من المعلوم أن كثيراً من بلدان الجنوب، أخفقت منذ حصولها على الاستقلال وحتى هذه اللحظة في عملية بناء الدولة، بمعنى وجود مؤسسة قادرة على الاضطلاع بمهمام ووظائف الدولة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية وغيرها. الأمر الذي أصبحت معه هذه البلدان تعاني اختلالات وتشوهات عميقة في بنياتها المختلفة، وبخاصة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي مشروعيتها كدولة أضحت مثاراً للتساؤل. ولا جدال في أن بوادر أزمة الدولة في الجنوب بدأت تتضح معالمها مع تفاقم أزمة المديونية الدولية في كثير منها، والتي انفجرت مع إعلان المكسيك في العام 1982 عدم قدرتها على سداد ديونها. وعلى رغم أنه تفاعلت عناصر عدة في إحداث هذه الأزمة، غير أن العامل الأكثر أهمية يظل كامناً في سياسات الإقراض التي قامت بها البنوك التجارية العالمية والتي لم تستند إلى قواعد الاحتراس المالي والضمانات المصرفية التقليدية، وإنما كان هدفها ينحصر فقط في تعريف ما لديها من فوائض مالية ضخمة، وتحقيق أرباح خيالية من جراء هذا الإقراض من دون مراعاة للقدرة الفعلية للبلدان المقترضة على السداد. ولذلك قامت هذه البنوك بتشجيع تلك البلدان النامية، وبخاصة ذات الدخل المتوسط منها على الاقتراض التجاري لعلاج مشكلات موازين مدفوعاتها، ما دفع بدوره كثيراً من الحكومات المحدودة الكفاية في بلدان العالم الثالث إلى الإقتراض، حتى أن مديونية الدول النامية ارتفعت من 67 بليون دولار العام 1971 إلى 626 بليون دولار العام 1982، ثم إلى 1450 بليون دولار في العام 1990. وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه الأزمة إلى تعاظم دور المؤسسات الاقتصادية الدولية ممثلة في صندوق النقد والبنك الدوليين في إدارة الاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي اتضحت معالمه بدرجة أكبر مع إنشاء منظمة التجارة العالمية في العام 1995، لتشير بوضوح إلى تقسيم ثلاثي جديد للسلطة يستند إلى التعاون الوثيق في ما بين هذه الأركان الثلاثة للنظام الاقتصادي الدولي المعاصر في الإشراف على السياسات الاقتصادية للبلدان النامية، وجاء ذلك في الوقت الذي تصاعدت قوة التيار الليبرالي الجديد، والذي تزعمه كل من الرئيس ريغان والسيدة تاتشر في أوائل الثمانينات والذي تبنى الدعوة إلى تقليص دور الدولة والعودة إلى نظام السوق وبيع القطاع العام في ما عرف بسياسة التخصيص، وهي السياسة التي انتقلت في ما بعد من خلال صندوق النقد الدولي إلى بلدان العالم الثالث وغيرها من الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية بعد انهيار المنظمة الشيوعية فيها عقب انتهاء الحرب الباردة، وقام الصندوق في إطار هذه السياسة بمساعدة البلدان النامية على إعادة جدولة ديونها، وتقديم قروض لها مع إلزامها في الوقت نفسه عدداً من السياسات الاقتصادية في ما عرف بالمشروطية. كما أن سياسات الإصلاح الاقتصادي التي اتبعت من قبل بلدان العالم الثالث حظيت في بداياتها برضاء الرأي العام في كثير منها، وذلك بحسب ما تكشف عنه الدراسات الواردة في المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية الصادرة عن اليونسكو في آذار مارس 2000 تحت عنوان "الأدوار المتغيرة للدولة". إذ ساهمت هذه السياسات في تحقيق الاستقرار النقدي وخفض معدلات التضخم والعجز في الموازنة، الأمر الذي كانت من نتيجته إعادة انتخاب الكثير من الحكومات في هذه البلدان، مثلما حدث في الأرجنتين مع كارلوس منعم. وأسفرت نتائج استطلاع للرأي حول هذا الأمر في ثماني دول في أميركا اللاتينية وهي: