ان نتذكر اليوم ابراهيم اليازجي 1847-1906 صاحب المِنن على اللغة العربية، بمناسبة مرور قرن على رحيله، يعني ان نذكّر الناس بفضل هذا الرائد من كبار رواد النهضة الذي كان متشعب المواهب فنال شهرة واسعة كلغوي أسهم في خدمة اللغة العربية وإحيائها وضبط قواعدها ووضع المفردات والمصطلحات العلمية الجديدة. والى ذلك هو كاتب وصحافي له أسلوبه المتين، ومعلّم ومترجم وشاعر وناقد أدبي، وصاحب آراء جريئة في النقد وافكار تقدمية ونهضوية، وداعية الى التطوّر والتقدّم والتعلّم والرقي والاصلاح والتنوير. دعا العرب منذ قرن وثلث القرن ليستفيقوا وينهضوا ويواكبوا العصر فكان من أبرز رواد النهضة في المشرق العربي. وهو القائل في مطلع قصيدته البائية الشهرة:"تنبهوا واستفيقوا ايها العرب / فقد طمى الخطب حتى غاصت الركبُ". واليازجي الذي ولد سنة 1847 ينتمي الى عائلة اشتهرت بما قدمته من مآثر في حقول: اللغة والأدب والصحافة والشعر، فوالده ناصيف اليازجي 1800-1871 كان شاعراً وكذلك شقيقه خليل اليازجي وشقيقته وردة اليازجي. مارس اليازجي الصحافة باكراً في حياته بدأ يكتب في مجلة"الجنان"لبطرس البستاني، ومجلة"النجاح"، وفي جريدة"التقدم"، وتولى تحرير مجلة"المصباح". ثم أنشأ مع الدكتورين بشارة زلزل وخليل سعادة مجلة"الطبيب". ولما اشتدت رقابة السلطنة العثمانية على الصحافة وحرية التعبير رحل الى مصر حيث اصدر بالاشتراك مع الدكتور بشارة زلزل مجلة"البيان"1897، التي لم تستمر اكثر من عام، فأصدر بمفرده مجلة"الضياء"الشهيرة سنة 1898 التي عاشت الى حين وفاته في سنة 1906 فصدر منها ثمانية مجلدات. مارس الصحافة على انها رسالة غايتها خدمة الأمة وليس جني الأرباح وتحقيق الأهداف الشخصية والدعائية. وكان ينظر الى الصحافة على انها مدرسة للأخلاق بين الناس ودورها في توجيه المجتمع ورصّ صفوف المواطنين وردع صاحب السلطة على التمادي في الظلم. كما ان له الفضل في رفع شأن اللغة العربية حيث كتب سلسلة مقالات تحت عنوان"لغة الجرائد"ينتقد فيها اللغة الركيكة التي يكتب بها البعض المليئة بالأخطاء. واما في حقل اللغة فمن المعروف عنه انه كان لغوياً متمكناً من العربية وانه أسدى اليها خدمات جُلّى. ومن المؤلفات التي صنفها في هذا الموضوع"نجعة الرائد في المترادف والمتوارد"وپ"الفرائد الحسان من قلائد اللسان". وهو معجم ضمّنه ما وضعه من اسماء وصفات المستحدثات العصرية. وپ"تنبيهات اليازجي على محيط المحيط للبستاني". وپ"مطالع السعد لمطالع الجوهر الفرد". وهو شرح على مختصر ابيه في الصرف والنحو. الى"العرف الطيّب في شرح ديوان أبي الطيّب"الذي كان قد بدأه والده الشيخ ناصيف، واختصار ارجوزة والده في النحو"نار القرى في شرح جوف الفرا"ومختصر كتابه"الجمانة في شرح الخزانة". وفوق ذلك كله ساهم اليازجي في وضع مصطلحات جديدة أغنى بها اللغة العربية. وهو يقول حول ذلك:"لا بدّ والحالة هذه من اختيار أقرب الالفاظ الى المعنى المقصود بحيث يصح نقلها اليه على أقل ما يمكن من التكلّف. وهذا لا بد لتحقيقه من ان يتولى البحث فيه اناس ثقات علماء اللغة الواقفين على سرّ وضعها واشتقاقها بحيث يكون لهم فيه الحكم الفصل الذي لا معقّب عليه". وهو كان من الاوائل الذين ادركوا اهمية اللغة في خدمة القومية. وكان لا يرى العجز في اللغة العربية، في نقل العلوم المستحدثة والمصطلحات الجديدة ومجاراة الفكر، بل في القيمين عليها فالعلّة فيهم وليست في اللغة. فقد استطاعت اللغة العربية في العصور السابقة ان تواكب الحضارة وتنقل العلوم والافكار وتحفظ التراث العربي وتراث الأمم الاخرى مترجماً اليها فلماذا تقصّر اليوم عن القيام بذلك؟ وهو كان يقول ما الفائدة ان يكون في العربية خمس - مئة لفظة للأسد وألف لفظة للسيف ومثلها للبعير وأربعة آلاف للداهية بينما لا نجد كلمات لما يحدث كل يوم من المخترعات العلمية والصناعية والمكتشفات الطبيعية والكيماوية والفنون العقلية؟! كل ذلك يدل على حرصه على اللغة العربية ودعوته الى تعلمها واتقانها بدلاً من اتقان اللغات الاجنبية لأن ذلك يسيء الى اللغة العربية ويضرّ بالقومية العربية. فلا يجب ان يكون اتقان اللغات الاجنبية على حساب اللغة العربية. وهو خدم اللغة العربية لدى ممارسته التعليم فترة من الزمن، فقد درّس في المدرسة الوطنية التي اسسها بطرس البستاني في بيروت سنة 1863 ثم في المدرسة البطريركية وقد كان من بين تلامذته الشاعر خليل مطران الذي حفظ فضل استاذه عليه فنظم في رثائه ثلاث قصائد الاولى يوم وفاته ومطلعها: ربَّ البيانِ وسيّد القلمِ / وفّيت قِسطكَ للعُلى فنمِ". والثانية قالها بمناسبة نقل رفات اليازجي من مصر الى لبنان سنة 1913 ومطلعها: أحَننْتَ من شوقٍ الى لبنانِ / وارحمتا لك من رميمٍ عانِ". والثالثة أنشدها في الحفل الكبير الذي اقيم لازاحة الستار عن تمثال اليازجي في بيروت سنة 1924 ومطلعها:"عُد لابساً ثوب الخلودِ وعلّمِ / بفم المثال الصامت المتكلّمِ". فيكون قد عطف على قوله مستخدماً فعل الامر في قافية مطلع القصيدة الاولى"فَنَمِ"بفعل أمر هو"عُدْ". ويمكن ان نضع مكان"عُدْ""قُمْ"ليكون الطباق بين"نمْ"وپ"قمْ". ولكن هيهات للميت ان يقوم او ان يعود. اليازجي شاعراً لليازجي ديوان شعر هو"العِقد"ويشتمل على 92 صفحة 88. منها بخط يده الجميل نشره بعد وفاته ابن شقيقه حبيب اليازجي. وشعره بمجمله تقليدي يتناول المواضيع المألوفة في زمانه من رثاء ومديح وتهنئة بقران او نيل وسام او بعيد ميلاد وما الى ذلك. وقد نظم في التشطير والتأريخ وفقاً لحساب الجُمَّلْ والتقريظ فكيف نطلب منه في مثل هذه الحالة ان ينظم شعراً ذا قيمة فنية وكيف يمكن ان ينتج عن ذلك شعر فيه إحساس وفيه شعور وله رونق؟! ولكن الناقد يجد في ديوانه"العقد"اربع قصائد ذات شهرة وواحدة"ميميّة"ليست منشورة في ديوانه وردت في"أعمال الجمعية العلمية السورية"نظمها سنة 1868 ومطلعها: "سلام ايها العرب الكرام/ وجاد ربوع قطركم الغمام" وقصيدته"البائية"الشهيرة التي تعتبر أول قصيدة في القومية العربية يدعو فيها العرب الى اليقظة والنهوض والتي مطلعها: "تنبهوا واستفيقوا ايها العرب/ فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب". وله السينية التي مطلعها: "دع مجلس الغيد الأوانس/ وهوى لواحظها النواعس"، والتي يهاجم فيها رجال الدين والحكام الفاسدين. وله"الرائية"التي يحث فيها الأمة العربية على النهوض فيقول في مطلعها:"بني أمي افيقوا من سُبات/ لطول زمان سئم