عقدت منظمة التجارة العالمية ورشة عمل إقليمية في عمان مطلع الشهر الجاري تحت عنوان "اتفاقية الشراء الحكومية" تهدف إلى توفير منبر للخبراء العاملين في مجال التجارة وتنظيم المشتريات الخارجية لتبادل المعلومات حول النشاطات التجارية الوطنية والثنائية والإقليمية والمتعددة والمبادرات الأخرى ذات العلاقة بالمشتريات الحكومية. كما تهدف إلى نشر الوعي بأهمية ودور السياسات الحكومية في هذا المجال وتأثيرها في البلدان العربية والشرق الأوسط وفي نظام التجارة المتعددة الأطراف. وقعت أول اتفاقية شراء حكومية عام 1979 ودخلت حيز التنفيذ عام 1981 ومددت في 1987. وتمخضت عن ذلك في ما بعد سلسلة من المفاوضات والتعديلات والبروتوكولات المكملة 1989، 1994، 1996، 1997، 2000. والاتفاقية غير ملزمة وتضم 37 دولة من بينها إسرائيل فيما الأردن في طريقه للانضمام. وتدعو إلى اعتماد نظام مشتريات مفتوح وواضح بين أسواق مشترية وأخرى مزودة للسلع والخدمات. وتشمل المشتريات: مشتريات القطاع العام في مجال التجهيز والأعمال والخدمات ومشتريات القطاعات الحكومية ذات النفع العام الماء، الطاقة، النقل، والبريد. واستثنت المشتريات الدفاعية والأمنية وذات الطبيعة الخاصة من الاتفاقية التي تتضمن قواعد خاصة هدفها ضمان حقوق الأطراف المتعاقدة والتزاماتها ووسائل إقليمية ودولية غير ملزمة لمعالجة الجوانب الدولية للمشتريات الدولية جرى تضمينها في "نموذج للمشتريات" يعتبر في حقيقته إرشادياً يساعد الحكومات المعنية على إبرام عقود دولية تتسم بالوضوح والكفاية. ويكتسب هذا النشاط أهمية بالغة على المستوى الدولي والوطني. ففي نهاية التسعينات بلغت المشتريات الحكومية حوالى 30 في المئة من مجموع المشتريات الدولية السنوية وسبعة في المئة من اجمالي الناتج المحلي العالمي، اذ تجاوزت قيمتها 2000 بليون دولار. أما على المستوى الوطني فتمثل حصة مهمة من مجموع النفقات الحكومية والنشاط الاقتصادي العام إذا ما أخذنا في الاعتبار محدودية موارد القطاع العام. كما أن لتلك المشتريات أهمية سياسية بالغة، اذ ان الكثير من الحكومات تستخدمها لتحقيق أهداف وطنية بعيدة عن معيار الاستخدام الأفضل للأموال المخصصة لتلك المشتريات. وتأتي الدعوة الى الافادة من اتفاقية الشراء الحكومية في إطار متطلبات الاندماج في الاقتصاد العالمي وضرورة تحرير الاقتصاديات الوطنية من أي قيود مفروضة مفتعلة. وتهدف الاتفاقية إلى تحقيق الشفافية في المعلومات والمنافسة العادلة والأمانة في التعامل والكفاية في تحقيق التوازن بين قيمة الأموال المعتمدة والتكاليف ذات العلاقة. وبذلك يتحقق للدول حصولها على أفضل الصفقات وتجنب المخاطر والسيطرة على الفساد والإفساد الإداري والفني والسياسي. وفي حال غياب الشفافية والنظام الموحد، فإن ذلك سيقود إلى إساءة استخدام الأموال العامة وتحويلها الى جهات طفيلية من خلال فرض شركات محددة ومواصفات غير كفية وبالتالي أسعار عالية غير مبررة. هذه أهم الأهداف والأسباب والنتائج التي وردت في الوثائق التي وزعت في ورشة عمل اتفاقية الشراء الحكومية التي من الطبيعي أن تكون الولاياتالمتحدة عضواً فيها وداعية اليها. المشكلة في الأمر هنا هي ازدواجية تطبيق القوانين. والعراق خير مثال على خرق قواعد اتفاقية الشراء الحكومية ومعاييرها. من المعروف أن أكبر الآفات المصاحبة للمشتريات الحكومية انتشار الرشوة بين كبار السياسيين والإداريين أصحاب التأثير المباشر وغير المباشر. وتتجلى هذه الآفة بأوسع أبعادها في الكثير من البلدان النامية، خصوصاً بين النخب السياسية والمديرين التنفيذيين للمؤسسات والشركات الحكومية. وبلغت تلك الآفة من التنظيم بحيث أقيمت شركات وطنية وإقليمية ودولية متخصصة وغير متخصصة تعمل كغطاء أو وسيلة لإدامة شبكات ربط العلاقات بين السياسيين والمديرين التنفيذيين للمؤسسات الحكومية والشركات الأجنبية ذات العلاقة. ويلعب السياسيون دور الراعي للصفقات بما يوفرونه من معلومات وتأثير مباشر وغير مباشر. والصحافة العالمية مملوءة بفضائح العمولات الأموال القذرة وغسيل الأموال التهرب من المساءلة القانونية. وعالمنا العربي لا يختلف كثيراً. وما دار في العراق بعد احتلاله خير دليل على الفساد والإفساد الرسمي المنظم. فعلى مستوى الدول وعدت أميركا الدول المشاركة في الغزو بمنح شركاتها الوطنية عقوداً مجزية في عمليات ما يسمى إعادة الإعمار وفي النفط مستقبلاً مكافأة على دعمها السياسي واللوجستي. وكصفاقة احتلالها بدأت بنفسها أولاً اذ منحت شركة "بكتل" الأميركية عقداً بقيمة 680 مليون دولار لإعادة بناء الكهرباء والماء والمجاري التي لم تعمل أي واحدة منها حتى اليوم في الحد الأدنى الذي كانت عليه قبل الغزو. وأعقب ذلك عقد آخر لشركة "هاليبرتون" الأميركية لإصلاح البنية التحتية النفطية للعراق وكذلك لبقية دول الاحتلال الأخرى، خصوصاً بريطانيا الحليف الرئيس. بعد ذلك أصدر الحاكم المدني الأميركي بول بريمر قانون الشركات وإجراءات وتعليمات تهدف إلى تثبيت حقوق الشركات الأجنبية الأميركية على وجه الخصوص ومساواتها بالوطنية ووضع شروط مالية وفنية وتنظيمية تعجيزية أدت إلى إقصاء غالبية الشركات المحلية من المساهمة في المناقصات الكبيرة المعلنة. ولم تستفد من تلك الشركات المحلية العراقية سوى المملوكة منها لراعٍ أميركي أو بريطاني أو اسباني أو إيطالي أو "منسق" لسياسي معارض وافد جديد أو رجل أعمال يشتغل غطاء لحساب جهة سياسية معينة أو وزير في الحكم. وأدت تلك الممارسات إلى توسع دائرة الفساد أكثر من ذي قبل، كما يتضح من سلسلة التحقيقات في لجان مجلسي النواب والشيوخ المستمرة منذ شهور والتي يتضح انه لا نهاية لها. * كاتب اقتصادي