الارجنتين، البرازيل، تشيلي، المكسيك، باراغواي، بيرو، اوروغواي، فنزويلا، عن تأييد ساحق في كل هذه البلدان، باستثناء أوروغواي، لسياسات تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي. إذ رأت العينات الخاضعة للاستطلاع أن القطاع الخاص يقوم بإدارة أفضل لشركات الاتصالات السلكية واللاسلكية، ومرافق الطاقة والمياه والصرف الصحي. ولكن على الجانب الآخر، كشف هذا الاستطلاع للرأي عن تأييد ساحق لبقاء الخدمات الاجتماعية، كالصحة والتعليم، تحت سيادة الدولة وكذلك الصناعات الأساسية، وبخاصة النفط لأهميته الاستراتيجية. هذا ويشار في هذا الصدد أيضاً إلى ما تمخض عن الاصلاحات الاقتصادية في كثير من بلدان الجنوب من دفع لقوى الاصلاح السياسي في كثير منها، وبخاصة في افريقيا جنوب الصحراء، حيث انهار كثير من قلاع الديكتاتورية والحكم الشمولي. غير أنه على الجانب الآخر فقد كان لهذه السياسات الاقتصادية المفروضة من قبل المؤسسات المالية الدولية على بلدان الجنوب آثارها الاجتماعية وأحياناً الاقتصادية الوخيمة، الأمر الذي جعلها عرضة للانتقاد، ليس فقط من جانب البلدان النامية، ولكن أيضاً من جانب الكثير من مفكري البلدان المتقدمة، حتى أن هنري كسينجر نفسه انتقد هذه السياسات، محذراً من أن ذلك يتم النظر إليه عادة من قبل شعوب بلدان الجنوب على أنه استعمار جديد يضع مصالح الدول الدائنة فوق مصالح الشعوب التي تطبق عليها هذه الاجراءات التقشفية الاقتصادية. ولذلك يخلص هنري كسينجر إلى المطالبة بنظام اقتصادي دولي يتعامل بتوازن أكبر مع النقيضين: حقوق المقرضين، والحاجات الاجتماعية للمقترضين أنفسهم. وبالمثل فإن معايير العمالة والبيئة ينبغي أن يتم التعبير عنها من قبل البلدان المتقدمة بشكل لا يخنق حرية التجارة ولا يعطي الدول النامية الإحساس بأن البلدان المتقدمة تسعى إلى قتل قدراتها التنافسية في ميدان التجارة. وفي هذا الخصوص تكشف الدراسات المعنية بدراسة الآثار السلبية لبرامج الإصلاح الاقتصادي عن أن هذه البرامج من المتوقع لها أن تغذي التربة لتوترات اجتماعية متزايدة، بسبب ما نجم عنها، ولا يزال، من إسقاط لشرائح إجتماعية متزايدة من السكان خارج نطاق الاقتصاد الرسمي أو المنظمة، علاوة على تعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع. وليس أدل على ذلك مما أشار إليه بعض الدراسات الخاصة بتوزيع الثروة في عدد من دول أميركا اللاتينية مثل البرازيلوالأرجنتينوتشيليوالمكسيك، من أن الطبقات الدنيا في هذه الدول والتي تمثل 40 في المئة من المجتمع كانت حصتها من الدخل الإجمالي للمجتمع في العام 1980 تتراوح ما بين 12 و20 في المئة، أما في العام 1994 فقد انخفضت لتصل بالكاد الى 12 في المئة في البرازيل، وتدنت ما بين 13 و17 في المئة في كل من تشيليوالأرجنتينوالمكسيك، وذلك في الوقت الذي ازدادت حصة الطبقة العليا في المجتمع، والتي لا تمثل سوى 10 في المئة من السكان بنسبة 4 في المئة من اجمالي الدخل القومي في الارجنتين و3 في المئة في كل من تشيليوالبرازيلي، و8 في المئة في المكسيك. كما تشير الدراسات التي عنيت بدرس الآثار السلبية لهذه السياسات الاقتصادية في بلدان افريقيا جنوب الصحراء إلى أن هذه السياسات لم تؤد سوى إلى تنشيط قطاعات الاقتصاد المتقدمة وتدمير البنيان الزراعي والاقتصادي الرعوي في هذه البلدان. فعلى سبيل المثال أدت هذه السياسات في الصومال إلى تدمير البنية التحتية الزراعية، والرعوية فيها، الأمر الذي نجم عنه تحلل كل النسيج الاجتماعي للاقتصاد الرعوي، إذ ترتب على خصخصة قطاع الخدمات البيطرية، هلاك