأيهم في الإجراءات التي تعود أو تدور نتائجها عليهم. وانتقاده انفراد دولة واحدة، وعدد قليل من الموظفين "الإيديولوجيين"، على ما ينعتهم، بالقرار والتدبير إنما يصدر عن احتذائه على المثال "البرلماني" والحكومي الوطني في المضمار الدولي والعلاقات بين الدول والأمم، على رغم ما بين المضمارين من فرق. فهو لا يشك في ان ما صلح في المضمار والإطار الوطنيين - وينبغي زيادة: الديموقراطيين والرأسماليين الليبراليين وهذا تخصيص ثقيل - يصلح في المضمار والإطار الدوليين. فيقود توحيد المثالين، او المضمارين، جوزيف ستيغليتز الى بعض التعنت في وصف احوال البلدان التي يصف أثر علاج صندوق النقد الدولي فيها، فهو يعزو الأزمة الأرجنتينية برمتها الى "نصائح" البنك الدولي وتوأمه صندوق النقد. ويلخص المشكلة الأرجنتينية، منذ 1995 الى انهيار اواخر 2001، بجمعها بين بطالة من رقمين تفوق 9،9 في المئة من اليد العاملة ونسبة تضخم قليلة هي ثمرة سياسة الصندوق الانكماشية رفع سعر الفائدة على التسليف، حماية سعر الصرف، مراقبة السيولة.... فنجم عن استطالة البطالة ودوامها انكماش الاستهلاك. وأدى هذا بدوره الى تناقص الاستثمار، والى الإيداع في المصارف وسندات الخزينة وصناديق الاستثمار الأجنبية، فأدت الحلقة المفرغة و"المرذولة"، على قول الأعاجم، الى الانهيار. والحق ان ستيغليتز يقلل من شأن استكانة المجتمع الأرجنتيني، بطبقاته كلها، طوال عقد التسعينات، الى ايهام كارلوس منعم، الرئيس السابق، الناخبين والعاملين جميعاً بحقيقة تقريب سعر صرف العملة الأرجنتينية من الدولار الأميركي، وبحقيقة توحيد السعرين. فكانت البطالة الأرجنتينية ثمن الفرق، المنكر والمسكوت عنه والمتواطأ عليه، بين سعر صرف العملتين. وفي الأثناء، اي طوال سبعة اعوام، كان الاقتصاد الأرجنتيني يسدد الفرق المتعاظم هذا من مادته الحية، اي من مرافق الإنتاج وفرص العمل. وجدد الناخبون ولاية رئيسهم، وصاحب وهمهم، عرفاناً بجميله الاقتصادي. وفي الأثناء كانت الاستثمارات تلجأ الى الخارج، أو تفيء الى حضن الدين العام الدافئ أو تفعل الأمرين. ولا شك في ان مديح البنك والصندوق الدوليين "سياسة القمر" هذه، على ما سمى الاقتصاديون التشيخيون والبولنديون المعارضون السياسة الشيوعية الإصلاحية والمقارنة بين بولندا السبعينات وبين ارجنتين التسعينات ليست خلفاً، رمى ستراً على العورة، وأرجأ النظر إليها ولكنه لم يصنعها. وعلى نحو قريبه من تشخيص حال الأرجنتين يصف ستيغليتز حال اثيوبيا، على بعد الشقة بين الحالين. فيمدح ميليس زيناوي، الرئيس الاثيوبي، مديحاً يكاد يكون غير متحفظ. فينسب إليه سن دستور يرسي اللامركزية على اسس قانونية صلبة، تقرب المواطنين من السلطة، ويقر للولايات بالحق في الانفصال مشروط باقتراع ديموقراطي. فينشأ عن هذا اضطرار النخب في اديس ابابا الى اعتبار آراء المواطنين، خشية اقتراعهم على طلب انفصال ديموقراطي. ويمثل الخبير الاقتصادي علي مقالته بالانفصال الاريتري في 1993. ولكنه يسهو عن ان استقلال اريتريا توج حرباً ضارية دامت اثنتين وثلاثين سنة تامة غير منقوصة! وإقرار الدستور الإثيوبي على الشاكلة التي أقر عليها إنما هو وليد الحرب الإريترية الطويلة، ووأدها "اشتراكية" منغيستو مريم الامبراطورية، وانتصارها على الفيلق الكوبي "الشقيق. وليست الملاحظة السياسية هذه، ومن قبلها الملاحظة الاجتماعية على الأرجنتين، إلا من قبيل التنبيه على بعض نتائج توحيد المثالين، الوطني الأوروبي والدولي. فميل الخبير والمستشار الى توحيد المثالين يحمله على تجميل الحال الوطنية، الأرجنتينية والاثيوبية والكورية والأندونيسية والروسية وغيرها، وتحسينها وتنزيهها، فيتسنى له تقبيح سياسة الصندوق والبنك الدوليين وتحميلها اوزار الأزمات والعثرات والمصائب. والإنحاء باللوم على الصندوق والبنك يستقيم ما قدر اللائم على الوقوع على علة مفهومة لسياستهما. فدينهما بدِين حرية السوق يبدو معللاً وسائغاً إذا عاد الدين هذا على المصالح المالية التي تصدر الهيئتان عنها، وهي مصالح