السرير". ولليازجي ابيات يوفق في نظمها كمثل قوله ليكتب على آلة العود وهو كان يجيد العزف: "وعودٍ صفا الندمانُ قِدماً بظله/ وما برحت تصفو اليه المجالس"/ تعشّقه طير الاراكة اخضراً/ وحنّ اليه ريشه وهو يابس" اليازجي ناقداً ادبياً لم يضع ابراهيم اليازجي كتاباً في النقد الادبي ملوءاً بالتنظيرات ولكنه تناول النقد في بعض كتاباته في مجلة"الضياء"حيث كان يعرض الى بعض الكتب والدواوين ويعلق عليها مظهراً رأيه من دون تملق أو محاباة. يقول:"ومعلوم ان الشعر من أعلى طبقات الكلام وابعدها غاية لما يقتضيه من شرف الالفاظ ونباهة المعاني وسلامة الذوق والمبالغة في التنقيح والتهذيب. فابتذاله على ألسنة غير أهله مما يزري به ويفسد رونقه ويسقط مزيته". فهو حريص على ان تكون للادب قيمته وللشعر حرمته فلا يتصدى أي كان الى ذلك ويدعي انه كاتب نحْرِير وشاعر كبير. فتنشر له الصحف والمجلات نتاجه الادبي الساقط هذا على انه ادب راق وابداع مميز وتقوم فوق ذلك بتقريظه ومدحه! وهو حريص كذلك على اللغة العربية ان تكون لساناً عربياً مبيناً وليس مجرد كلام ركيك يسخّر للمديح والتقريظ والاستجداء. وهو يقول في نقده لاحدى القصائد السخيفة: "كنا نطالب شعراءنا بالمعاني المخترعة والاساليب البليغة والعدول عن التراكيب الركيكة واللفظ المبتذل فصرنا نقنع من بعضهم بالكلام المعقول والتعبير المفهوم. وما كان يخطر لنا انا سنصير على عهد نرى الشعر فيه ضرباً من اللغو والخلط وسرداً لالفاظ لا معنى لها". وهو يلوم اصحاب الصحف والمجلات الذين ينشرون مثل هذا السخف على انه شعر ويكيلون المديح والتقريظ لناظمه رياءً وتملقاً فيقول: "نحث حملة الاقلام واصحاب الجرائد على الخصوص ان يقفوا سدًّا في طريق امثال هذه السفاسف الساقطة بل الفضائح الشائنة وان يبادروا لتدارك هذا الداء الوبيل قبل استحكامه. فقد كفى اللغة ما تسلّط عليها من دواعي الوهن والفساد... الى افساد ذوق الشعر وابتذاله بين المتطفلين عليه فضلاً عما فيه من رمي عامة الامة بالجهل اذا كان افاضلها والقابضون على ازمة الادب فيها يقبلون مثل هذا الكلام السخيف". ان اهم ما قدمه اليازجي في موضوع النقد هو شرحه لديوان ابي الطيب المتنبي بعنوان"العرف الطيب في شرح ديوان ابي الطيب"الذي بدأ به والده ثم اتمّه هو سنة 1887 ورفض ان ينسبه الى نفسه. وفي مقدمة وافية لشرح الديوان يرى ان المتنبي يغالي في الخيال والمجاز احياناً مما ادى الى فساد بعض شعره كما ادى الى الغموض والابهام. والى ذلك فهو يرى لو انه كان يعنى بتنقيح هذا الشعر لما كان سقط في التعقيد والتكلف. وعلى رغم هذه الشوائب التي يراها في بعض قصائد ابي الطيب ينصفه حيث يقول فيه: "وجملة القول ان شعر المتنبي، على ما في بعضه من التكلف والتعقيد، من ارصف الكلام تعبيراً واحكمه وضعاً واكثره طياً للمعاني تحت اثناء اللفظ حتى لا يكاد يرمي بلفظة الا وفيها إلماع الى غرض مخصوص وتمثيل لوجه من المعاني فهو بالمتون العلمية اشبه منه بالعبارات الشعرية". وهو مثال الناقد المتجرد الذي لا يحابى يقول رأيه بجرأة فهو لا يرى ان النقد اطراء وتقريظ وكيل المديح من دون حساب. لليازجي فضل السبق في النقد الحديث فهوسبق"غربال"ميخائيل نعيمة باكثر من ربع قرن.