القطعان والرعاة الرحل، بعد أن كانت الماشية حتى العام 1983 تمثل نحو 80 في المئة من عائدات التصدير، وكان ذلك الأمر مفيداً للجماعة الاوروبية، واستراليا، إذ اتجهت السعودية إلى سد حاجاتها من الماشية من هذه البلدان بدلاً من الصومال. وما ينطبق على الصومال ينطبق على غربها من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، إذ فُرض على هذه الدول زراعة المحاصيل النقدية التصديرية مثل التبغ، والتخلي عن المحاصيل الغذائية، الأمر الذي تمخضت عنه زيادة الواردات من القمح الأميركي والاوروبي. بل إن سياسات التكيف الهيكلي استخدمت لتحقيق أهداف سياسية، أي كوسيلة للضغط على بلدان الجنوب. والمثال البارز لذلك يتعلق بدولة فيتنام التي أجبرت حكومتها على تحمل فاتورة الديون المتعددة الاطراف التي استدانها نظام سايغون قبل العام 1975، الذي كانت تسانده الولاياتالمتحدة، وتم ذلك بمقتضى اتفاق سري في العام 1993، وهو اتفاق كان موازياً لمؤتمر المانحين الذي عقد في باريس في تشرين الثاني نوفمبر عن ذلك العام، لدعم اصلاحات السوق في فيتنام. وعلى هذا فإنه بدلاً من أن تعوض الولاياتالمتحدةفيتنام، قامت الاخيرة بموجب هذا الاتفاق السري بتعويض الولاياتالمتحدة عن الحرب. وفي مصر لا يختلف الوضع عنه في البلدان السابق ذكرها، إذ يرى المعارضون لسياسات التكيف الهيكلي التي يقودها صندوق النقد الدولي أنها لم تؤد بفضل تركيزها على تهميش الطلب الكلي سوى إلى تكريس واقع الكساد، والبطالة وتدهور أوضاع مختلف الفئات الاجتماعية. ولذلك فليس غريباً أن يتحول عدد كبير من أبناء الطبقة المتوسطة إلى قوى المعارضة المنظمة في شكل احزاب سياسية معلنة، أو في شكل جماعات سياسية غير معترف بها بسبب منهج العنف الذي تتبناه. ومن هذا المنطلق فإن الليبرالية الموجودة في مصر هي أقرب إلى الفوضوية في ضوء رؤيتها المتطرفة لدور الدولة. وعلى هذا الأساس فإن ما ذهب إليه ميشيل تشوسودوفيسكي في مؤلفه "عولمة الفقر" من وصفه للدور السلبي الذي لعبته قوى السوق في بلدان الجنوب من أنه لم يثبت لها في أي وقت في التاريخ أن لعبت مثل هذا الدور في تشكيل مصير دول ذات سيادة، يعتبر صحيحاً إلى حد كبير، في ضوء النتائج الاقتصادية والاجتماعية لهذه السياسات الاقتصادية. إذ أن الاداء الاقتصادي لهذه البلدان يكشف عن فشل سياسات التكيف الهيكلي أكثر منه فشلاً للتكيف من جانب هذه البلدان، الأمر الذي يوضح زيف التبرير الذي ترفعه مؤسسات بريتون وودز لوجود مثل هذه الآثار تحت شعار "حجة لولا ذلك" بمعنى أن الوضع سيئ، لكنه كان سيكون أسوأ لو لم تعتمد تدابير التكيف الهيكلي. وللخروج من هذا المأزق، فإن على بلدان الجنوب التصدي لثلاثة تحديات أساسية، تمثل في الوقت نفسه فرصاً لها لإعادة تأكيد مشروعيتها في الداخل والخارج. أولاً: التحديات السياسية، وتتمثل بصفة اساسية في ترسيخ البنيان الديموقراطي الذي شهده الكثير من هذه البلدان منذ انتهاء الحرب الباردة، وما يتطلبه ذلك من إعلاء قيم المشاركة السياسية، واستكمال الأطر الدستورية والقانونية للابنية والمؤسسات التشريعية والنيابية للاضطلاع بدورها في حماية هذا الصرح الديموقراطي الوليد. وفي هذا الخصوص لا ينبغي التعلل بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية للحيلولة دون التبني الكامل لقيم الديموقراطية وفي مقدمها حق التداول السلمي للسلطة. إذ أوضح مهرجان أصيلة الأخير في المغرب بشأن الديموقراطية في بلدان الجنوب أن الديموقراطية مفهوم له دلالته السياسية الواحدة، سواء في الشمال أو في الجنوب، وعلى هذا فإنه بمقدار تمسك