الأسواق المالية الأميركية، على ما يفترض الخبير الكاتب، بالمنفعة. ولكن ستيغليتز، في اعقاب وصفه "الملحمة" الاثيوبية التي يقر بأن أصولها المالية لا تبلغ أصول مصرف اميركي واحد في مدينة متوسطة، يعرج على سياسة البنك والصندوق الأميركي الداخلية. فيروي ان البنك الدولي اشار على الحكومة الأميركية، وعلى الاحتياط الفيديرالي على وجه التخصيص، حين بلغت نسبة البطالة 6 في المئة، بتدارك التضخم الذي توقع البنك الدولي ان ينشأ عن اتساع قصعة الاستهلاك جراء زيادة المداخيل في حوزة العاملين، وذلك من طريق رفع سعر الفائدة على الودائع والتسليفات: فيذهب فائض المداخيل الى الإدخار طمعاً في فوائده، وتحجم الشركات الكبيرة عن الاستقراض بأسعار فائدة عالية، وتسكن "النشوة" التي ينشأ التضخم عنها، وندد بها ألن غرينسبان، حاكم الاحتياط الفيديرالي. وبلغت نسبة البطالة 4 في المئة، على ما يذكر ستيغليتز منتصراً، ولم يستأنف التضخم قضمه المدمر للمداخيل والتسليفات، على خلاف توقع البنك الدولي، وبحسب ما توقع المجلس الاستشاري الاقتصادي، وعلى رأسه كاتبنا، أي ستيغليتز. ف"انتصار" المستشار الاقتصادي في معركته العلمية يتركه خاوي الوفاض من التعليل. فأين مصلحة السوق المالية الأميركية في "كسر" النماء الاقتصادي الأميركي في الثلث الأخير من تسعينات القرن الماضي جراء زيادة الفائدة على الودائع والتسليفات؟ ففي السنوات هذه بلغت عوائد الاستثمار في الأسهم التقليدية والتكنولوجية، وفي صناديق نهاية الخدمة والتأمين، ذرى عالية. ولو عمدت الحكومة الأميركية الى زيادة الفوائد على سندات الخزينة، وعلى التسليف، على ما نصح البنك، لعاد قرارها على الأسواق المالية بخسائر عظيمة. فلم تصدر المشورة، والحال هذه، عن "المصلحة" الرأسمالية، على ما يسرع المنددون بالرأسمالية الى الاستنتاج. وستيغليتز ليس منهم. وعلى نحو قريب من هذا، يلوح الخبير والكاتب بقوة الصندوق والبنك، ويعزو إليها إذعان معظم الدول المائة التي عثرت بها القدم الاقتصادية في غضون العقدين الأخيرين، وطلبت العون من الغول الأعمى. ولكنه، من وجه آخر، يمثل على ضعف الهيئتين بأمثلة كثيرة ومتفرقة. فإلى الولاياتالمتحدة الأميركية التي لم تذعن لنصيحة زيادة الفائدة، وهذه قد يكون السبب في امتناعها قوتها، لم تذعن اثيوبيا، على ما مر للتو. وهي ليست، بديهة، آية عظمى على القوة. وعلى رغم المثل الاثيوبي، أذعنت كينيا، وحصدت افلاس اربعة عشر مصرفاً تجارياً ومحلياً ثمرة إذعانها. وتمردت كوريا، إبان ازمة 1997- 1998، على نصائح البنك والصندوق، وهي "فرمانات" همايونية بحسب الاقتصادي الرئيس السابق. وخرجت من الأزمة، وداوت معظم اعراضها، قبل الدول الطائعة. ولم يملك لا صندوق النقد ولا البنك الدولي، الاقتصاص منها على خروجها على الطاعة الرأسمالية. ويعزو الكاتب انصياع اندونيسيا، على خلاف استقلال كوريا، الى تلويح البنك بالإحجام عن إمدادها بالسيولة. ويترك علةَ الأمرين في الظرف الواحد، وهي قوة البنيان الداخلي الكوري وضعف الأندونيسي، من غير تعليل. وتترجح اقتراحات الكاتب في شأن دور صندوق النقد بين حدين. فهو يرفض السياسة التي تنصب الصندوق دائناً اخيراً للبلدان الناضبة السيولة. وينبه احد المعلقين الى حمل هذه السياسة على جون م. كينز، ابي المذهب الذي يدين به ستيغليتز. وهو يميل الى اضطلاع البنك الدولي بوظيفة وكيل تفليسة الاقتصادات المتعثرة، على مثال قانون الشركات الأميركي. والسيدة آن كروغير، وهي تنوب اليوم عن مدير الصندوق، ومر هجاء ستيغليتز اياها، تميل الى الجهة التي يميل إليها صاحبنا وخصمها "العلمي". والحق ان الحالين ليسا واحداً، ولا يصح حملهما على الوحدة. فالإفلاس يصح في حال العجز من السداد. اما الدين فيفترض سلامة العوامل الاقتصادية الأساس. وعلى هذا لا تستوي اندونيسيا وكوريا: فالأولى وقعت في العجز عن السداد، اما الثانية فاحتاجت الى سيولة نقدية عاجلة. ولا تستوي الولاياتالمتحدةواثيوبيا. وقد لا يستوي حمل المثالين الدولي والوطني على واحد. * كاتب لبناني.