بلدان الجنوب بالقيم الجوهرية للديموقراطية، والعمل على إنجاحها، تتمكن هذه البلدان من تأكيد شرعيتها ومشروعيتها في آن واحد في الداخل والخارج، والتي هي بمثابة الشرط الضروري لضمان نجاح أية عملية حقيقية للتنمية فيها. ثانياً: التحديات الاقتصادية، وتتمثل بصفة أساسية في إعادة صوغ بلدان الجنوب لدورها الاقتصادي في ضوء النتائج السلبية لسياسات التحرر الاقتصادي. إذ أن الانسحاب غير المدروس من الساحة الاقتصادية لم يؤد سوى إلى إضعاف القدرة التنافسية للصناعات الوطنية في السوق المحلية والعالمية على حد سواء، خصوصاً في ضوء ما يتسم به النظام الاقتصادي الدولي من سمة جديدة تتمثل في ظاهرة الاندماج في ما بين اقتصاديات البلدان المتقدمة عبر شركاتها ومؤسساتها العملاقة، الامر الذي يعني إحكام السيطرة على الاسواق، ما يستدعي من صانع القرار الاقتصادي، في بلدان الجنوب إعادة النظر في سياساته الاقتصادية، بما يستوعب الآثار المترتبة على وجود الشركات فوق العملاقة. ومن هنا قد لا يكون من قبيل المبالغة القول إن الاستقلال الاقتصادي للدولة سوف يفهم في طبيعة جديدة تتلاءم مع وجود الشركات فوق العملاقة، وذلك في ضوء ما سوف يسفر عن هذه الشركات من تكريس لمواقع التبعية الاقتصادية والتكنولوجية وضعف القدرة التنافسية للبلدان النامية. والواقع أن خطورة التحولات الاقتصادية العالمية بدأت تتضح معالمها بالنسبة إلى الدول النامية في جوانب عدة أهمها: أ- ان قدرة بلدان الجنوب على تضمين مصالحها وأهدافها الاقتصادية في المفاوضات الاقتصادية الدولية المتعددة الاطراف أصبحت محدودة، وليس أدل على ذلك من أن هذه البلدان فشلت خلال المؤتمر الوزاري الثالث لمنظمة التجارة العالمية الذي انعقد في سياتل العام 1999 في تضمين مطالبها الخاصة بالسلع الزراعية والمنسوجات، نظراً إلى العراقيل التي لا تزال البلدان المتقدمة تضعها أمام صادرات الدول النامية منها. هذا بالإضافة إلى أن النتائج النهائية لهذه المفاوضات كانت تأتي دائماً عاكسة لمصالح البلدان المتقدمة، فقد نجحت البلدان المتقدمة في جولة اوروغواي العام 1993 في خداع البلدان النامية بإقناعها بقبول وضع حقوق الملكية الفكرية داخل إطار منظمة التجارة العالمية، على رغم وضوح عدم انتمائها الى قضايا التجارة، وكان من الممكن أن تنجح هذه الدول المتقدمة أيضاً خلال مؤتمر سياتل في خداع الدول النامية بإدراج المعايير الخاصة بالعمالة والبيئة في منظمة التجارة العالمية وربطها بتحرير التجارة لولا وقوف البلدان النامية وحدة واحدة ضد هذا المقترح، مما ادى الى انفضاض مؤتمر سياتل من دون إصدار بيان ختامي متفق عليه بين وفود البلدان المشاركة. ناهيك عما تكشف عنه أوراق منظمة التجارة العالمية من الانعكاسات الايجابية التي ستترتب على استكمال تنفيذ اتفاقات دورة اوروغواي مع حلول العام 2005 بالنسبة إلى الاقتصاديات المتقدمة، إذ أنها ستؤدي إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة على سبيل المثال الى معدلات سنوية تتراوح بين 125 و250 بليون دولار، وهو ما يعني زيادة القوة الشرائية للاسرة الاميركية بما يراوح بين 1500 و3000 دولار سنوياً. ب - ان قدرة بلدان الجنوب على التعامل مع معطيات تحديد التجارة العالمية، وبخاصة ما يتعلق منها بانتقال رؤوس الاموال، سواء على مستوى حركة رأس المال أو على مستوى التدفقات الاستثمارية، تعتبر أيضاً محدودة للغاية، نظراً إلى ما يتطلبه ذلك من توافر اقتصاد كبير ومتنوع يملك أسواق رأس مال متقدمة ونظاماً قانونياً تجارياً متكاملاً. وهو ما يعتبر غير متوافر لدى كثير من بلدان الجنوب التي تتسم بدلاً من ذلك بوجود نظم اقتصادية واجتماعية هشّة، ولعل هذا ما دفع هنري كسينجر الى القول إن الشركات المحلية في الدول النامية ستجد نفسها يوماً بعد يوم مندفعة نحو الشعور بحتمية الاندماج مع الشركات المتعددة الجنسية ذات النفاذ الأكبر إلى الاسواق العالمية، أما الشركات الرافضة للاندماج فلن تكون قادرة على التعامل مع العولمة وجني ثمارها. وعلى هذا فإن بلدان الجنوب مطالبة بحتمية تعزيز هياكلها الانتاجية الاقتصادية بالمقدار الذي يدعم قدرة صناعتها الوطنية على الصمود في وجه المنافسة العالمية في السوق المحلية والعالمية على السواء. ثالثاً: التحديات الاجتماعية، وتتمثل بصفة أساسية في منظومة الأمان الاجتماعي التي ينبغي أن تضطلع بها الدولة في الجنوب إزاء مواطنيها، بالمقدار الذي يعمّق من قيم الولاء والمواطنة في المجتمع، وذلك في ضوء الآثار السلبية التي نجمت عن برامج التكيف الهيكلي من تسريح لكثير من العمالة وتدني مستوى الخدمات الاجتماعية المقدمة للمواطنين. ولا ينبغي أن يفهم أن ذلك قاصر على البلدان النامية فقط، وإنما البلدان المتقدمة أيضاً. ويكفي في هذا الخصوص أن نشير الى الدولة الألمانية، إذ قامت حكومتها عقب توحيد المانيا العام 1990 بتمويل تحسينات البنية التحتية وسد حاجات الضمان الاجتماعي في المانياالشرقية بتحويل مدفوعات ضخمة من المانيا الغربية الى الشرقية بلغت حوالى 840 مليار مارك خلال الفترة 1991 - 1995، منها 556 مليار مارك وردت من الميزانية الاتحادية مباشرة، وفي الموازنة الجديدة للعام 1999 - 2000 خصصت الحكومة نحو 100 بليون مارك من التحويلات العامة للشرق. وعلى هذا فإن معالجة الدولة في الجنوب للآثار الاجتماعية السلبية الناجمة عن سياسات التحرر الاقتصادي إنما تعتبر من قبيل مهامها ومسؤولياتها الاساسية أمام مواطنيها. وفي هذا الشأن تبرز حقيقة اساسية تتمثل في اهمية إدراك قادة بلدان الجنوب للقيمة الاجتماعية والتاريخية والخصائص الاقتصادية لشعوبهم في اختيارهم استراتيجيات الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي المراد تنفيذها. ولعل من الاستراتيجيات المهمة للإصلاح الاقتصادي والتي حظيت بإشادة الكثير من بلدان العالم ومؤسسات التمويل الدولية التجربة المصرية القائمة على التدرج في تطبيق الاصلاح الاقتصادي مع مراعاة البعد الاجتماعي قدر الامكان، من خلال إنشاء بعض الآليات التي تكفل الحد من الآثار السلبية لتنفيذ برامج التكيف الهيكلي من قبيل الصندوق الاجتماعي للتنمية، وأخيراً معاش الضمان الاجتماعي الشهري لنحو مليون اسرة بلا عائل، ومساعدة نحو 100 الف طالب جامعي سنوياً بقرض في صورة منحة لا ترد، ناهيك عن استمرار الدعم للكثير من السلع الاساسية، الأمر الذي أسهم في التخفيف من حدة التوترات الاجتماعية وبقائها في الحدود الآمنة سياسياً وأمنياً واجتماعياً. نخلص من ذلك إلى أن هناك ضرورة أكثر من أي وقت مضى لوجود دولة قوية في بلدان الجنوب لمواجهة جبروت السوق وضبط التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية، ولكن هذه الدولة القوية ليست هي نفسها الدولة السلطوية التي فقدت جدواها باتباع سياسات التحرر الاقتصادي والتي كانت محتكرة في الماضي لمصادر القوى السياسية والاقتصادية، وإنما هي الدولة التي تستمد قوتها من حكم القانون وتأكيد فاعليته في مواجهة كل القوى الاجتماعية كافة، أي ان هناك حاجة إلى دولة قوية رشيدة تحكم ب"ديكتاتورية القانون" ويتحقق من خلالها التوازن بين سلطة الدولة والمجتمع. * عضو مجلس الشعب في البرلمان المصري سابقاًً.